الفنان سعد الفرج وطاقة التراجيكوميديا الحرّة «2-2»
تاريخ النشر: 8th, May 2024 GMT
ما يجعلني أعود إلى تلك الدراسة يرجع إلى لقاء نُشر على موقع https://www.aljarida.com/articles مع الفنان سعد الفرج تحدث فيه عن عزوف الجمهور الكويتي عن المسرحيات التي كانت تُقدم باللغة العربية الفصحى، ما جعل زكي طليمات في ذلك الوقت عام 1964م أن يغادر فرقة المسرح العربي التي عمل فيها سعد الفرج مشرفًا، والتوجه إلى تأسيس معهد الدراسات المسرحية.
أن تكون اللغة العربية الفصيحة من صفات المسرح الجّاد، فإنَّ النص المحليّ اللهجيّ يَكاد أن يكون في مسرحيات كَتبها سعد الفرج منفردًا، أو مشاركًا مع عبد الأمير التركي، فهي مسرحيات جدية جدًا وصفتها الأساسية «حديث الناس». من ميزات هذا الحديث ما نراه يتجلى في قدرة الفنان سعد الفرج في أثناء تأليفه لمسرحياته تركيزه على نبض الشارع، وعند لحظات تلّفظه بالحوار على الخشبة، معرفته متى يكفّ أو يتوقف.
لقد أشار سعد الفرج في بعض اللقاءات التي أجريت معه حول بعض أدواره، إلى حُسن التخلّص في الأداء، ويظهر ذلك من خلال التزامه بالنصّ واحترامه له، لذا فإن ما قدّمه في مسرحية (الكويت سنة 2000)، ومسرحية أخرى هي (حامي الديار- 1986م) هناك ما يجعلني أطمئن إلى أن المسرحية السياسية التي ألّفها سعد الفرج، لم تقتصر فحسب على تناولها أحاديث الناس في مجتمع مخملي آنذاك، أو «دَقها ناقوس الخطر في مجتمعات الخليج»، بل تكمن أهميتها أيضا، أنها أضحت واحدة من المعالم المهمة في تكوين مهارات سعد الفرج الأدائية.
في مسرحيته (الكويت سنة 2000) قدم سعد الفرج ميلاد ممثل يسعى إلى ابتكار أسلوب أو أداء معين غير محضَّر له في وقت سابق. وعطفا على تأكيد هذه النقطة؛ هذا ما حققه الفرج لاحقا في (درب الزلق) عندما قدم شخصية (سعد العاقول) بتلقائية وبساطة أقرب إلى الابتكار والإبداع، حيث استطاع بهما شق طريقه الخاص كممثل بارز لا يشق له غبار.
تُّعد مسرحية (الكويت سنة 2000) من المسرحيات القليلة التي كتبها مؤلفها على أساس فن الملهاة الهزلية. تنتسب المسرحية إلى خصائص دائرة التأثيل. سألزم نفسي باعتماد مصطلح التأثيل للدلالة على معنى الاكتساب. فمعجما اللغة العربية (لسان العرب المحيط لابن منظور، 1998م، والمنجد في اللغة والأعلام، 1998م) يذهبان إلى أن معنى «أثل مَاله: أصَّله، و تَأثَّل مَالًا: اكتسبه واتخذه وثمره. وكُّل شيء قديم مُؤصَّل أثيلٌ ومؤَثَّل ومتأثِّل. وأثَل المَالَ: زكَّاهُ، أنَماهُ. تأثَّل: تجمَّع والمَال: اكتسبه وثَمَّره».
وبالاستناد إلى كتاب (تكوين الممثل المسرحي في مجتمعات الخليج العربي: دراسة في سوسيولوجيا التكوين الفني للممثل- 2006م) للدكتور الراحل عبدالله إبراهيم غلوم، يُسجل المُؤلف إشارة تتصل بعنوان هذه القراءة، مفادها أن مجتمعات الخليج قد عرفت فن الارتجال والملهاة الهزلية التي عرفها المجتمع في الكويت على يد نموذجها المتفرّد الفنان (محمد النشمي)، حتى صار لها -كما يقول- أتباع كثيرون سواء في الكويت أو البحرين أو قطر، أو المملكة العربية السعودية. وفي موضع آخر يشير غلوم بالقول: إن الكويت والبحرين والسعودية قد سجلت الريادة / أو التأثيل في التوثيق للملهاة الهزلية.
