نشرت صحيفة الواشنطن بوست في شهر أبريل من العام الماضي 2023م مقالاً مثيراً للجدول بعنوان: « الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتسبب في انقراض جماعي للغات وطرق التفكير»، حاز المقال على اهتمام كبير من مختلف فئات المجتمع؛ إذ طرح موضوعاً بالغ الأهمية وهو التأثير المحتمل لتصاعد ابتكارات نماذج الذكاء الاصطناعي ذات اللغات الكبيرة، مثل ChatGPT-4، وخلفائها الأكثر قوة، والتي يمكنها أن تكتسح اللغات البشرية، ولكن تقلص أعداد اللغات بحد ذاتها ليست المعضلة، فالأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تلاشي مجموعة متنوعة من طرق التفكير والإبداع الإنساني، وهذا يعني انهيار القدرة على إنتاج الابتكارات الإبداعية الخلاقة التي منشؤها الذكاء البشري.
قد تعتقدون أن كاتب المقال هذا هو باحث في علوم استشراف المستقبل، ولديه الشغف في استقراء ما سيؤول إليه حال البشر في قادم الأيام، وذلك في ظل تنامي تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولكن في الواقع كاتبة المقال هي الباحثة الأكاديمية فيوريكا ماريان، وهي مديرة مختبر أبحاث ثنائيات اللسن واللغويات النفسية في جامعة نورث وسترن، وهي مؤلفة كتاب «قوة اللغة: كيف تغير الرموز التي نستخدمها للتفكير والتحدث والعيش عقولنا»، وهو مقال يستحق القراءة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تفرض علينا التكنولوجيا بشكل تدريجي وغير محسوس التخلي عن اللغات التي نتخاطب بها؟ وهل اللغات البشرية مهددة بالفعل بالانقراض بسبب العولمة والهجرة والتجانس الثقافي ووحدة أدوات التخاطب الإلكتروني عبر الأنظمة الرمزية للرياضيات والمنطق واللغات الاصطناعية؟ وهل الذكاء الاصطناعي مؤهل لأن يكون إحدى ممكنات لإنقاذ الألسن المفقودة أو إنه في قفص الاتهام؟
في البدء دعونا نقترب من التفاعل بين اللغة والعقل، نجد بأنه رسمياً قد تم تسجيل سبعة آلاف لغة يستخدمها الإنسان حول العالم، وإذا أخذنا في الاعتبار المعدل الطبيعي لانقراض الألسن البشرية فإن عدد اللغات التي تعاقبت على مر تاريخ البشرية هي أكبر من هذا الرقم بكثير، وقد أثبتت بحوث علوم الإثنوغرافيا بأن اللغة هي وجود الإنسان على هذا الكوكب، سواءً كانت اللغة رمزية أو لفظية، وبحسب الأدلة العلمية في علوم كيمياء الدماغ وعلم النفس السلوكي فإن اللغة هي التي تشكل عمل الدماغ البشري، يحدث ذلك عن طريق تنظيم عملية معالجة المعلومات، وبناء الفهم والإدراك، ثم تعزيز الرؤى الذاتية لصناعة القرارات التي نتخذها، وعلى سبيل المثال، إذا تم عرض وقائع معينة على مجموعة من البشر ممن يمتلكون مهارات لغوية متعددة، أو يتحدثون عدة ألسن بالإضافة إلى اللغة الأم، فإن الواقع كما يراه كل واحد منهم هو بمثابة تجربة ذاتية ناتجة عن نشاط الدماغ في دمج المدخلات الظاهرية التي تستقبلها الحواس مع ما يملكونه من المعرفة والخبرة، ثم تأطيرها بالاستعانة بالمهارات اللغوية التي تمكنه من التعبير عنها، وبمعنى أبسط، إن الدماغ يدرك الوقائع ويعالجها بالمفردات اللغوية التي يستطيع أن يعبر بها، وبذلك تتفاوت القدرات إنتاج الصور الإبداعية، وصنوف المخرجات الإبداعية التي يتخيلها المبتكرون والمخترعون والكتاب والشعراء، لأن اللغة تمنحنا تجربة الإدراك من منظور يمكننا من خلاله رؤية الواقع بمستويات مختلفة، وهذا هو الفرق بين الموهوبين وغيرهم من الفئات، وبذلك فإن التفاعل بين اللغة والعقل هو ثنائي الاتجاه، وبشكل اعتمادي، بحيث تؤثر اللغة على الإدراك الحسي والمعنوي، إذ تمتلك اللغات البشرية القدرة على تنشيط شبكات عصبية مختلفة في الدماغ.
