بينما يعاني العالم حاليا من تفاقم "الاحتباس الحراري" وما يترتب عليه من مناخ متطرف غير مسبوق، نجحت دراسة سويدية في حل لغز آلية كيميائية طبيعية تمنع التحلل السريع للمواد العضوية في الأنهار والبحيرات، وقالت إن وجودها منع تفاقم المشكلة التي يكافح العالم كي تظل في النطاق الذي يمكن معه الحياة على كوكب الأرض.

وعندما تتحلل المواد العضوية فإنها تخضع لعمليات كيميائية حيوية تُفكك خلالها الكائناتُ الحية الدقيقة مركباتها العضوية، وأثناء التحلل تتفكك المادة العضوية إلى جزيئات أبسط مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، بالإضافة إلى منتجات ثانوية أخرى. ولا تحدث هذه الآلية المعروفة للتحلل بشكل سريع في الأنهار والبحيرات.

وانشغل المجتمع العلمي لأكثر من 50 عاما بمحاولة حل هذا  اللغز، إلى أن أعلن الباحثون من جامعة  لينكوبينغ بالسويد في دراسة منشورة بدورية "نيتشر" عن نجاحهم في حله.

بداية قصة التحلل

ويسرد عالم الكيمياء التحليلية بجامعة لينكوبينغ "نوربرت هيرتكورن" قصة التحلل وصولا إلى اللغز الذي نجحوا في حله. يقول هيرتكورن في بيان نشره موقع الجامعة: "دعونا نأخذ الأمر من البداية، فعلى سبيل المثال عندما تنفصل ورقة عن شجرة وتسقط على الأرض فإنها تبدأ في الانهيار على الفور، وقبل أن تتحلل الورقة فإنها تتكون من بضعة آلاف من الجزيئات الحيوية المتميزة".

ويتابع أن "الورقة تتحلل على عدة مراحل، إذ تبدأ الحشرات والكائنات الحية الدقيقة في استهلاكها، بينما تؤثر أشعة الشمس والرطوبة فيها مما يسبب المزيد من التحلل، وفي نهاية المطاف تصل الجزيئات المتحللة إلى الأنهار والبحيرات والمحيطات".

ويضيف أنه "في هذه المرحلة تكون آلاف الجزيئات الحيوية المعروفة تحولت إلى ملايين من الجزيئات ذات المظهر المختلف تماما والهياكل المعقدة وغير المعروفة عادة، وظلت هذه العملية للتحول الكيميائي الدراماتيكي تمثل لغزا حيّر الباحثين لأكثر من نصف قرن حتى الآن".

ويستدرك هيرتكورن بالقول: "لكن الآن يمكننا توضيح كيف يمكن لبضعة آلاف من الجزيئات أن تؤدي إلى ظهور ملايين من الجزيئات المختلفة التي تصبح بسرعة شديدة المقاومة لمزيد من التدهور".

فهم الآليات الكامنة وراء تكوين المادة العضوية المستقرة في الأنهار والبحيرات والمحيطات يفيد في تطوير تقنيات عزل الكربون (شترستوك) السر في "إزالة الأرومات المؤكسدة "

واكتشف الباحثون أن نوعا معينا من التفاعل يُعرف باسم "إزالة الأرومات المؤكسدة" وراء اللغز، وهذا التفاعل عملية كيميائية يخضع فيها المركب العطري للأكسدة ليفقد رائحته العطرية ويشكل منتجات غير عطرية، وتتضمن هذه العملية غالبا إدخال الأكسجين إلى الحلقة العطرية، مما يؤدي إلى تكوين مجموعات وظيفية جديدة وإعادة ترتيب هيكلية.

وعلى الرغم من أن هذا التفاعل جرت دراسته وتطبيقه على نطاق واسع في التركيب الدوائي منذ فترة طويلة، فإن حدوثه الطبيعي ظل غير مستكشف.

وفي الدراسة أظهر الباحثون أن عملية "إزالة الأرومات المؤكسدة" تغير البنية ثلاثية الأبعاد لبعض مكونات الجزيئات الحيوية، والتي بدورها يمكن أن تنشط سلسلة من التفاعلات اللاحقة والمتباينة، مما يؤدي إلى ملايين الجزيئات المتنوعة.

وكان العلماء يعتقدون سابقا أن الطريق إلى المادة العضوية الذائبة ينطوي على عملية بطيئة مع العديد من التفاعلات المتسلسلة، ومع ذلك تشير الدراسة الحالية إلى أن التحول يحدث بسرعة نسبيا.

دور تقنية "الرنين المغناطيسي النووي"

وتوصل الباحثون لحل اللغز بعد أن فحصوا المواد العضوية الذائبة من أربعة روافد لنهر الأمازون وبحيرتين في السويد، وذلك باستخدام تقنية تسمى "الرنين المغناطيسي النووي".

