الحردلو صائد الجمال (10) الدلكة والكركار..والقرمصيص ماج ورقّا..!
تاريخ النشر: 8th, May 2024 GMT
من مهاوي هذا الألم ينفث صلاح احمد إبراهيم شجنه:
وأخذت أغني في شجوٍ..ألمي الظاهر
يا طير الهجرة يا طائر
يا طيراً وجهته بلادي
خذني بالله أنا والله على أهبة
قصّت أقدارٌ أجنحتي
وأنا في زاويةٍ أتوسّد أمتعتي
ينحسر الظل..فأمضي للظل الآخر
لكن الطير مضى عني..
لم يفهم ما كنت أغني
التغني بحُسن (وفادة الطير)..والنسائم الحلوة من التعبيرات الشائعة في الشعر السوداني خاصة في الشعر الغنائي.
بالله يا طير
قبلما تشرب تمُر على بيت صغير
من بابو..من شباكو.. يلمع ألف نور
تلقى الحبيبه بتشتغل منديل حرير
لحبيب بعيد..
أقيف لديها...
وبوس يديها..
وانقل إليها..وفايا ليها..
وحبي الأكيد..!
**
أما حالة الشاعر محمد المهدي المجذوب فيبدو أنها (مزمنة) ومستعصية..!! إنه مصاب بحنين إلى درجة الإدمان..!
أعراض هذا الحنين الحزين بدأت معه منذ مرحلة طفولته الباكرة وواجبات (الخلوة) القاسية..ولم يمنحه انتقاله للخرطوم المدينة كثير عزاء لتسكين روحه القلقة، حيث شعر بالغربة في بيئته الجديدة حتى حنّ للعودة إلى قريته في الشمال البعيد..! وهو يسترجع ذكريات وصور حفلات الأعراس ومظهر (السيرة) إلى ضفة النيل:
البنيات في ضرام الدلاليك تستّرن فتنة وانبهارا
من عيون تلفّت الكحل فيهن وأصغى هنيهةً ثم طارا
**
نحن جئنا إليك يا أمها الليلة بالزين والعديل المنقى
نحن جئناك حاملين جريد النخل فألاً على اخضرارٍ ورزقا
**
العذارى ألوانهن الرقيقات نبات الظلال شفّ وحارا
رأمته الخدور ينتظر الموسم حتى يشع نوراً ونارا
ينبري الطبل ينفض الهرج الفينان طيراً تفرّقاً واشتجارا
موكب من مواكب الفرح المُختال عصراً في شاطئ النيل سارا
(السيره مرقت عَصُر)..!
**
وتتواصل مسيرة الفرح الاحتفالي :
وتشيل البنات صفقاً مع الطبل ورمقاً من العيون ورشقا
وغزالٍ مشاغب أصلح الهِدم وأراني في غفلة الناس طوقا
**
تتصدى حمامة كشفت رأساً وزافت بصدرها مستطارا
شلخوها حتى تضئ فأضمرت حناناً لأمها واعتذارا
هي ست البنات بنت ابيها كرماً يحفظ الجوار وصدقا
وهوى عاشق وطار وأهوى بالسوط رعداً بمنكبيه وبرقا
واتاه العبير من خمل الشبّال حياه جهرةً لا سِرارا
موعدٌ لا لقاء فيه..وتاجوج تولّت عفافةً وانتصارا
ثم يتبدل هذا المزاج الاحتفالي إلى نزوع لإضمار الهرب من هذه المدينة الغريبة:
لهف نفسي على صباي الذي كان..وما فيه من لعاب العذارى
من عذيري من غربةٍ أخذت روحي وألقت عليّ وجهاً مُعاراً
**
آه من قريتي البريئة لا تعلم كم في (مدينة التُرك) أشقى
فندقٌ لا جوار فيه ولا أرحام تنهى.. ولا معارف تبقى
وطواني الدُجى ومصباحي عَميٌ في صخرة الليل يرقى
أشتهي الدلكة العميقة والكركار والقرمصيص ماج ورقّا
وبعيني قوافل النخل والنيل حداها تجئ وسقاً.. فوسقا
بردت جُرّتي وذا القرع المنقوش يسقي حلاوة النيل طلقا
**
يبحث المجذوب عن مهرب آخر..وهذه المرّة إلى جنوب السودان..عميقاً في إفريقيا :
وليتي في الزنوج ولي رباب
تميد به خطاي وتستقيم
واجترع المريسة في الحواني
واهذر لا أُلام ولا ألوم
واصرع في الطريق وفي عيوني
ضباب السُكر والطرب الغشوم
طليقٌ لا تقيدني قريشٌ
بأحساب الكرام ولا تميم..!