وهذا يقودنا إلى وظيفة اللغة في تاريخ الوجود الإنساني، فهي حجر الأساس في حفظ الثقافات الخالدة والمعارف والفنون التي انتقلت عبر الأجيال، بالمثل فإن تاريخ وتقاليد مئات الثقافات انقرضت ببطء لأنها لا تجد طريقة لحفظها ونقلها عبر اللغة، وإذا تأملنا الوضع الحالي للغات المنطوقة اليوم نجدها محدودة وتفتقر إلى التنوع الطبيعي؛ إذ تصاعد تأثير اللغات المهيمنة ثقافيًا مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية لكونها لغات للعلوم والتكنولوجيا والتجارة الدولية، ويعود ذلك إلى حد كبير للعولمة وتداعيات الاستعمار الذي غيَّر الكثير من معالم الحياة على مدار القرون القليلة الماضية، مما ساهم في تعريض لغات الأقليات لخطر الانقراض، وأكبر مثال على ذلك هو أن اللغة الإنجليزية تتصدر قائمة اللغات المعاصرة كلغة محتوى على مواقع الشبكة العنكبوتية، إضافة إلى ذلك فإن هناك العديد من اللغات الأصلية للمجتمعات والشعوب المحلية في مختلف دول العالم والتي ليس لها شكل مكتوب، ومع انخفاض عدد المتحدثين بها بهجرة الأجيال الأصغر عمراً للحواضر المدنية، والميل العام لدى هذا الجيل بالتوجه نحو التكنولوجيا والثقافات الأكثر هيمنة فمن المرجح أن تختفي هذه اللغات من الوجود بشكل نهائي، مما يعني حرفياً فقدان البشرية للمعارف والتاريخ والحكمة والعادات والتقاليد التي لا يمكن استردادها.
ومع تسارع التطور العلمي والتكنولوجي فإن موضوع اللغة لم يعد محل جدل المفكرين، أو اجتهادات علماء التاريخ، ولكنه محط اهتمام الباحثين والمبتكرين من مختلف المجالات وفي مقدمها التقنيات المتقدمة، إذن ماذا يحدث في مختبرات أبحاث الذكاء الاصطناعي، وهل يمكن أن تكون التكنولوجيا التي أسهمت في فقدان الإرث اللغوي يوماً هي نفسها الأداة التي يمكن بها الحفاظ على اللغات المهددة بالانقراض؟ إن البحوث الحالية تتمحور حول تدريب نماذج لغة الذكاء الاصطناعي على كميات هائلة من البيانات من الكتب والمجلات والصحف والمحتوى المتاح عبر الإنترنت، ولكن ما هو متاح لتدريب النموذج يختلف بشكل كبير عن اللغات المنطوقة والمستخدمة اليوم، والتركيز الحالي هو على أعلى عشرين «لغة عالية الموارد» مثل الإنجليزية، والفرنسية، والروسية، والألمانية، واليابانية، وفي المقابل، سينتج الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من النصوص الجديدة، وبذلك فإن الناتج هو أقرب ما يكون إلى اللغات الغازية مقارنةً باللغات الطبيعية، ومن المحتمل أن يكون لمثل هذه النماذج الهجينة قوة السيطرة لاستبعاد اللغات التي تتوفر لها موارد أقل للتدريب وتعليم الآلة.
فإذا أخذنا في الحسبان أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يساهم في إبطاء احتمالات انقراض بعض اللغات البشرية، إلا أن هذه المسألة لا تخلو من المخاطر، وبحسب المحاولات البحثية والتطويرية القائمة فإن هناك درجة من التحفظات حول قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم عمق اللغات الأصلية بشكل كامل، وهناك جدل علمي لا يستهان به بشأن قدرة البرمجة اللغوية العصبية على فهم اللغة التي يستخدمها البشر في المجتمعات النائية والبعيدة عن ركب التمدن، إذ تعتمد العديد من اللغات الأصلية بشكل خاص على النغمة الصوتية التي لا يمكن إرجاعها إلى حروف واضحة، كما أن اللغات الشفهية تختلف بحسب السياق دون أن تتبع نهجاً نحوياً، أو قاعدة لغوية واضحة مثل عدد كبير من لغات قبائل ومجتمعات الشعوب الأفريقية، وإذا ما تم الاستعانة بالبرمجة اللغوية فإن هذه الجوانب هي أمور مفقودة في معظم المنهجيات التقنية السائدة.