وتستخدم هذه التقنية لتحديد بنية وتكوين الجزيئات وخاصة المركبات العضوية، ومن خلال توظيفها تمكن الباحثون من تحليل بنية ملايين الجزيئات المتنوعة الموجودة في المواد العضوية الذائبة من الأنهار والبحيرات والمحيطات.

يقول هيرتكورن إنهم استخدموا الرنين المغناطيسي النووي بطرق غير تقليدية لدراسة الجزء الداخلي العميق للجزيئات العضوية الذائبة الكبيرة، وسمح لهم ذلك برسم خرائط وقياس كمية المحيط الكيميائي حول ذرات الكربون داخل هذه الجزيئات، مما وفر رؤى تفصيلية حول بنيتها.

ونتيجة لذلك نجح الباحثون في تحديد نسبة عالية من ذرات الكربون العضوية التي لم تكن مرتبطة بالهيدروجين، ولكن مرتبطة في المقام الأول بذرات الكربون الأخرى.

واكتشفوا بنية نادرة بشكل خاص، إذ ترتبط ذرات الكربون على وجه التحديد بثلاث ذرات كربون أخرى وذرة أكسجين واحدة، وهو تكوين غير شائع في الجزيئات الحيوية، وفسروا ذلك بالدور الذي يلعبه تفاعل إزالة الأرومات المؤكسدة.

والمعروف أن هذا التفاعل يؤدي إلى تعديلات هيكلية في المركبات العطرية، مما يؤدي إلى تكوين جزيئات متنوعة، ويشير وجود روابط الكربون والأكسجين غير العادية التي حُددت من خلال تحليل الرنين المغناطيسي النووي إلى تورط هذا التفاعل في تحويل المادة العضوية.

ويقول أستاذ التغير البيئي في جامعة لينكوبينغ "ديفد باستفيكن": إن هذه الميزات الهيكلية الفريدة التي رُصدت، وكان لتفاعل "إزالة الأرومات المؤكسدة " دورا فيها، ساعد في استقرار المادة العضوية، ومنع تدهورها السريع، وما يترتب على ذلك من إطلاق ثاني أكسيد الكربون أو الميثان في الغلاف الجوي.

ويضيف: "يساعد هذا الاكتشاف في تفسير أحواض الكربون العضوية الكبيرة على كوكبنا، والتي تقلل من كمية ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي".

الباحثون فحصوا المواد العضوية الذائبة من أربعة روافد لنهر الأمازون وبحيرتين في السويد (أن سبلاش) فائدتان لخدمة البيئة

وبدوره أثنى أستاذ العلوم البيئية بجامعة أسيوط المصرية "خالد سليمان" على نتائج الدراسة، ووصفها بـ"المهمة جدا" لأنها في تقديره يمكن أن تساعد في تحقيق فائدتين للبيئة.

ويشير سليمان في حديث هاتفي مع "الجزيرة نت "، إلى أنها يمكن أن تساعد في  تطوير تقنيات عزل الكربون، لأن "فهم الآليات الكامنة وراء تكوين المادة العضوية المستقرة في الأنهار والبحيرات والمحيطات يمكن أن يفيد في تطوير تلك التقنيات، فمن خلال محاكاة أو تعزيز العمليات الطبيعية التي تؤدي إلى تكوين مادة عضوية مستقرة، يمكن زيادة تخزين الكربون في البيئات المائية، مما يقلل من كمية ثاني أكسيد الكربون المنبعثة في الغلاف الجوي".

ويضيف أنها تساعد أيضا في تطوير إستراتيجيات التخفيف من آثار تغير المناخ، فإذا كانت المواد العضوية المستقرة في البيئات المائية تعمل كمخزن للكربون مما يقلل من تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، فيمكن دمج هذه المعرفة في إستراتيجيات التخفيف من تغير المناخ، فعلى سبيل المثال يمكن أن يؤدي الحفاظ على الأراضي الرطبة واستعادتها إلى تعزيز قدرة هذه البيئات على عزل الكربون.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات ثانی أکسید الکربون فی الغلاف الجوی المادة العضویة المواد العضویة من الجزیئات هذا التفاعل یؤدی إلى یمکن أن

إقرأ أيضاً:

كيف تغير الأقمار الصناعية طريقة رصد الغابات؟

تعد الغابات من أهم الوسائل لمكافحة تغير المناخ، فهي تمتص ثاني أكسيد الكربون وتنظم هطول الأمطار، بالإضافة إلى كونها موطنا لجزء كبير من التنوع البيولوجي. رغم ذلك، لا يزال رصد وفهم عدد كبير من غابات العالم مهمة صعبة حتى باستخدام تقنيات الفضاء المتقدمة. لكن ثمة مشروع جديد قد يُمثّل بداية ما يطلق عليه العلماء "عصر فضاء الغابات".

