لا تجعلوا غضب مظاهرات غزة وصخبها يلهيكم عما يقوله الطلبة
تاريخ النشر: 8th, May 2024 GMT
ترجمة: أحمد شافعي
في يوم حار من الأسبوع الماضي، عجَّت الأرصفة خارج جامعة كولومبيا بالحركة. تجمع قرابة عشرين متظاهرا، مصدرين جلبة تفوق عددهم، صائحين بهتافات مناصرة لفلسطين ورافعين لافتات بها. كان الجمع متباينا، متنوع الأعراق والأجيال. قال أحدهم عندما سألته عن سبب وجوده «لقد عشت في هذا الحي طول حياتي». ومضت عجوز تسير وسط المتظاهرين مبتسمة تعرض عليهم زجاجات مياه.
ما كدت أدخل الحرم، حتى مضيت إلى سبب وجود المتظاهرين والشرطة والأمن المشدد في الجامعة، أعني مخيم الطلبة المقام على أحد المروج في قلب الحرم. كان قائما في مكانه ذلك منذ قرابة أسبوعين، بعد عدم تلبية سلسلة من المطالبات لإدارة الجامعة، منها مطالبة بسحب الاستثمارات «من الشركات والمؤسسات التي تتربح من الأبارتيد الإسرائيلية».
احتشدت وسائل الإعلام. وتحدث إعلاميون منتمون إلى منابر محلية وأجنبية في لهفة أمام العدسات، بينما بث آخرون عبر هواتفهم. وبالقرب من المخيم، تجمع حشد من الإعلاميين حول طالب يهودي واقف على منصة عالية ملوحا بعلم إسرائيل وهو يكرر للإعلاميين أن اليهود في الحرم لن يستسلموا للترهيب وأنهم «لن يذهبوا إلى أي مكان». وفي مرج ملاصق لمرج المخيم غرست أعلام إسرائيلية في صفوف منتظمة بحديقة صغيرة.
كان المخيم نفسه صغيرا ومسالما على نحو مثير للقلق، وشبه احتفالي: فهو عبارة عن حفنة من الخيام يتجول فيها عدد قليل من الطلبة، بين الحين والآخر يصيحون بأغنية أو هتاف، مع انضمام الطلبة من خارج السياج القصير المحيط بالعشب. ومن أحد جوانب المخيم أخذ طالب يحث آخرين على الإكثار من شرب الماء. وقف في ما بدا أشبه بمركز إداري للمظاهرة فيه خيمة إمدادات وخيمة قيل لي إنها مكتب اتصال إعلامي.
الأمر الذي لفت انتباهي كان حقيقة واضحة، ومذهلة، نظرا لمدى تنظيم قواعد المخيم وحجم ما مر به أولئك الطلبة من اعتقال وإيقاف واهتمام عالمي. إنهم أطفال. «في التاسعة عشرة من العمر» مثلما قال لي طالب حينما أشرت إلى قواعد المكان واعتباراته البيئية، قال إن الذين تولوا التنظيم «طلبة في التاسعة عشرة».
كان نوع من الترقب القلق يملأ الأجواء. فقد أمهلت رئيس الجامعة الطلبة حتى الثانية ظهرا لفض الاعتصام، فدفع ذلك العديد من الطلبة إلى السير في دوائر تحيط تقريبا بكامل المخيم، مرددين هتافات التضامن مع المخيمين. رفض كل الطلبة الذين توجهت إليهم تقريبا أن يتكلموا. وفي أدب، وشيء من التوتر، قالوا إنهم ليسوا مدربين على مواجهة الإعلام، أو هم ببساطة لا يريدون الحديث. لكنهم أرشدوني إلى طالب يدعى آيدان كان متكئا على سياج المخيم وبدأ يثرثر. عرفته بوصفه أحد الطلبة الذين يقودون الهتاف بالداخل. كان صوته أجش عندما بدأ الحديث عن أسباب عصيانهم.
كان المخيم قد صنع بالفعل تاريخه وسيرته. فهو المكان الذي ازداد إصرارا بعد استدعاء إدارة الجامعة لشرطة نيويورك في الثامن عشر من أبريل مما أدى إلى اعتقال أكثر من مئة طالب بتهمة التعدي على ممتلكات الغير. أعيد تنظيم المخيم، وتجدد الإحساس بفقدان الثقة والغضب. قال آيدان إن «المفاوضات توقفت» بسبب «سوء نية» إدارة الجامعة. وكانت مينوش شفيق رئيسة جامعة كولومبيا قد أشارت مرارا إلى معاداة السامية وسلامة الطلبة اليهود في الحرم الجامعي باعتبارهما سببا لفض المخيم. وكانت قد استدعيت هي ورؤساء جامعات أخرى أمام مشرعين فيدراليين لإجابة أسئلة حول معاداة السامية في مظاهرات جامعية.