إن واقعنا المعاصر يؤكد في كل مرة بأن التكنولوجيا تعمل بشكل غير مباشر على تسريع معدل اختفاء اللغات الطبيعية، حتى في الوقت الذي توفر فيه الأمل في الحفاظ على اللغات المهددة بالانقراض أو التي انقرضت منذ وقتٍ قصير، وهذا ما يحدث بدون وعي كامل من البشرية التي تنصب اهتماماتها في تسجيل المزيد من الاختراعات العلمية والتقنية غير المسبوقة، وهو أمر يدق ناقوس الخطر لانعكاساته العميقة على الإبداع والذكاء البشري، لأن تعدد اللغات البشرية ليس ضجيجا، بل هو شاهد على تنوع الفكر والإبداع في التجربة الإنسانية، ولطالما أتاحت التكنولوجيا حلولاً ابتكارية للتحديات التي واجهت البشرية عبر تاريخها الطويل، وقد حان الوقت لتوجيه التقنيات المتقدمة في إنقاذ الألسن المهددة بالانقراض، ويأتي في مقدمة ذلك تنظيم أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطويرها وتوجيهها في تعزيز أبحاث البرمجة اللغوية العصبية، وبناء النماذج الأساسية للغات الأصلية، وهذا من جهة، وأما من جهة أخرى فإنه من الضروري كسب الوقت للتوصل إلى المزيد من الحلول الابتكارية المستدامة، وذلك بالحفاظ على أكبر عدد ممكن من اللغات الطبيعية، وذلك بتشجيع الابتكار باللغات المحلية، وإتاحة الفرصة بتوثيق وحفظ المعارف الإنسانية، وجذب العقول البشرية المبدعة للمساهمة في توطين لغة الابتكار، وتنشيط الحراك العلمي والمعرفي والثقافي والإنساني لأطول فترة ممكنة، وإطلاق المبادرات النشطة بالشراكة مع القطاعات الإنتاجية في الصناعات الثقافية باعتبار اللغة بمثابة المنجم الذهبي الذي يربط الإنسان بماضيه وحصيلة خبراته، إذ تتيح التقنيات الرقمية الفرصة لدعم المبادرات السريعة مثل تحميل التسجيلات الصوتية للغة، أو الاحتفاظ بالتعبيرات الأخرى للغات غير المكتوبة مثل الرسم والنحت، ويمكن التعلم والاستفادة من الجهود الدولية في هذا المجال مثل مبادرة العقد الدولي للغات الأصلية التابعة للأمم المتحدة (2022 - 2032)، إذ لا يزال بإمكان اللغات الأصلية الصعود إلى العالم الرقمي، والبحث عن فرصة البقاء في المستقبل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
السفير عبدالله الرحبي: اللغة العربية كانت دائمًا حاضرة بقوة في تاريخ عمان (صور)
نظمت سفارة سلطنة عمان بالقاهرة، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، فعالية ثقافية احتفاءً بالمكانة التاريخية واللغوية لسلطنة عمان في دعم اللغة العربية، وذلك بحضور الأستاذ الدكتور نظير عياد مفتي الديار المصرية والسفير عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق وبعض سفراء الدول.
وألقى السفير العماني عبدالله بن ناصر الرحبي كلمة سلط خلها الضوء على الجوانب الجمالية والابتكارية للغة العربية، مستشهدًا بوصف الأدباء لها كلغة الشعر والإبداع، مشيرًا إلى أن العربية لم تقتصر على المجالات الثقافية بل امتدت لتشمل مجالات العلم والقانون والاجتماع.
وأكد السفير أن اللغة العربية كانت دائمًا حاضرة بقوة في تاريخ عمان، مشيرًا إلى مساهمة أعلام عمانيين مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي، المبرّد، وابن دريد الأزدي في تطويرها، فضلًا عن دور العمانيين في نشر العربية في إفريقيا من خلال اللغة السواحيلية.