يُعرّف العارفون بالنقد المسرحي الملهاة بأنها نوع من أنواع الكوميديا. وقد مرّ تعريفها في تاريخ الحضارة بإشكاليات عدة بحسب أنواعها المختلفة واتجاه مدارسها. كذلك التراجيكوميديا نالت نصيبها من حيث التأطير، فلا هي بالمأساة العُليا، ولا هي بالكوميدية الدُّنيا. ليس مبالغة القول إن فن التراجيكوميديا يجمع بين التناقض والتضاد، إنّها فنٌّ يقوم على تضمين الموقف الدرامي طاقة الجدّية وطاقة المُضحك في العقل والقلب معًا، مثلا، لنتأمل الحوار في مسرحية (حامي الديار- 1986م) الدائر ما بين الممثلين سعد الفرج، وجاسم النبهان، وعبدالإمام عبدالله، حول الأزمة الاقتصادية، نشاهد فيه كيفية المرونة التي يتنقل بها أداء سعد الفرج بين هاتين المنطقتين -الجدية والمُضحك- دون فقدان السيطرة في حرارة المشهد وجديته.
وإذا تأملنا الفقرة السابقة وعدنا مرة أخرى إلى مسرحية (الكويت سنة 2000م) ونظرنا إلى أدائه سنرى أن طاقة الملهاة الهزلية التي جرى استشفافها ورؤيتها في تلك المسرحية هي الطاقة الممتدة المتجددة في مسرحية (حامي الديار).
يُمكن القول، بمعنى ما، إن الإمكانية التي خلق بها سعد الفرج أسلوبه في أعمال لاحقة؛ كمسرحية (على هامان يا فرعون- 1977م) ومسرحية (حرم سعادة الوزير- 1978م) التي أعدها وقام بالتمثيل فيها، ومسرحيات أخرى ذات بعد سياسي شارك في كتابتها مع عبدالأمير التركي؛ كمسرحية (ممثل الشعب- 1980م)، من النوع الذي يستحث فيه الممثل البحث عن وضعيات التراجيكوميديا الغائرة بأداء حسّاس ومتميز جدًا.
اليوم، لدينا في رصيد الفنان القدير سعد الفرج العديد من المسرحيات والأعمال الفنية الخالدة، ففي المسرح على سبيل المثال لا الحصر هناك (26) مسرحية مثّل فيها، وهناك أيضا ما يقارب (16) مسرحية جمع فيها ما بين التأليف والإعداد، وفي كلّ مسرحية قدّمها واشترك في تمثيلها مع نجوم الصف الأول في الكويت، يضع الفرج بصمته الصوتية الخاصة، والأداء الجسدي الفنيّ المُقنع.
بالانتقال إلى مسار آخر من مسارات الفنان سعد الفرج، هناك محطات قدمها للسينما، فلديه تقريبا (3) أفلام، وفي التلفزيون قدم ما يفوق الأربعين عملا تلفزيونيا، ما بين تأليف القصة والسيناريو والحوار والتمثيل، وما تزال ملامحه وأداؤه المتميز في مسلسل (تورا بورا) الذي لا يَسهل تجاوزه ماثلة في قلب المشاهد؛ فقد ناقش المسلسل في سنة ظهوره وإنتاجه قضية التطرّف في الفكر والتشدد والديني، ومن الأعمال الأخرى التي يَحتاج الوقوف عندها إلى تريث في التحليل دوره الكبير في مسلسل (محمد علي رود) حيث يُثبت لنا سعد الفرج، قدرته الدرامية في تنوع الأداءات البينية -المأساة والكوميديا- ويَنسف بحنكته شخصية مُضحكة أضحكتنا في مسرحية ما، بمجرد نظرة ثاقبة من عينيه يقف فيها في أيّ مسلسل يُمثل فيه.
