أحمد عثمان حمري والمحطات النمر: كان للمحطة سماء
تاريخ النشر: 8th, May 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
(نقلت أخبار أمس رحيل الزميل المعلم أحمد عثمان حمري. وكنت قبل سماع وفاته أراجع كلمة نقلت فيها عن سيرته معلومة ما. وهي سيرة نشرها في جريدة "الأيام" في عام 1987. وهي متعة محض أخذتني عني فكتبت كلمة عنها نشرتها في بابي "ومع ذلك" في جريدة الخرطوم في نفس العام. وعرضت فيها للجزء الخاص بطفولته في محطة نمرة للسكة الحديد فيما بين أبو حمد وحلفا التي كان والده ناظراً على محطتها الموحشة.
قضيت شطراً من أيام الظل، وهي عبارة للشاعر المرحوم الجيلي عبد الرحمن في عهد الطفولة، بمدينة أبو حمد التي كان والدي ناظراً لمحطة السكة الحديد فيها بين 1949-1952. وأبو حمد هي المحطة التي يبدأ منها العد التنازلي للمحطات النمر: من نمرة عشرة إلى نمرة واحد قبل محطة حلفا. وبين بعض المحطات سندات نمرية أخرى.
الأصل في محطة السكة الحديد خدمة المنطقة من حولها ركاباً وعفشاً وخدمة الخط الحديدي نفسه لصيانته، وإدارة حركة القطارات. ولوقوع المحطات النمر في وحشة العتمور الصحراوي، لا ناس ولا بضاعة، فقد انحصرت مهمتها في شقاء وحيد تليد هو خدمة الخط الحديدي نفسه وقطاراته. وهي شبيهة بأمر السياسة عندنا منذ حين: فالسياسة تخدم خط السياسيين الحديدي. والمحطات النمر في أمرها قريبة مما قاله ماركس في النقود بين السلع. فالنقود سلعة، ولكنها سلعة تجردت من كل نفع مباشر حسي (أنت لا تأكلها مثلاً). وأصبحت خادمة متجردة لخدمة السلع الأخرى في دورانها بين الباعة والمشترين. ومفهوم ماركس عن النقود، الذي وصفها فيه بأنها FETISH وترجمناه في العربية إلى "شيئية"، يحظى بقبول جدي على عهدنا هذا في دوائر أهل العلم. فالـ Fetish. آلة من آلات الساحر. وقد يكون عوداً أو ريشة طائر أو غيره، ولكنه في عملية السحر يكتسب حضوراً شفيفاً صميماً مستقلاً عن أصله ومعناه وغرضه.
والمحطات النمر "شيئيات". وعن وحشتها كان يؤانسني أخي المرحوم عبد الله أفندي محي الدين الحسن، من حجراب بار جلاس بالشمالية. فقد كان يعمل برئاسة هندسة السكة الحديد بعطبرة، ورمزها "بلنجه" في شفرة تلغرافات السكة الحديد، التي يقع أكثر عمل النمر تحت إدارتها. فقد روى يوماً طُرفة من طرفه الكثيرة عن النمر حين ذكر أن إدارة الهندسة بعثت إلى عمال الدريسة على طول الخطوط تحذرهم من الاشتراك في إضراب نقابي وصفته الإدارة بأنه غير مشروع على أيام نظام الفريق عبود. وطلبت الإدارة من حكمدارات الدريسة الإفادة بالعلم. وفعلوا ما عدا حكمدار نمرة ثلاثة الذي كان رده "إلى بلنجه، عطبرة: أنا وعمالي مضربون" وهذه حملة حكمدار نمرة ثلاثة الانتقامية. وحكى لي المرحوم عبد الله عن حكمدار الدريسة الذي طلب النقل من إحدى النمر لأن بناته قد بلغن سن الزواج ويخشى عليهن من العنوسة في النمر التي هي بلا سكان أصلاً. وآمل أن تحتفظ "بلنجه" عطبرة بأرشيف النمر هذا لباحث مستقبلي يشق باب هذه الوحشة الضريرة يوماً.
ومن أبرع رواة حياة النمر الشاعر الرباطابي الهجاء الظريف، إبراهيم الدقاق، من ذرية ود الكليباوي الشاعر الرباطابي المطبوع. وإبراهيم الدقاق عامل دريسة قضى شطراً من حياته في نمر النمر من مثل 45 التي تقع بين نمرة خمسة وأربعة. وحكى لي
يوماً بمدينة أبو حمد عن سعادته الشاعرية يوم حطت "رخمة" بتلك المحطة المجهولة فانشرحت نفسه حتى لبغاث الطير.