وجاءت كلمة السفير العماني عبدالله بن ناصر الرحبي على النحو الآتي:
اللغة العربية مكانتها وفضل الإسلام عليها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين خير من نطق بلغة الضاد، أصدق الناس لسانًا وأفصحهم بيانًا، وأبلغهم كلامًا، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فمعلوم أن كل أمة من الأمم تفتخر بلغتها وتعتز بها وتعتقد أنها أفضل اللغات، ولا عجب في ذلك، فاللغة هي هوية الأمة وسبيل مجدها وتاريخ حضارتها، كما أنها بالنسبة للأمم جميعًا أداة تواصلها وطريقة تفكيرها، ورمز عزتها، ومصدر فخرها، وأسلوب حياتها، لكنها للأمة العربية كل هذا وتزيد عليه أنها لغة دينه وكتابه، جعل الله فهمها ضرورة وتعلمها شرف، لهذا كان ارتباط المسلم بلغته يختلف عن ارتباط أي إنسان بأية لغة أخرى، إذ لا يستطيع المسلم أن يقرأ كتابه بغير لغته التي نزل بها، كما لا يتأتى له القيام بأداء شعائره وإتمام عباداته بدونها.
فهي وسيلة المسلم لفهم مقاصد النص القرآني ومعانيه وغاياته الكبرى المتمثلة في تلقي الأحكام الشرعية منه، ولذلك استعان العلماء باللغة العربية وفنونها في فهم مراد الله في كتابه والكشف عن أسراره، وتحديد دلالاته.
لهذا نظر إليها العلماء على أنها من الدين حيث إن فهم مراد القرآن والسنة من أوجب الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، يقول ابن فارس عن وجوب تعلم العربية: "إن العلم بلغة العرب واجب على كل متعلم من العلم بالقرآن والسنة والفتيا بسبب، حتى لإغناء بأحد منهم عنه، وذلك أن القرآن نازل بلغة العرب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عربي. فمن أراد معرفة ما في كتاب الله جر وعز، وما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل كلمة غريبة أو نظم عجيب، لم يجد من العلم باللغة بدا».
وقال الشاطبي: " لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر، فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثم عرف، فلا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب".
وعلى هذا يتضح لنا أن معرفة اللغة العربية شرط في فهم القرآن الكريم لأن من رام تفسيره، وسعى إلى الكشف عن مضامينه والوقوف على أسراره وقوانينه، وهو لا يعرف لغته التي نزل بها فإنه لا شك سيقع في الزلل، ولن يخلو قوله من خلل فمن قال أنه يفهم القرآن الكريم دون حاجة إلى اللغة العربية فقد قال محالا وادعى مستحيلا.
وهذا ما يأكده ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة قال: كتب عمر إلى أبي موسى: «أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية وتَمَعدَدُوا فإِنّكم مَعَدِّيُّون ».
وفي أثر آخر عن أبي بن كعب، قال: «تعلموا العربية كما تَعَلَّمُونَ حفظ القرآن»".
كما جاء أيضًا في مصنف ابن أبي شيبة سئلت الحسن فقال ما بلغك ما كتب به عمر أن تعلموا العربية وحسن العبارة وتفقهوا في الدين( )، كما جاء عن جرير بن ثعلبة عنة مقاتل قال: كلام أهل السماء العربية، ثم قرأ حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)سورة الدخان.
وهذا الذي أمر به سيدنا عمر رضي الله عنه من فقه العربية، وفقه الشريعة يؤكد على أهمية اللغة العربية ومكانتها من الدين ودورها في فهم حقائقه.
وهذا ما أكده أبو الوليد بن رشد في جواب له عمن قال أنه لا يحتاج إلى لسان العرب، فقال: هذا جاهل فلينصرف عن ذلك، وليتب منه فإنه لا يصح شيئ من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب يقول الله تعالى: "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ". (الشعراء:195).
إلا أن يرى أنه قال ذلك لخبث في دينه فيؤدبه الإمام على ذلك بحسب ما يرى فقد قال عظيمًا".