وعادة ما كان رصد الغابات يعتمد بشكل رئيسي على الفرق الميدانية التي تقوم بقياس الأشجار يدويا، ورسم خرائط التنوع البيولوجي، وتقدير كميات الكربون المخزنة في النظم البيئية، وفق موقع "إيرث".

ورغم أهمية هذه الجهود، كانت العمليات بطيئة وتتطلب جهدا بشريا مكثفا، كما كانت تواجه صعوبة في التضاريس الوعرة أو القيود التمويلية.

وحاليا تُوجّه أدوات علوم الفضاء الحديثة نحو غابات الأرض، وهو جهد عالمي لتغيير فهمنا للغابات عبر النظر إليها من الأعلى.

استخدام الأقمار الصناعية لا يغني عن العمل الميداني لمراقبة الغابات (أسوشيتد برس) ثورة الفضاء

وفي 29 أبريل/نيسان الجاري، من المخطط أن تطلق وكالة الفضاء الأوروبية مهمة "الكتلة الحيوية"، التي تشمل إطلاق أول رادار يعمل بالنطاق "بي" (P) إلى الفضاء، بحسب المصدر السابق.

إعلان

ونطاق "بي" هو نوع من الموجات الراديوية التي تُستخدم في تقنيات الرادار، وتحديدا في رصد الغابات باستخدام الأقمار الصناعية.

وتعمل الموجات الراديوية في هذا النطاق على التفاعل مع الأسطح المختلفة في الغابات، مثل جذوع الأشجار والفروع. وبالتالي توفر تفاصيل دقيقة حول بنية الغابات، بما في ذلك حجم الكتل الحيوية والكربون المخزّن في الأشجار.

وتساعد هذه الميزة على تحسين فهم كيفية تخزين الكربون في الغابات، وهو أمر مهم جدا في سياق مراقبة التغيرات المناخية.

ولن تقتصر مهمة "الكتلة الحيوية" على هذه التقنية المتقدمة فقط، إذ سيلتحق بها قريبا القمر الصناعي "نيسار" (NISAR)، وهو مشروع مشترك بين الولايات المتحدة والهند.

ومن المتوقع أن يمكن المشروع العلماء من الحصول على صورة متعددة الطبقات للغابات، بالاستعانة بتقنيات أخرى مثل رادار "جي إي دي آي" (GEDI) التابع لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، وهذا يساعد على رصد الأنماط والاتجاهات المتعلقة بصحة الغابات ونموها وفقدانها.

ضرورة للميدان

ورغم التقدم الكبير في تكنولوجيا الفضاء، فإن الأقمار الصناعية لا تستطيع القيام بكل شيء. فعلى سبيل المثال، لا يمكن للأقمار الصناعية قياس الكتلة الحيوية بشكل مباشر أو التعرف على أنواع الأشجار من الفضاء، خاصة في الغابات الاستوائية التي تضم آلاف الأنواع المختلفة.

ولذلك من الضروري أن تتكامل بيانات الأقمار الصناعية مع العمل الميداني الدقيق. فالبحث في الغابات الاستوائية، مثل تلك الموجودة في الأمازون، يتطلب جهدا مستمرا من العلماء الميدانيين الذين يقومون بقياس الأشجار، وتحديد أنواعها، وقياس كثافة الكربون في مختلف أجزاء الغابة.

وبسبب هذا التعقيد البيولوجي، لا يمكن للأقمار الصناعية التمييز بين أنواع الأشجار المختلفة من دون مساعدة من العلماء الميدانيين. كما أن بعض الأنواع تتطلب فحصا مباشرا على الأرض لكي يتم تحديدها بدقة.

إعلان

مقالات مشابهة

  • خطر الإصابة بالفصام يرتبط بانخفاض سمك شبكية العين
  • الحد اليومي للجلوس الذي يُنذر بآلام الرقبة ..! 
  • ماذا يحدث لجسمك عند التوقف عن تناول القهوة لمدة شهر؟
  • بحضور وزير السياحة والآثار.. إير كايرو تحتفل بمرور أكثر من 20 عاما على تأسيسها
  • جامعة عين شمس تحصد المركز الأول في جائزة العلماء الشباب لعام 2025
  • دراسة توضح تأثير استخدام شات جي بي تي على الشعور بالوحدة وزيادة العزلة
  • كيف تغير الأقمار الصناعية طريقة رصد الغابات؟
  • الرقابة المالية: قاعدة بيانات محدثة أساس اتخاذ قرارات خفض الكربون
  • الرقابة المالية: سوق الكربون يتيح للمؤسسات المالية فرص تمويل الاستثمار الأخضر
  • بكتيريا أمعاء الطفولة قد تسبب الإصابة بسرطان القولون