سألته عن ذلك، وعن هتاف لفت نظري. كان بعض طلبة المخيم يهتفون «لا نريد دولتين. نريدها كلها». وتلك كانت المرة الأولى التي تخبط فيها آيدان. قال «كل ما نريده هو فلسطين حرة». وكيف يكون شكل فلسطين الحرة. قال إن «تحقيق ذلك» لا يخصهم. لم تكن تلك هي كامل قصة المخيم الذي انضمت إليه جماعات يهودية أقامت فيه عشاء لعيد الفصح تأييدا للمتظاهرين المناصرين لفلسطين، لكن بوسعي أن أرى لماذا لا يشعر بعض الطلبة اليهود والإسرائيليين بالارتياح.
فسواء كان ذلك يؤدي إلى ما يكفي لحظر مواقع التظاهر أو إخلائها بالقوة فإنه يمضى إلى صلب مخاوف أكبر: مخاوف ذات تاريخ أقدم وتتعلق بمن يحق له وضع حدود حرية التعبير في الجامعات الأمريكية، وكيف يمكن أن يعاد رسم تلك الحدود على أسس حزبية لتبرير القمع.
ترددت تقارير أيضا عن اعتداءات في الحرم الجامعي، ولا بد من معالجة هذه المزاعم مع الاستماع إلى شهادات كاملة ممن تعرضوا للاعتداء. لكن المهم أيضا، وما يقتضي التزاما مماثلا بالحقيقة، هو ألا تؤدي هذه التحقيقات إلى النيل من الحركة بأكملها، أعني الحركة التي انتشرت في أكثر من مائة جامعة في الولايات المتحدة والعالم، ولا يمكن اختزالها في أسوأ مظاهرها أو خطأ شعاراتها.
في الليلة التالية دخلت شرطة نيويورك الحرم. وكان بعض الطلبة قد استولوا على مبنى، في تصعيد أعقب فشل المفاوضات مع الإدارة. وإذا بالمشاهد خارج الحرم تبدو غير غريبة على منطقة حربية. مئات من أفراد الشرطة مزودين بمعدات مكافحة الشغب، وضعوا سلما ودخلوا، سحبوا الأسلحة، وقاموا ـ وفق رواية طلبة ممن كانوا بالداخل ـ باعتقال الطلبة بعنف ودفعهم على الدرج. وفي غضون سويعات تم اعتقال أكثر من مئة طالب وإخلاء الحرم.
كان الانطباع الغالب هو أن رد الفعل وحشي وغير متناسب مع الفعل. وكان التناقض بين لغة إدارة الجامعة وأقسام من الصحافة والواقع شديد الشسوع فلم أتمكن حتى بعد قضاء ساعات داخل الحرم في ذلك اليوم الذي بلغت فيه التوترات ذروتها أن أوفق بين الاثنين. في صباح ذلك اليوم بعثت مينوش رسالة إلكترونية تشير فيها إلى «التحرش والتمييز» وضرورة الحفاظ على الجميع «سالمين فيزيقيا داخل الحرم» معتبرة تلك أسبابا للمطالبة بإنهاء الاحتجاج. في الصباح التالي للمداهمة الشرطية أشار برنامج على شبكة سي إن إن إلى أن «العنف والدمار والكراهية» في حرم الجامعات الأمريكية «تعيدنا إلى أوروبا الثلاثينيات».
في كولومبيا وجامعات أخرى زرتها في نيويورك وواشنطن حيث أقيمت مظاهرات أصغر حجما، لم أسمع أو أر إلا شبابا مثقلين بعبء أخلاقي مستحيل، مستشعرين بوصفهم طلبة في جامعات أقوى حليف لإسرائيل أن على أكتافهم مسؤولية فرض إعادة تقييم لموقف بلدهم من غزة، حاملين بالإضافة إلى ذلك خوفا من كل ما قد يحل بهم من جراء الانحياز لغير مصالح الشركات والإعلام والساسة.
أفصحت عن هذه المخاطر لآيدان: الإيقاف، خسارة السكن والرعاية الطبية، الإضرار بالسمعة، الإضرار بفرص العمل. قال إن «الطلبة في غزة ليست لديهم مدارس يتظاهرون فيها، ليست لديهم رعاية صحية ليفقدوها. هذا لا يقارن بما يمرون به». كان شعورا شائعا بين الطلبة الذي قابلتهم، ذلك الالتفات إلى غزة باعتبارها بوصلة تضبط الاتجاه وتذكر بالمخاطر. مع عزيمة رهيبة ينفطر لها القلب، عزيمة لا يقوى عليها إلا الشباب، شباب لم ينكسروا بعد أمام التنازلات وخبرات الخسائر الأليمة. هؤلاء أيضا، لنا فيهم بوصلة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
خطيب المسجد النبوي: يزداد التعظيم لحرمات الله بالأشهر الحرم
قال الشيخ عبدالباري الثبيتي، إمام وخطيب المسجد النبوي، إنه يجب على المسلم أن يعظم شعائر الله في كل وقت وحين.