فهذه الأقوال وغيرها كثير تدل على أن كل من أراد فهم معاني القرآن ومعرفة مراميه، والوقوف على أسراره لابد وأن يكون متمكنًا من اللغة العربية باعتبارها أهم أدوات المفسر للقرآن الكريم.
فاللغة العربية مهمة جدًا للعلوم الشرعية بشكل عام ولعلوم القرآن والتفسير بشكل خاص من ثم أولها العلماء موفور العناية، ومزيد الاهتمام، ولا غرو في ذلك خصوصًا وفضائل القرآن الكريم على العربية أكثر من أن تعد وأعظم من أن تحصى، فقد شاءت إرادة إرادة الله تعالى أن يكون آخر الكتب السماوية نزولا هو القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، هذا اللسان الذي كان العرب ينظمون به أشعارهم، ويلقون به خطبهم، ويكشفون به عن مجدهم، ويقارنون به بينهم وبين غيرهم، فقال تعالى: "إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف:2)، وقال تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ ٱلَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ" (النحل - 103)، وقال تعالى: "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ" (الشعراء)، وقال تعالى: "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۚ فَرِيقٌ فِى ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ٱلسَّعِيرِ" (الشورى - 7)، وقال تعالى: "إِنَّا جَعَلْنَٰهُ قُرْءَٰنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (الزخرف - 3).
فهذه النصوص وإن كشفت لنا نزول القرآن باللسان العربي المبين إلا أنه في ذات الوقت تكشف عن فضله على العربية وأصحابها، إذ خص القرآن الكريم دون سواه، وانفرد دون غيره من الكتب المنزلة بالمحافظة على لغته الأصلية، فكان من آثاره عليها: ثبات ألفاظها لاتباط الشريعة وتفاصيلها بها وليس هذا فحسب بل لقد كان القرآن الكريم المصدر الأول الذي انبثقت عنه العلوم الشرعية من تفسير وفقه وحديث وعلومه وقراءات وأصول وعقيدة، كما ارتبطت به كذلك التأسيس لعلوم والوسيلة بأكملها، صحيح كانت العلوم ممتزجة فيما بينها امتزاجًا شديدًا، فلم يكن ثمة تحديد دقيق للأطر أو الدوائر التي يختص بها علم دون الآخر، حيث يجد الباحث فيما يجد علمًا قائمًا بذاته اسمه علم النحو، وعلمًا آخر اسمه علم التفسير، وعلمًا ثالثًا اسمه مصطلح الحديث، ورابع اسمه العقيدة، وخامس اسمه الأصول، وهكذا في سائر العلوم، فحرص العلماء على دراسة اللغة وارتبط بحرصهم على فهم القرآن من جهة ودراسة لغته من جهة أخرى باعتبارها مصدر العقائد والأحكام والتشريعات.
إن مثل هذا يجعلنا نقول: لقد أعطى القرآن الكريم اللغة العربية أكثر من كونها لغة، فقد حافظ عليها بحفظ الله تعالى له، قال تعالى: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9)، فاستمدت منه كمالها وجلالها وجمالها، فكان لها سببا من أسباب السماء وهذا ما عبر عنه الثعالبي بقوله: " إن من أحب الله تعالى أحب رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ومن أحبَّ الرسول العربي أحبَّ العرب ومن أحبَّ العرب أحبَّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ومن أحبَّ العربية عُنيَ بها وثابر عليها وصرف همَّته إليها".
بجانب هذا فإن اللغة العربية هي لسان أهل الجنة، وهذا دليل فضل الإسلام على العربية وأهلها، يقول الفارابي الفيلسوف في ذلك: هذا اللسان كلام أهل الجنة، وهو المنزه من بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلى من كل خسيسة، والمهذب مما يستهجن أو يستشنع، فبنى مباني بايَنَ ﺑﻬا جميع اللغات من إعراب أوجده الله له، وتأليف بين حركة وسكون حلاه به، فلم يجمع بين ساكنين أو متحركين متضادين، ولم يلاق بين حرفين لا يأتلفان، ولا يعذب النطق ﺑﻬما، أو يشنع ذلك منهما في جرس النغمة، وحس السمع، كالغين مع الحاء، والقاف مع الكاف، والحرف المطبق مع غير المطبق، مثل تاء الإفتعال مع الصاد والضاد في أخوات لهما، والواو الساكنة مع الكسرة قبلها والياء الساكنة مع الضمة قبلها، في خلال كثيرة من هذا الشكل لا تحصى.
