لجريدة عمان:
2025-11-19@08:10:34 GMT

وداوها بالتي كانت هي الداء

تاريخ النشر: 8th, May 2024 GMT

نشرت صحيفة الواشنطن بوست في شهر أبريل من العام الماضي 2023م مقالاً مثيراً للجدول بعنوان: « الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتسبب في انقراض جماعي للغات وطرق التفكير»، حاز المقال على اهتمام كبير من مختلف فئات المجتمع؛ إذ طرح موضوعاً بالغ الأهمية وهو التأثير المحتمل لتصاعد ابتكارات نماذج الذكاء الاصطناعي ذات اللغات الكبيرة، مثل ChatGPT-4، وخلفائها الأكثر قوة، والتي يمكنها أن تكتسح اللغات البشرية، ولكن تقلص أعداد اللغات بحد ذاتها ليست المعضلة، فالأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تلاشي مجموعة متنوعة من طرق التفكير والإبداع الإنساني، وهذا يعني انهيار القدرة على إنتاج الابتكارات الإبداعية الخلاقة التي منشؤها الذكاء البشري.

قد تعتقدون أن كاتب المقال هذا هو باحث في علوم استشراف المستقبل، ولديه الشغف في استقراء ما سيؤول إليه حال البشر في قادم الأيام، وذلك في ظل تنامي تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولكن في الواقع كاتبة المقال هي الباحثة الأكاديمية فيوريكا ماريان، وهي مديرة مختبر أبحاث ثنائيات اللسن واللغويات النفسية في جامعة نورث وسترن، وهي مؤلفة كتاب «قوة اللغة: كيف تغير الرموز التي نستخدمها للتفكير والتحدث والعيش عقولنا»، وهو مقال يستحق القراءة، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل تفرض علينا التكنولوجيا بشكل تدريجي وغير محسوس التخلي عن اللغات التي نتخاطب بها؟ وهل اللغات البشرية مهددة بالفعل بالانقراض بسبب العولمة والهجرة والتجانس الثقافي ووحدة أدوات التخاطب الإلكتروني عبر الأنظمة الرمزية للرياضيات والمنطق واللغات الاصطناعية؟ وهل الذكاء الاصطناعي مؤهل لأن يكون إحدى ممكنات لإنقاذ الألسن المفقودة أو إنه في قفص الاتهام؟

في البدء دعونا نقترب من التفاعل بين اللغة والعقل، نجد بأنه رسمياً قد تم تسجيل سبعة آلاف لغة يستخدمها الإنسان حول العالم، وإذا أخذنا في الاعتبار المعدل الطبيعي لانقراض الألسن البشرية فإن عدد اللغات التي تعاقبت على مر تاريخ البشرية هي أكبر من هذا الرقم بكثير، وقد أثبتت بحوث علوم الإثنوغرافيا بأن اللغة هي وجود الإنسان على هذا الكوكب، سواءً كانت اللغة رمزية أو لفظية، وبحسب الأدلة العلمية في علوم كيمياء الدماغ وعلم النفس السلوكي فإن اللغة هي التي تشكل عمل الدماغ البشري، يحدث ذلك عن طريق تنظيم عملية معالجة المعلومات، وبناء الفهم والإدراك، ثم تعزيز الرؤى الذاتية لصناعة القرارات التي نتخذها، وعلى سبيل المثال، إذا تم عرض وقائع معينة على مجموعة من البشر ممن يمتلكون مهارات لغوية متعددة، أو يتحدثون عدة ألسن بالإضافة إلى اللغة الأم، فإن الواقع كما يراه كل واحد منهم هو بمثابة تجربة ذاتية ناتجة عن نشاط الدماغ في دمج المدخلات الظاهرية التي تستقبلها الحواس مع ما يملكونه من المعرفة والخبرة، ثم تأطيرها بالاستعانة بالمهارات اللغوية التي تمكنه من التعبير عنها، وبمعنى أبسط، إن الدماغ يدرك الوقائع ويعالجها بالمفردات اللغوية التي يستطيع أن يعبر بها، وبذلك تتفاوت القدرات إنتاج الصور الإبداعية، وصنوف المخرجات الإبداعية التي يتخيلها المبتكرون والمخترعون والكتاب والشعراء، لأن اللغة تمنحنا تجربة الإدراك من منظور يمكننا من خلاله رؤية الواقع بمستويات مختلفة، وهذا هو الفرق بين الموهوبين وغيرهم من الفئات، وبذلك فإن التفاعل بين اللغة والعقل هو ثنائي الاتجاه، وبشكل اعتمادي، بحيث تؤثر اللغة على الإدراك الحسي والمعنوي، إذ تمتلك اللغات البشرية القدرة على تنشيط شبكات عصبية مختلفة في الدماغ.