ومع ذلك فإن الأستاذ المعلم أحمد عثمان حمري، الذي قضى طرفاً من طفولته بنمرة خمسة مع والده ناظر المحطة خلال آخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينات، فهو مؤرخ النمر بلا منازع. أعدت قراءة ما كتبه حمري عن النمر وانغرست وحشتها في خاطري. وكان حمري قد نشر طرفاً من ذكريات طفولته وشبابه في النمر وغير النمر بجريدة "الأيام" خلال عام 1987. وهي يوميات تستحق أن تنشر على الملأ لعذوبتها، ولولائها لجيل سوداني من الآباء اقتحم الشدة والحداثة من غير تدريب غير الصبر وغريزة الأبوة. فقد جاء زمن في الحداثة قريب رأينا مفهوم الشدة يتعاوره أهل العلم والخبرة والدرجة الرفيعة حتى شمل كل السودان ما عدا عاصمة الخير والزبائن.
وأنقل أدناه مقتطفات مما كتبه الأستاذ حمري عن نمرة خمسـة بتاريخ 12 و24 أبريل 1987:
كانت محطة نمرة خمسة محطة ليست لها هوية وليس فيها مقابر. مجرد رقم كأرقام المساجين. ما كان حول محطة نمرة خمسة مما تنبت الأرض شيء غير جذع شجرة قريب منها خط الأفق وشرابها السراب اللماع. كانت جذعاً بلا فروع ولا ورق. فكأنها عمود النوريق (المحراث). ولكم حججنا إلى تلك الشجرة. كنا نسميها شجرة لأنها لم تكن جذعاً ميتاً. كانت صامدة وبماذا نسميها وليس غيرها شجرة. على الجذع حروف محفورة بأسماء الحجاج. وكأن الحروف آثار جراح لمحارب قديم. واحتراماً للشجرة لم يحاول أحد قطع الجذع رغم الحاجة إلى الوقود.
ولا أذكر أنواع اللعب التي كنت ألعبها مع أخواتي أو مع نفسي. ولكن قطعاً لم نكن نلعب بالطين. كان اللعب بالطين شيئاً عزيزاً. كان حُلماً. لم يكن هناك طين. كانت الرمال تمتد إلى حد البصر.
قريتنا (نمرة خمسة) كانت تتكون من ثلاثة أحياء: حي المحطة، وحي الحكمدار، وحي الدرَّاسة. وكانت الدرَّاسة من الرباطاب والمناصير. وفي هذا الحي كنا أنا وأخواني الصغار نقضي أكثر أمسياتنا. وكان عندي شرك من حديد أصطاد به الفئران في ذلك الحي لأنه لم يكن في المحطة طيور.
كان للمحطة سماء. وفي مرة ساقت إلينا السماء طائرًا جاء مهاجرًا. كان طائرًا صغيرًا. ولكنه كان قوياً. جاء مهاجرًا من مكان بعيد، أبعد من البحر الأبيض المتوسط.
يا له من طائر. كان في لون ريشه بياض وزرقة. وله منقار كمنقار الصقر. هل أودت بالسرب عاصفة وبقي هذا الطائر وحده؟ أم ترى فاته السرب؟ لست أدري. ولكنه جاء مثل السيف وحده. جاء يستريح في محطتنا. ولعله كان يطمع في زاد يتزود به لرحلة طويلة. ومثل ضيف هدندوي حط رحله بعيداً تحت ظل السيمافور (الذي عليه مدار حركة القطارات). وكان ظل السيمافور قصيرًا. وفي الظل القصير نصبت للطائر الشرك. (ووقع الطائر المهاجر في الشرك).
وكان قطار الاكسبريس (إلى حلفا) نافذتنا إلى العالم. كان هو الراديو والسينما والجريدة والمدرسة. وأهم من ذلك كنا نرى الأطفال. نرى وجوههم الصغيرة تطل من نوافذ القطار. وفي العربات الخلفية كان الأطفال مثلنا. ولكن أطفال العربات الأمامية كانوا كالدمى. كنا نحس بأنهم ليسوا مثلنا. ويمضي القطار ونتبعه بعيوننا حتى يختفي. ويبقى مكتب المحطة، وبيتنا، وبيت الحكمدار، وبيت الدرَّاسة، والأفق البعيد. انتهى.