هي هكذا عند عادل بابكر:
I wish I were among the Negros
My steps swaying to the rhythm of my Rabab
Free to gulp Marisa in pups
Gobbling freely, to no one’s discontent
Even falling on the street
My eyes blurred by liquor,
lit up with outrageous rapture,
Unrestrained by ancestral nobility claim
of Qurayshis or Tamims..!
ثم يذهب المجذوب أبعد في طلبه هويةً مزدوجة (hybrid identity):
عندي من الزنج أعراقٌ معاندةٌ ..
وإن تشدّق في أشعاري العربُ
**
وبهذا المسعى يُنظر إلي المجذوب باعتباره مصدراً لإلهام جماعة الغابة والصحراء التي حاولت أن تختط طريقاً ثالثاً بين دُعاة العربية والإفريقانية في الثقافة السودانية. وعلى كل حال فإن الناقد (عبد القدوس الخاتم) يقول إن مقطوعات المجذوب الحميمة حول إفريقيا لم تصدر عنه في إطار البحث عن هوية؛ ولكن أكثر من ذلك تأتي تعبيراً عن حنين صادق إلى (براءة الإنسانية الباكرة)..!
وسمة شعر المجذوب البارزة التي يتقاسمها مع الحردلو وشعراء البادية بعامة - كما يرصدها عادل بابكر - هي الاستخدام الكثيف للمرجعيات الثقافية الشعبية..فالمجذوب تجد في قاموسه كما اتضح في المقطوعات أعلاه:
الدلوكة (a popular drum)
والدلكة (a home-made body massage dough)
والكركار (a home-made hair oil)
والقرمصيص (a silky female bed gown)
والمريسة (locally made sorghum wine)
وهلمجرا..!
هذه المفردات بالإضافة إلى سيرة العُرس على ضفاف النيل: هي من تقاليد وأعراف ترجع إلى عهد الممالك النوبية، ثم الاحتفال بالضرب بالسياط (البُطان) كجزء من طقوس الأعراس، وكذلك تعبيرات الأغاني الشعبية..كل ذلك يضيف مذاق وطعم ونكهة لهذا الشعر ويكسوه شخصية وهوية سودانية..!
يا أخوال البنات القِده عطشانه..
بتدور الرجال البحملو بطانا
البجري نسيبتو..
ومرتو طلقانه..!
سودانايل - مرتضى الغالي
murtadamore@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
قصة حرب السودان.. دماء في مجاري النيل
الخرطوم- قبل عامين من هذا التاريخ، وفي فجر 15 من أبريل/نيسان عام 2023، اندلعت الحرب التي لا يزال أوارها يصلي البلاد، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي كانت جزءً منه، وفي كل يوم تتكشف عن هذه الحرب قصص.
حين تلج مدينة الخرطوم -العاصمة السودانية- من جهة توأمها أم درمان، عبر الجسر الذي يربط بينهما، جسر النيل الأبيض، عابراً منطقة المقرن الراقدة عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض، يلف رأسك دوارُ الأهوال مما حدث.
هذه المنطقة، موئل الخضرة، ومدالق المياه، ومستروح الشعراء، وواجهة العاصمة بأبراجها العاليات، وبهرج أضوائها المشرقات، أضحت هشيماً، كأنّ زلزالاً ضربها على حين هجعة، فأحال ذلك الجمال الشاهق إلى أنقاض مهدمة وكتل مفحمة.
وحين تتوغل في أية اتجاهات الخرطوم من حيث هذا المدخل، تتلقاك الشواهد شاخصة على نهاية كل ما بناه السودانيون على مدى العقود، وتجد تحت كل حجر من هذه الأنقاض قصة، وتنفتح أمامك خيارات أن تروي للناس من هنا ومن هناك، ففي كل صوب قصة، هل تتجه إلى معارك المدرعات؟ أم الاحتياطي المركزي؟ أم المدينة الرياضية؟ أو تتجه إلى سلاح الإشارة؟ أو حتى معارك وجولات المقرن نفسه؟
وعند سؤال لماذا ظل السودان هو نفسه بذات السمة السيادية، ولم تنعرج به أقدار التاريخ لمحوه وإعادة رسمه من جديد؟ هنا تتراقص أمام عينيك قصة بيت الضيافة والحرس الرئاسي، وكيف صُدت أقدارٌ بأقدار، لو كتب لها التحقق لتغير وجه التاريخ في هذه البلاد.
إعلانوتعد معركة بيت الضيافة، مقر القائد العام للجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، قصة جديرة بالحكي، وربما بالأساطير التي حيكت حولها وفيها تطابق من جموح الخيال بصلابة الواقع.