ففي الموسم الأول من مسلسل (محمد علي رود) يظهر سعد الفرج بشخصية التاجر (عبدالوهاب بن شملان) حيث اكتست ملامح وجهه المعجونة بتحولات السنين حصيلة كل الخبرة والمعايشة الفنية مع الشخصية، وظل ظهوره في المشاهد جميعها؛ سواء مع التجار ومهربي الذهب، أو مع أخته (فتوح) وابنته (نجلا)، وحبيبته في الماضي البعيد (سلطانة) ممثلا قديرا يَملأ المشهد، بجميع تعابير وجهه ولغة جسده.
ففي هذا المسلسل الذي يناقش فترة زمنية ضاربة في القدم، والمليئة بالقصص والحكايات، إلى جانب تناوله التحولات الديمغرافية والعلاقات الإنسانية والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة في مجتمعات الخليج، تضعنا شخصية التاجر الشرير (عبدالوهاب) في سيناريو مُحكم البناء أمام تحديات الممثل، فالأداء الناجح للممثل، لا يستند إلى الاكتفاء بحفظ الدّور الذي سيؤديه ولا إلى التلوّن في درجات الصوت فحسب؛ بل يُحسب النجاح كذلك، في قدرة الممثل وهو واقف أمام الكاميرا ليلفظ جملة حوارية تليق بموقف في الرثاء ما يجعل المتفرجين/ المتلقين/ المشاهدين، يشعرون بأن الجملة نقلتهم إلى مشاعر أخرى هي مزيج من رعب الحياة في الدراما.
والمتعة التي قدمها لنا سعد الفرج في أداء الشخصية، تتحرك في مساحات متداخلة، فهو العاشق المأسوف على عشقه، وهو الزوج الفاقد لزوجه، والأبُّ الحَنون والأخ الساند، والصديق الغادِر، وكذلك هو التاجر الذي يفقد مَكانته في سوق تتحرك سفنه ما بين الكويت والهند في زمن الأربعينيات، ما يجعلنا نتعاطف معه بالخوف عليه، أو نكره أسلوبه في إخفاء سّر الأم على ابنته، إلّا أنّه أيضًا، كان التاجر غير المتهاون في كبح وقاره في مَشاهد تستدعي منه عدم اللياقة، وإزاء كلّ مَشهد، كان يقف فيه يتلّفظ بحوارات هندية قصيرة، أو محلية كويتية، كان الشعور بالمتعة الرفيعة يزداد كثيرًا؛ لأن شيئا من الرهبة المغلّفة بالبساطة، تملأ المُشاهد بمفردات التقدير والإعجاب بخامة فنية نادرة جسّد لونّها باقتدار عالٍ سعد الفرج.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکویت سنة فی مسرحیة ما بین
إقرأ أيضاً:
مسرحية إيرانية عنوانها إخفاء الميليشيات
آخر تحديث: 10 أبريل 2025 - 10:29 صبقلم: فاروق يوسف إلى وقت قريب كان شعار “وحدة الساحات” هو اللازمة التي يرددها زعماء الميليشيات في العراق في محاولة منهم لتأكيد ولائهم المطلق للإستراتيجية الإيرانية في المنطقة القائمة على تصعيد روح المقاومة ضد إسرائيل دعما لحركة حماس التي لا تخفي تبعيتها للسياسة الإيرانية التي تبين فيما بعد أنها تقوم على مبدأ التضحية بالأتباع في حرب، هي مسؤولة عنها غير أنها في الوقت نفسه ليست طرفا فيها. ذلك ما انتهى به الحال في غزة وفي لبنان بعد أن تمكنت إسرائيل من قتل وتصفية زعماء وقادة عسكريين وسياسيين في حزب الله وحركة حماس من غير أن تفعل إيران سوى ما كان يصدر عنها من إنكار لعلاقتها بما كان يحدث. لقد صار واضحا بعدما جرى في غزة ولبنان أن إيران مستعدة للتخلي عن أتباعها الذين هم وكلاؤها في حربها المفتوحة ضد العالم إذا ما شعرت أن النار صارت قريبة منها وقد تشب فيها في أيّ لحظة. وإذا كانت قد فعلت ذلك في زمن الديمقراطي جون بايدن فكيف بها اليوم والرجل الذي