يزداد التعظيم لحرمات اللهوأوضح “ الثبيتي” خلال خطبة الجمعة الثالثة من رجب اليوم من المسجد النبوي بالمدينة المنورة، أنه يزداد التعظيم لحرمات الله في هذه الأشهر الحرم، بترك المحرمات وتجنب المنهيات، والمسارعة إلى فعل الخيرات، والمسابقة إلى الصالحات، بشرط البعد عن المبتدعات، والمجانبة لاختراع المحدثات.
وأضاف أن القوة الحقيقية تنبع من روح إيمانية، تشحذ بالطاعة، وتتعزز بالاستغفار، وتثمر بالعمل الصالح، فهي القوة التي تتصل بربها، فيزيدها عزمًا وثباتًا. قال الله تعالى على لسان هود عليه السلام «وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ».
واستند إلى قول الله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ»، و هي آية تختصر مسار الحياة في كلمات بليغة ومعان عميقة، ترسم صورة لمراحل خلق الإنسان. تبدأ بضعف الطفولة تعلو بالقوة، ثم تعود إلى ضعف يزينه الشيب.
وأشار إلى أنها آية توقظ العقول لتدرك عجز الإنسان، وتلامس القلوب لتظهر حاجته الدائمة إلى ربه، منوهًا بأن هذه الآية هي دعوة للتفكر في أطوار الخلق، وفي تقلب الأحوال بين القوة والضعف.
آية توقظ العقولوتابع: وفي قدرة الله المطلقة التي تدبر هذا المسار بحكمة وإتقان. كل شيء بيده، منه المبتدأ وإليه المنتهى، مشيرًا إلى أن الطفولة هي الصفحة الأولى في كتاب الحياة، تبدأ ببراءة ناصعة وضعف يحفه لطف الله ورحمته.
وأردف: طفل صغير لا يملك من أمره شيئًا، أودع الله في قلوب منحوله حبًا وحنانًا، وأحاطه بأيد ترعاه وتخفف عنه ضعفه، و هذه الآية مشهد مهيب يبين عظمة التدبير الإلهي، إذ يحفظ الله هذا الطفل الضعيف، ويمنحه العون من حيث لا يدري، مبينًا مراحل نمو الإنسان من خروجه ظلمات بطن أمه لا علم له ولا قدرة، في عجز تام جهل مطبق، ثم فتح الله له أبواب العلم، ووهب له السمع والبصر والفؤاد لينهل بها من معين التعلم والمعرفة.
ونبه إلى أن كل ما اكتسبه الإنسان من علم أو قوة هو هبة من الله وعطاء من كرمه، قال تعالى «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»، فهذه الآية تغرس في القلوب أدب العبودية، وتزرع في النفوس تواضع المخبتين، فلا يطغى الإنسان بعلمه، ولا يغتر بقوته.
هبة من اللهوأفاد بأنه ينبغي على الإنسان أن يدرك أن كل ذرة من قوته وكل حركة في جسده هي نعمة تستوجب شكرًادائمًا وخضوعًا كاملًا. فالعبد، مهما علا شأنه، يظل فقيرًا إلى ربه، محتاجًا إلى فضله في كل لحظة حياته كلها هبة من الله، تستحق الحمد في كل حين.
وواصل : فما أعظم غنى الله، وما أبلغ فقر العبد بين يديه، موضحًا أن هذه المرحلة تكتب فيها أعظم قصص الكفاح، وتُبنى أقوى صروح الحضارة، فلا تقوم قائمة للأوطان ولا تنهض أمة إلا بسواعد الشباب اليافعة وهممهم العالية.
وأبان أن قوة الشباب تزدهر حين تتفيأ ظلال الدين، وتسمو حين تتغذى من معين القيم والأخلاق، وتتجلى في سماء المجد حين تسخر لخدمة البلاد و العباد، مضيفًا: ومن أهدر شبابه فقد أهدر عمره كله، فهو لحظة عابرة في زمن الحياة، ومن استثمره في الخير والنفع خلد أثرًا طيبًا، وجنى ثمارًا يانعة في الدنيا والآخرة.
ونوه بأن حدود زمن الطفولة والقوة ثم الضعف والشيبة هي متوسط عمر الإنسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك».
ولفت إلى أنها رحلة قصيرة في ميزان الزمن، لكنها تذكر بالمال المحتوم وأن النهاية تقترب مع كل لحظة تمر، داعيًا لاغتنام كل لحظة من العمر، فالعمر محدود، والفرصة لا تعود والأعمار لا تقاس بعدد السنين، بل بما يترك فيها من أثر خالد وعمل صالح.