دلالات المعركةيحكي الراوي الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، وهو الذي كان جزءً من القوة المسماة بـ "الحرس الرئاسي"، المنوط بها حماية الرئيس وبيته ومكتبه، والتصدي لكل مهددات أمنه كبيرة أم صغرت، إن القوى المقاتلة التي ينطوى عليها هذا التشكيل العسكري لا تتعدى 400 رجلا، أعدت نفسها بالممكن من العتاد والمعدات والأسلحة، التى زادت عن الشخصية بثلاث دبابات وعدد من العربات القتالية المدرعة.
وقد أعدت القوة نفسها للاحتمالات التي تجري بين عينيها، من تحشيدات وتموضعات لقوات الدعم السريع، بما أسماه المتحدث "دلالات المعركة" بلغة الاستخبارات العسكرية، فقد كان الدعم السريع يحتل مواقع عالية الأهمية الاستراتيجية في العاصمة والأقاليم، وقد أصبحت خارج السيطرة، بل كان سعيه حثيثاً وشيكاً، فقد حاز بين يديه كل الممكن للسيطرة على البلاد.
"بيت الضيافة" هو مجمع يحتوي منزل الرئيس ومكاتبه، ومباني لمهمات متعلقة بمختلف خدماته، وكانت هذه المساحة الواقعة في الجزء الجنوبي من القيادة العامة للجيش، المحاذي لها جنوباً مباني جهاز المخابرات العامة، والمطلة شرقاً على القاعدة الجوية، مسرحاً لأهم معارك هذه الحرب، وخاصة في يومها الأول، إذ أنها كانت الهدف الأول للدعم السريع، التي بإسقاطها تتداعى بقية البلاد باعتبارها موقع رأس الدولة، أو هكذا جرت الروايات والتحليلات.
كان على الحرس الرئاسي بقوام 400 مقاتل و3 دبابات وعدد من العربات المدرعة، أن يواجه أكثر من 200 سيارة مقاتلة مجهزة بأسلحة فتاكة من قبيل الرباعيات والثنائيات، حيث تقل السيارة الواحدة حوالى 7 من المقاتلين، بينما تحيط هذه القوة بالقيادة العامة بما فيها منزل الرئيس.
إعلانيقول المتحدث "ظل القادة طوال ليل الجمعة الذي سبق فجر اندلاع الحرب يراقبون المشهد، بما توصله الكاميرات إلى غرفة التحكم، كانت قوات الدعم السريع قد تموضعت في مواقع تحيط بالقيادة العامة من كل الاتجاهات".
موضحا أنه من الجهة الجنوبية كانت قوات خاصة من الدعم السريع تستقر في مبنى المؤتمر الوطني غربي المطار، وهو لا يبتعد عن بيت الضيافة أكثر من كيلو متر واحد، كما أن هناك قاعدة عسكرية للدعم السريع في المباني المجاورة، فيها منزل قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، والمكان هو حي المطار الذي يقطنه كبار موظفي الدولة.
تحول المكان إلى ثكنة عسكرية تتبع قوات الدعم السريع، وتتمركز قواتها المدفعية بالقرب من القاعدة الجوية شرقي بيت الضيافة، ومن وراء كل ذلك القوات الخاصة في حي الصفا شرقي المطار، وقد أظهر الرصد الإلكتروني وضعها في حالة استعداد وأسلحتها الرباعية موجهة صوب القيادة العامة، وهي القوة التي أنيط بها حماية مطار الخرطوم قبل الحرب.
أتم الدعم السريع تجهيز معدتا حفر، وضعت إحداها في القاعدة الجوية، والأخرى عند السور الذي يربط بين حواف بيتي القائد العام للجيش السوداني البرهان وقائد قوات الدعم السريع دقلو، والهدف هو تحطيم الأسوار بين هذه المنازل والمقرات لتقصير مسافة الاقتحام دون عناء الالتفاف لمسافات أطول.
يقول المتحدث الذي كانت تجري الأحداث أمام ناظريه "في تمام الساعة 9 إلا عشر دقائق من صباح السبت، 15 من أبريل/نيسان 2023، انطلقت الطلقة الأولى في منطقة المدينة الرياضية جنوبي الخرطوم، وسرعان ما انتقلت الاشتباكات إلى البوابات والمداخل المحيطة بالقيادة العامة، بما فيها بوابة بيت الضيافة.
حينها، وفي تمام الساعة التاسعة وعشر دقائق، أُبلغ الرئيس البرهان باندلاع الحرب، وأنّ القتال يدور عند بوابة بيته، بالتحام من المسافة صفر بين قوات حرس الرئاسة والمهاجمين من قوات الدعم السريع.