وهذا يقودنا إلى وظيفة اللغة في تاريخ الوجود الإنساني، فهي حجر الأساس في حفظ الثقافات الخالدة والمعارف والفنون التي انتقلت عبر الأجيال، بالمثل فإن تاريخ وتقاليد مئات الثقافات انقرضت ببطء لأنها لا تجد طريقة لحفظها ونقلها عبر اللغة، وإذا تأملنا الوضع الحالي للغات المنطوقة اليوم نجدها محدودة وتفتقر إلى التنوع الطبيعي؛ إذ تصاعد تأثير اللغات المهيمنة ثقافيًا مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية لكونها لغات للعلوم والتكنولوجيا والتجارة الدولية، ويعود ذلك إلى حد كبير للعولمة وتداعيات الاستعمار الذي غيَّر الكثير من معالم الحياة على مدار القرون القليلة الماضية، مما ساهم في تعريض لغات الأقليات لخطر الانقراض، وأكبر مثال على ذلك هو أن اللغة الإنجليزية تتصدر قائمة اللغات المعاصرة كلغة محتوى على مواقع الشبكة العنكبوتية، إضافة إلى ذلك فإن هناك العديد من اللغات الأصلية للمجتمعات والشعوب المحلية في مختلف دول العالم والتي ليس لها شكل مكتوب، ومع انخفاض عدد المتحدثين بها بهجرة الأجيال الأصغر عمراً للحواضر المدنية، والميل العام لدى هذا الجيل بالتوجه نحو التكنولوجيا والثقافات الأكثر هيمنة فمن المرجح أن تختفي هذه اللغات من الوجود بشكل نهائي، مما يعني حرفياً فقدان البشرية للمعارف والتاريخ والحكمة والعادات والتقاليد التي لا يمكن استردادها.

ومع تسارع التطور العلمي والتكنولوجي فإن موضوع اللغة لم يعد محل جدل المفكرين، أو اجتهادات علماء التاريخ، ولكنه محط اهتمام الباحثين والمبتكرين من مختلف المجالات وفي مقدمها التقنيات المتقدمة، إذن ماذا يحدث في مختبرات أبحاث الذكاء الاصطناعي، وهل يمكن أن تكون التكنولوجيا التي أسهمت في فقدان الإرث اللغوي يوماً هي نفسها الأداة التي يمكن بها الحفاظ على اللغات المهددة بالانقراض؟ إن البحوث الحالية تتمحور حول تدريب نماذج لغة الذكاء الاصطناعي على كميات هائلة من البيانات من الكتب والمجلات والصحف والمحتوى المتاح عبر الإنترنت، ولكن ما هو متاح لتدريب النموذج يختلف بشكل كبير عن اللغات المنطوقة والمستخدمة اليوم، والتركيز الحالي هو على أعلى عشرين «لغة عالية الموارد» مثل الإنجليزية، والفرنسية، والروسية، والألمانية، واليابانية، وفي المقابل، سينتج الذكاء الاصطناعي كميات هائلة من النصوص الجديدة، وبذلك فإن الناتج هو أقرب ما يكون إلى اللغات الغازية مقارنةً باللغات الطبيعية، ومن المحتمل أن يكون لمثل هذه النماذج الهجينة قوة السيطرة لاستبعاد اللغات التي تتوفر لها موارد أقل للتدريب وتعليم الآلة.

فإذا أخذنا في الحسبان أن الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يساهم في إبطاء احتمالات انقراض بعض اللغات البشرية، إلا أن هذه المسألة لا تخلو من المخاطر، وبحسب المحاولات البحثية والتطويرية القائمة فإن هناك درجة من التحفظات حول قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم عمق اللغات الأصلية بشكل كامل، وهناك جدل علمي لا يستهان به بشأن قدرة البرمجة اللغوية العصبية على فهم اللغة التي يستخدمها البشر في المجتمعات النائية والبعيدة عن ركب التمدن، إذ تعتمد العديد من اللغات الأصلية بشكل خاص على النغمة الصوتية التي لا يمكن إرجاعها إلى حروف واضحة، كما أن اللغات الشفهية تختلف بحسب السياق دون أن تتبع نهجاً نحوياً، أو قاعدة لغوية واضحة مثل عدد كبير من لغات قبائل ومجتمعات الشعوب الأفريقية، وإذا ما تم الاستعانة بالبرمجة اللغوية فإن هذه الجوانب هي أمور مفقودة في معظم المنهجيات التقنية السائدة.