يحكم في البيت الأبيض سبق له أن فرض عليها عقوبات مشددة بعد أن انسحب من الاتفاق النووي وهو اليوم يتوعّدها بالشر إذا ما ركبها العناد وأصرت على عدم الإنصات لنصيحته في القبول بمفاوضات ينتج عنها نمط جديد من العلاقات في المنطقة لا تتسيد فيه إيران على دول أخرى. من حق إيران أن تخاف من ضربة إسرائيلية أميركية خاطفة تفقدها أعز ما تملك وهو مشروعها النووي. غير أنها خائفة أكثر بسبب شعورها بأن حربا تُشنّ عليها ولن يقف معها أحد قد تؤدي إلى انهيار نظامها السياسي. ذلك ما لا يمكن القبول به ثمنا لأكثر الأشياء قداسة. فلو خُيّرت إيران ما بين مذهبها الديني الذي يُقال إنها خطه الدفاعي الأول وبين نظامها السياسي لاختارت نظامها وتخلت عن مذهبها. وليس صوابا القول إن إيران دولة مبادئ. الصحيح أنها دولة مصالح سياسية. لذلك فإنها مستعدة للتخلي عن كل شيء مقابل الحفاظ على نظامها السياسي الذي هو عنوان انتصار إمامها الخميني ليس على الشاه وحده، بل وأيضا على المذهب الشيعي الذي لا يحبذ قيام دولة شيعية في ظل استمرار غياب الإمام الحجة. كانت إيران الولي الفقيه دائما حبيسة خرافتها. وظفت كل شيء من أجل أن تظل تلك الخرافة قائمة. والخرافة الإيرانية هي مزيج من الغرور والتعالي الفارسيين الممزوجين بكراهية تاريخية للعرب إضافة إلى مرويات ملفقة بطريقة مضحكة كما لو أنها جزء من حكاية موجهة للأطفال. ولسوء الحظ وبسبب تهاون النظام السياسي العربي وتهافته نجحت إيران في اختراق عقول أبناء بيئات عربية معينة بخرافتها، خرافة مجدها التليد وقوتها في الزمن الحالي. كل الذين غيبهم الموت في حربي لبنان وغزة كانوا مبهورين بالصنيع الخرافي الإيراني. كانت إيران التي حفرت قبورهم بيدها بالنسبة إليهم هي الأمل والمستقبل. خذلت إيران أنصارها، بل خدمها في غزة ولبنان وستخذلهم قريبا في اليمن. غير أن ذلك لم يكن السبب الذي دفع زعماء الميليشيات العراقية التابعة للحرس الثوري الإيراني إلى الإعلان عن قرب تفكيك وحل الميليشيات التي يقودونها عن طريق نزع سلاحها وإذابة أفرادها في الجيش العراقي. يمكن قراءة الموضوع على أنه جزء من مسرحية طرفاها الحرس الثوري الإيراني من جهة ومن جهة أخرى الحكومة العراقية. ففي الوقت الذي أمر فيه الحرس الثوري تلك الميليشيات بالكف عن رفع شعارات الجهاد نجحت الحكومة العراقية في إقناع زعمائها بضم أفرادها إلى الجيش العراقي من غير أيّ نوع من الممانعة وهو ما لم يحدث من قبل. فالميليشيات وحسب تصريحات سابقة لزعمائها تقف مع إيران في كل الأحوال حتى لو شنت حربا على العراق. إيران خائفة بعد أن استلمت قيادتها رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الواضحة في تبنيها خياري الحرب والسلم بالدرجة نفسها. ولأنها صارت على بينة من أن كل شيء من حولها قد يتدهور فتفلت الأمور من يدها بشكل نهائي قررت وبشكل عاجل أن تضع الحكومة العراقية في خدمة مخطط دهائها الذي يتطلب إخفاء الميليشيات التابعة لها. ذلك هو واجب الحكومة العراقية التي ستكون حريصة على القيام بدورها حسب السيناريو المرسوم لها من قبل إيران. لا ميليشيات في العراق. تلك سخرية واضحة واستخفاف علني بعقل العالم. ولكن لنرى ما الذي ستقوله الولايات المتحدة؟