إعلانتحركت يومها قوات الدعم السريع من موقع المؤتمر الوطني، للسيطرة على موقع جهاز الأمن والمخابرات الواقع في الجوار الجنوبي لبيت الضيافة، لكن دبابات الحرس الرئاسي صدت رتلاً من العربات القتالية كانت قد اندفعت باتجاه بيت القائد العام، ودمرت رتلا آخر كان خارجاً من منزل حميدتي.
وانتهى اليوم الأول للحرب بصد الحرس الرئاسي كل الهجمات التي تلقاها من جهتي الشرق والجنوب، ولكن الثمن كان استشهاد 11 عنصراً من قوات الحرس الرئاسي، وخسارة دبابة ومدرعتين إثر تعرضهما لقصف بمدفع كورنيت من قوات الدعم السريع.
مسار الحرببدأت معركة اليوم الثاني عند مشرق شمسه، وقد لاحظ القادة عبر دائرة المراقبة الإلكترونية أنّ قناصة الدعم السريع قد اتخذوا مواقعهم في برج قيادتهم غربي القيادة العامة، وسرعان ما صدرت التعليمات بتدمير البرج، فعاجلته دبابة بزخات من القذائف، فدمرت البرج مع تركيزها على الطابق الرابع، حيث منظومة الاتصالات الخاصة بالدعم السريع (DMR).
ردت قوات الدعم السريع بتكثيف هجماتها من ثلاث جهات، من جهة الجنوب حيث سيطرت في الساعات الأولى لاندلاع الحرب على مقرات جهاز المخابرات واتخذت منها مرتكزاً قريباً، ومن جهة الغرب باستهداف مكثف للبوابة الرئيسية الغربية لبيت الضيافة، ومن جهة الشرق. وركزت ضرباتها على القيادة العامة، وبتركيز أخص على مقر الرئيس.
وفي هذا اليوم، تمت عملية خاصة لتعزيز قدرات الحرس الرئاسي وغيره من القوة الموجودة بالقيادة، فقد استطاع العقيد أبو بكر السِّريو دخول الخرطوم عبر جسر النيل الأزرق، الفاتح على القيادة العامة من جهة الشمال.
"وبالرغم من قلة عدد القوة، إلا أنها كانت ذات أهمية كبيرة في ذلك الظرف، إذ أنها من قوات المهام الخاصة" حسب ما يقول المتحدث، مضيفا "وظلت القوات المدافعة عن القيادة العامة وبيت الرئيس تصد الهجمات التي كانت تتدفق موجة إثر موجة".
إعلانفي اليوم الثالث، استطاعت قوة من الدعم السريع بقيادة القائد الثاني لقوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو السيطرة على مبنى القوات البرية عند المدخل الغربي للقيادة العامة، وباشرت نصب قناصاتها، إلا أن ضابطاً نبيهاً قاد الدبابة الوحيدة المتبقية لدى الحرس الرئاسي بعد تدمير الأولى وتعطل الثانية، واستطاع هذا الضابط -وبإسناد من قوات مشاة بأسلحة الهاون- تشتيت القوة المهاجمة، قبل أن يستقر في مبنى القوات البرية.
توالى الهجوم على القيادة العامة، بما فيها بيت الرئيس وهو بداخله برفقة نائبه الفريق شمس الدين كباشي، على مدى سبعة أيام، بهدف السيطرة عليها، ولمّا خابت هذه الهجمات تحولت إلى حصار بالمدفعية، دام لما يقارب العامين، وبداخل القيادة الآلاف من الجنود والقادة، بما فيهم هيئة القيادة التي كانت تدير الحرب في البلاد من بين ثغرات الحصار.
خسر الجيش السوداني داخل أسوار القيادة آلاف الشهداء، لكنها لم تسقط، حتى استطاع الجيش فك الحصار عنها في 24 من يناير/كانون الثاني الماضي.
وبفك حصار القيادة، تداعت انهيارات قوات الدعم السريع، إلى أن استكمل الجيش استرداد ولاية الخرطوم كاملة، عدا بعض الجيوب في غرب وجنوب مدينة أم درمان.
لا تستمد قصة معارك القيادة العامة وخاصة بيت الضيافة أهميتها لكونها الأعنف، في مسار حرب تجاوزت معدلات عنفها كل تجربة وخبرة خاصة بالسودان، بل للأهداف الاستراتيجية والسياسية التي ارتبطت بها، إذ كان يعني سقوطها قتل رئيس البلاد أو أسره، وهو ما كان سيقود حتماً إلى استكمال مهمة تقويض النظام الدستوري، مهما كان الجدل حول مشروعيته، وإن كان قد كتب لهذا الهدف وقتها التحقق لتغير مجرى التاريخ، ولأصبح السودان اليوم كياناً أو كيانات غير التي نراها.