إن واقعنا المعاصر يؤكد في كل مرة بأن التكنولوجيا تعمل بشكل غير مباشر على تسريع معدل اختفاء اللغات الطبيعية، حتى في الوقت الذي توفر فيه الأمل في الحفاظ على اللغات المهددة بالانقراض أو التي انقرضت منذ وقتٍ قصير، وهذا ما يحدث بدون وعي كامل من البشرية التي تنصب اهتماماتها في تسجيل المزيد من الاختراعات العلمية والتقنية غير المسبوقة، وهو أمر يدق ناقوس الخطر لانعكاساته العميقة على الإبداع والذكاء البشري، لأن تعدد اللغات البشرية ليس ضجيجا، بل هو شاهد على تنوع الفكر والإبداع في التجربة الإنسانية، ولطالما أتاحت التكنولوجيا حلولاً ابتكارية للتحديات التي واجهت البشرية عبر تاريخها الطويل، وقد حان الوقت لتوجيه التقنيات المتقدمة في إنقاذ الألسن المهددة بالانقراض، ويأتي في مقدمة ذلك تنظيم أبحاث الذكاء الاصطناعي وتطويرها وتوجيهها في تعزيز أبحاث البرمجة اللغوية العصبية، وبناء النماذج الأساسية للغات الأصلية، وهذا من جهة، وأما من جهة أخرى فإنه من الضروري كسب الوقت للتوصل إلى المزيد من الحلول الابتكارية المستدامة، وذلك بالحفاظ على أكبر عدد ممكن من اللغات الطبيعية، وذلك بتشجيع الابتكار باللغات المحلية، وإتاحة الفرصة بتوثيق وحفظ المعارف الإنسانية، وجذب العقول البشرية المبدعة للمساهمة في توطين لغة الابتكار، وتنشيط الحراك العلمي والمعرفي والثقافي والإنساني لأطول فترة ممكنة، وإطلاق المبادرات النشطة بالشراكة مع القطاعات الإنتاجية في الصناعات الثقافية باعتبار اللغة بمثابة المنجم الذهبي الذي يربط الإنسان بماضيه وحصيلة خبراته، إذ تتيح التقنيات الرقمية الفرصة لدعم المبادرات السريعة مثل تحميل التسجيلات الصوتية للغة، أو الاحتفاظ بالتعبيرات الأخرى للغات غير المكتوبة مثل الرسم والنحت، ويمكن التعلم والاستفادة من الجهود الدولية في هذا المجال مثل مبادرة العقد الدولي للغات الأصلية التابعة للأمم المتحدة (2022 - 2032)، إذ لا يزال بإمكان اللغات الأصلية الصعود إلى العالم الرقمي، والبحث عن فرصة البقاء في المستقبل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

بلومبيرغ: الذكاء الاصطناعي لن ينقذ الاقتصاد الأميركي

أكد الكاتب الأميركي والرئيس الأسبق لبنك الاحتياطي الفدرالي في نيويورك بيل دَدلي -في مقالة رأي نشرها في بلومبيرغ- أن الطفرة الاستثمارية في الذكاء الاصطناعي تعزز سوق الأسهم والاقتصاد الأميركي حاليا، لكنه يرى أن الصورة بعيدة المدى "على الأرجح ستكون أقرب إلى التعادل"، وأن الذكاء الاصطناعي "لن يحل المعضلة المالية الخطيرة التي تواجهها البلاد".

ويقول دَدلي في عموده إن تقييم الأثر المستقبلي للتقنية يحتاج إلى الإجابة عن 3 أسئلة أساسية:

ما مدى تأثيرها على الإنتاجية والنمو؟ ما آثارها على سوق العمل والبطالة؟ ما انعكاسها على أسعار الفائدة؟ إنتاجية مبهمة للذكاء الاصطناعي

وحسب بلومبيرغ، لا يوجد إجماع حتى الآن حول تأثير الذكاء الاصطناعي على الإنتاجية.

ويذكّر دَدلي بأن التكنولوجيات الكبرى تحتاج إلى وقت طويل قبل أن تعيد تشكيل الاقتصاد، مستشهدا بتحولات الكهرباء التي استغرقت عقودا، واقتباس الاقتصادي روبرت سولو عام 1987 بأن الحوسبة تُرى "في كل مكان باستثناء إحصاءات الإنتاجية".