فاللغة العربية فضلها كبير وشأنها عظيم ويكفي أنها انتقلت من كونها لغة شعب وإقليم إلى لغة كونية حين غدت لغة سماوية، لغة القرآن الكريم، وبالتالي الحامل لعقيدة كونية أعلنت عن نفسها عقيدة للبشر عامة، وهذا ما جعل العربية الحاملة هذه العقيدة، في أقل من قرن، لغة عالمية كبرى تشكلت في أطرها وسياقاتها أسس الحضارة الكونية العظمى التي سادت العالم قرونا عديدة، وامتدت على مساحات شاسعة من قارات العالم القديم، وغدت لغة الحضارة الإنسانية التي انحلت في بوتقتها لغات وحضارات متعددة، وشكلت بالتالي حلقة محورية في الحلقات الحضارية الإنسانية الكبرى.
وقد قدر لها البقاء دون تحريف قبل الإسلام ثم زادها الله تعالى عزة وشرفًا وكرامة بأن اختارها لغة كتابه فحفظت بحفظه ورفع شأنها بسببه.
وبالجملة فإن ظاهرة الامتداد التاريخي غير المنقطع للعربية يعود إلى نقطة التحول الكبرى في تاريخ العرب، التي يمثلها الدين الإسلامي وكتابه المقدس القرآن الكريم الذي غير العالم، وحفظ العربية لغة مقدسة، ولغة حضارة وفكر إنساني.
لقد كان الإسلام نقطة انطلاق للعربية من لغة قومية محصورة في إطار قومي جغرافي محدود إلى لغة عالمية، لغة تجاوزت الأطر الجغرافية والقومية لتغدو لغة حضارة كونية فرضت سيطرتها طيلة قرون عديدة وامتدت على مساحة قارات العالم القديم، تاركة آثارها العميقة على كل الشعوب التي دخلت في الإسلام وتعربت، والتي احتفظت بلغاتها الأصلية، كما هي الحال في اللغة الفارسية والتركية والأردية، ولكنها وقعت تحت تأثير العربية لغة القرآن على نحو كبير، تأثير ظهر في كتابة هذه اللغات بالحروف العربية، وفي تبني عدد كبير من مفرداتها وصورها ومصطلحاتها.
لقد كانت العربية لغة حضارة كونية تأسست انطلاقا من العقيدة الإسلامية وكتابها الكريم الذي يمثل نموذجها الأعلى والذي حفظها حية متجددة، وهي إلى هذا لم تتحول إلى لغة لاهوتية، مثل بعض اللغات الأخرى، بل ظلت عبر القرون لغة الحياة والعلم والفكر الإنساني، وكل هذا يؤكد على فضل الإسلام على العربية وأهلها، الأمر الذي يدفعنا إلى ضرورة التمسك بها، والحفاظ عليها والعمل على استعادة مكانتها خصوصًا مع كثرة التحديات وتعدد المعوقات التي تعمل على وأد اللغة والاستهانة بها والخروج بها والدعوة إلى استبدالها أو العمل على تغييرها أو على الأقل مسخها باعتبار ذلك يؤدي إلى مسخ الهوية، وغياب صورة الشخصية التي كونتها هذه اللغة باستنباط نصوص الدين قرآنًا وسنة.
إن العربية اليوم تعاني ما تعانيه الأمة، ولكنها تملك على الرغم من كل ما أصابها ويصيبها من وهن ومن جناية أبنائها عليها عناصر قوة تمكنها من التجدد والانتشار، لكونها مرتكز العقيدة الإسلامية، ولغة حضارة كونية ما زالت تفرض حضورها في العالم حتى يومنا هذا، ولغة تمتاز بمرونة وقابلية غير محدودة للتعبير عن الفكر والعلم والمعارف الإنسانية. ولو أتيح لها حركة ترجمة مبدعة شبيهة بمثيلتها في القرنين الثالث والرابع الهجريين لكنا اليوم أمام نموذج متفوق للغة تعليم في الجامعات بدلا من استعمال لغة أو لغات أجنبية أو هجينة.