قال الشيخ فرح ود تكتوك: "حمامة قبل الملامة" في تحبيب الزواج والحث عليه. ورغم ما في العبارة مما لا يعجب عتاة النسويات والنسويين، إلا أنني أبني عليها في تحبيب نشر كتاب حمري (إذا لم يكن قد نشر بعد) والحث على ذلك: "كتاب قبل العذاب وحكاية قبل النهاية".
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
IbrahimA@missouri.edu
//////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السکة الحدید طائر ا
إقرأ أيضاً:
أحمد بهي الدين: التحديات التي يشهدها قطاع النشر تتطلب جهدًا مشتركًا من جميع المعنيين
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
استضافت قاعة الصالون الثقافي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، اليوم، ثاني مؤتمرات الدورة الـ56 للمعرض، تحت عنوان "مستقبل الملكية الفكرية.. التشريعات.. التحديات.. الفرص"، وأدارت الجلسة الافتتاحية الإعلامية هدى عبد العزيز.
وفي بداية الجلسة، تحدث الدكتور أحمد بهي الدين، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، مشيراً إلى أن معرض الكتاب يحتفي بالملكية الفكرية بالتعاون مع الاتحاد الدولي للناشرين وبالشراكة مع الدكتور هشام عزمي، رئيس الجهاز المصري للملكية الفكرية.
وأوضح بهي الدين أن هذا المؤتمر يهدف إلى التعرف على مستقبل الملكية الفكرية في ظل تطور الذكاء الاصطناعي، ودراسة كيفية تأثير هذا المستقبل على صناعة النشر، مؤكدًا أن التحديات التي يشهدها القطاع تتطلب جهداً مشتركاً من جميع المعنيين بمجال النشر لتقديم حلول فعّالة.
وأضاف رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب أن المعرض يسعى لأن يكون منبرًا لقراءة المستقبل، مؤكداً على أهمية التعاون مع كافة المؤسسات المعنية بالنشر ودعوة جميع الناشرين للمشاركة في صنع المستقبل.
كما عبّر عن أمله أن تثمر مداولات المؤتمر عن نتائج تسهم في تعزيز صناعة النشر على مستوى العالم.
من جانبه، أعرب خوسيه بورغينيو، أمين عام الاتحاد الدولي للناشرين، عن شكره للدكتور أحمد بهي الدين على دعوته لحضور هذا المؤتمر الهام الذي يعد جزءاً من معرض القاهرة الدولي للكتاب.
وأوضح بورغينيو أن الاتحاد الدولي للناشرين تأسس في عام 1996 في جنيف، ويضم اتحادات الناشرين من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك اتحاد الناشرين المصريين والعرب، بالإضافة إلى 11 اتحاداً آخر من دول عربية.
وتابع “بورغينيو”: “أحد الأهداف الرئيسية للاتحاد هو حماية حقوق الملكية الفكرية وحرية النشر. ويعمل الاتحاد على تمثيل جميع اتحادات الناشرين في المحافل الدولية، خاصة فيما يتعلق بالحقوق الاقتصادية”.
كما أشار إلى التعاون القوي مع المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو)، والتي تضم 193 دولة معنية بحقوق الملكية الفكرية، مؤكداً أن هناك العديد من الاتفاقيات الموقعة مع مؤسسات النشر و"الويبو" لحماية حقوق الملكية الفكرية.
وفي حديثه عن التحديات في المنطقة، أشار بورغينيو إلى أن دول أفريقيا وآسيا تواجه مشاكل في تطبيق قوانين الملكية الفكرية بشكل كافٍ بسبب قضايا تعليمية واستثناءات قانونية في هذه المناطق.
وأكد أن الاتحاد الدولي للناشرين يعمل مع الحكومات والسياسيين لحماية حقوق الناشرين وضمان احترام قوانين الملكية الفكرية، مشدداً على أن هناك صراعًا مستمرًا في هذا المجال.
كما أضاف أن هناك اهتمامًا خاصًا بالقوانين الخاصة بالملكية الفكرية في الدول النامية، موضحاً أهمية حماية المكتبات والمراكز البحثية.
وأشار إلى أن التحدي الأكبر الذي يواجه الناشرين حالياً هو مشكلة القرصنة سواء الورقية أو الإلكترونية، وأن الاتحاد الدولي للناشرين يعمل على التعاون مع اتحاد الناشرين العرب لمناقشة التحديات المتعلقة بهذه القوانين.
وتابع بورغينيو: "في مصر، هناك اهتمام كبير بقوانين الملكية الفكرية، ونحن نعمل على التشاور مع المسؤولين في هذا المجال لضمان حماية هذه الحقوق."