بطء تحول الشركات نحو اعتماد الذكاء الاصطناعي يعزز احتمالات أثر تدريجي لا فوري (شترستوك)

ويشير المقال إلى تباين تقديرات الخبراء، إذ إن الحائز على نوبل دارون أسموغلو يرى أن الأثر لن يتجاوز "أقل من 1%" خلال عقد، بينما قدر اقتصاديون في "غولدمان ساكس" زيادة بنحو 15% عند "اعتماد التقنية بالكامل ودمجها في الإنتاج القياسي".

ويرجح دَدلي أن الزيادة ستكون "متواضعة في البداية، ثم تتسارع تدريجيا" مع انتشار التطبيق الفعلي في العمليات الداخلية قبل الخارجية.

الذكاء الاصطناعي سيستبدل العمال أم سيساعدهم؟

ويرى دَدلي -في مقاله المنشور على بلومبيرغ- أن السؤال المركزي في سوق العمل يدور حول إذا ما كانت التقنية ستستبدل العمال أم ستساعدهم على أداء مهامهم.

ويطرح مثال البرمجة، إذ "تُسرع الأدوات الذكية عملية كتابة الشيفرة وتقلل عدد العاملين المطلوبين"، لكنها في الوقت نفسه "تزيد الطلب على البرمجيات" مع انخفاض كلفة التطوير.

إعلان

ويحذر من أن البطالة قد ترتفع إذا تسببت التحولات السريعة في فقدان عدد كبير من الوظائف خلال فترة قصيرة، مما يؤدي إلى "فترة انتقالية يقف فيها العمال في منطقة رمادية بحثا عن اختصاصات جديدة"، وهو ما قد يرفع معدل البطالة المتوافق مع استقرار الأسعار.

تأثير الذكاء الاصطناعي على أسعار الفائدة

ويفصل دَدلي أن تأثير الذكاء الاصطناعي على أسعار الفائدة "أكثر مباشرة"، لأن الابتكار يرفع العائد المتوقع على الاستثمار، وفي الوقت نفسه يتطلب "استثمارات ضخمة" في البنى التحتية للطاقة والحوسبة، وهو ما يزيد الطلب على رأس المال ويرفع الفائدة الحقيقية.

أثر الذكاء الاصطناعي على سوق العمل يبقى مرهونا بغلبة الاستبدال أو التعزيز الوظيفي (شترستوك)

ويستحضر الكاتب مثال طفرة الإنترنت في تسعينيات القرن الماضي حين ارتفعت الفائدة الحقيقية إلى أكثر من 3% بفعل بناء الشبكات الوطنية للألياف الضوئية.

وحسب بلومبيرغ، يتوقع دَدلي أن يكون تأثير الذكاء الاصطناعي "مقدما زمنيا" بسبب سرعة التوسع والحجم الهائل المطلوب للبنية التحتية.

معضلة مالية لا يحلها الذكاء الاصطناعي

ويرى الكاتب في مقاله أن الأثر المركب للتقنية "لن يكون قادرا على إصلاح المسار المالي غير المستدام" للحكومة الأميركية. فارتفاع الإنتاجية والنمو قد يزيد الإيرادات ويخفض نسبة الدين إلى الناتج، لكن "ارتفاع أسعار الفائدة سيزيد تكاليف خدمة الدين، ويدفع في الاتجاه المعاكس".

ويختتم دَدلي مقاله في بلومبيرغ بالتأكيد أن الذكاء الاصطناعي "مهم بلا شك"، لكنه "لن يغير جذريا آفاق الاقتصاد الأميركي طويلة الأجل"، مضيفا: "يمكن للمرء أن يأمل بالأفضل، لكن الأمل ليس إستراتيجية".

مقالات مشابهة

  • من الدفاع إلى الذكاء الاصطناعي .. تفاصيل الاتفاقيات السعودية الأميركية
  • الذكاء الاصطناعي يُعيد تعريف الثروة!
  • الذكاء الاصطناعي وإنتاج «الهراء»: دعم لموجات التضليل التجاري والإعلامي
  •  "حاسبات الطائف" تتصدر.. الجازي آل عمر بطلة هاكاثون الذكاء الاصطناعي
  • بلومبيرغ: الذكاء الاصطناعي لن ينقذ الاقتصاد الأميركي
  • الدعم النفسي في عصر الذكاء الاصطناعي
  • التلغراف: داعش يستخدم الذكاء الاصطناعي في تجنيد عناصره
  • قصة المرأة التي كانت تنظف المسجد النبوي.. أستاذ بالأزهر يوضح ثوابها
  • جامعة إقليم سبأ تنظّم ندوة تعريفية حول اختبارات اللغة والمنح الدولية
  • سامسونج تضيف خطاً لإنتاج الرقائق لمواكبة طفرة الذكاء الاصطناعي