فرنسا والصين.. لقاء المدافع عن مصالح أوروبا والمعسكر المناهض للغرب
تاريخ النشر: 7th, May 2024 GMT
باريس – يبدو أن الحفاوة الفرنسية والثريات المتلألئة في قصر الإليزيه لم تتمكن من حجب التوتر في اللقاء الذي جمع بين زعيم الصين -ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم- شي جين بينغ والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الاثنين في باريس.
ففي ظل اتهامات الحكومات الغربية المستمرة للزعيم الصيني، الذي يعدّ الأقوى منذ ماو تسي تونغ، بمساعدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا وتوفير المعدات لجيشه، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه على شفا حرب تجارية شاملة مع بكين.
وبحضور رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تأتي زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الصيني لمضيفه الفرنسي للتأكيد على مرحلة التحول النموذجي في مجال الاقتصاد العالمي، رغم إصرار ماكرون على مفهوم "المعاملة بالمثل" والدفاع عن "إعادة التصنيع".
محللون انتقدوا وجود فون دير لاين (يمين) في اللقاء الذي جمع الرئيس الفرنسي بنظيره الصيني (الفرنسية) أخطاء بروتوكوليةورغم أن البروتوكول المخصص لرؤساء الدول يعد صارما للغاية بحسب الدول وشخصيات القادة، فإنه تم انتقاد مشاركة فون دير لاين في اللقاء، فضلا عن استقبال شي جين بينغ في الإليزيه بدل قصر فرساي في قاعة المرايا الشهيرة.
وفي هذا السياق، اعتبر الدكتور وأستاذ العلوم السياسية توماس غينولي أن إرسال رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال لاستقبال الرئيس الصيني ليس خطأ خطيرا جدا "لكنه لا يزال محرجا"، خاصة وأن السلطات الصينية -كباقي الدول التي عانت من إذلال الفترة الاستعمارية- حساسة وترغب دائما في أن تحظى بالاحترام، حسب قوله.
وأضاف غينولي، في حديث للجزيرة نت، "قد لا يشكل الأمر مشكلة حقيقية مع دولة أخرى، ولكن عندما تعاني دولة ما من الاستعمار وتكون أنت نفسك دولة مستعمرة سابقة، فمن الواجب الانتباه أكثر لهذه الهفوات الجادة".
من جانبه، برر المستشار السابق في وزارة الخارجية الفرنسية مناف كيلاني ذلك بأن ماكرون ومستشاريه "كلهم شباب وعديمو الخبرة ويعتقدون أن الصين في متناول اليد"، لكنه يستدرك أنهم ينسون أن بكين لم تأتِ لتلقي الدروس، وأنهم أخطؤوا في البروتوكول بإرسال رئيس الوزراء لاستقبال رئيس القوة الاقتصادية الرائدة في العالم.
من جهة أخرى، انتقد كيلاني دعوة ماكرون رئيسة المفوضية الأوروبية "التي تعتبر تابعة لمنظمة أميركية في آخر المطاف"، متسائلا في حديث للجزيرة نت "هل يمكننا الشعور بالتأثير الفرنسي بالفعل؟".
لكن غينولي يرى أن وجود رئيسة المفوضية "حركة ذكية" باعتبار أن أعضاء الاتحاد الأوروبي يشكلون كتلة تجارية متكاملة، وعندما تكون هناك مفاوضات كبرى مثل مفاوضات منظمة التجارة العالمية، تقوم المفوضية الأوروبية بالتفاوض بشأن جميع دول الاتحاد ككتلة واحدة.
واعتبر المتحدث ذاته أنه من المنطقي إشراك المؤسسة المسؤولة عن التفاوض بجميع معاهدات التجارة الحرة الرئيسية التي تشارك فيها فرنسا في الاجتماع، حيث يرى أنه "من المؤسف" أن تنتقد شخصيات سياسية في فرنسا ذلك.
رهان جريءوبما أن الصينيين يتقنون الفنون الدبلوماسية، فقد قرروا توجيه رسالة صريحة لأوروبا بالذهاب إلى صربيا بعد فرنسا، ثم إلى المجر للقاء رئيس الوزراء فيكتور أوربان، حيث يعد البلدان في أوروبا الوسطى متعاطفين مع روسيا، ويشكلان أيضا مصدر إزعاج للغرب، وخاصة بروكسل التي لا وجود لها في جولة الرئيس الصيني بأوروبا.
ويشير المحلل السياسي إيف سنتومر، في حديث للجزيرة نت، إلى أن ماكرون يصر على ضرورة ممارسة الصين ضغوطا على روسيا، لكنه في الوقت نفسه لا يزال يقول إنه مستعد لإرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، مما من شأنه أن يعزز التوتر على النطاق الدولي، ولا يعتبر السبيل الأمثل للدفع نحو التوصل إلى تسوية بين كييف وموسكو.
ولا يتفق سنتومر مع الآراء التي تعتبر أن فرنسا وحدها قادرة على تغيير خط الرئيس الصيني، موضحا أن هناك حاجة إلى لاعبين أكثر قوة، وفرنسا تظل في نهاية المطاف "قوة متوسطة"، وقال "بما أن أوروبا واثقة من قدرة الصين على تخفيف التهديدات النووية الروسية، إذ ليس من مصلحة بكين على الإطلاق خروج المواجهة عن السيطرة، فإن أي خطوة تهدف لخفض التوترات ستكون موضع ترحيب".
بدوره، لفت الباحث والمحلل السياسي المتخصص في العلاقات الدولية جيرالد أوليفيه إلى أن ماكرون غير مقتنع بأن الصين حليفة لروسيا، موضحا أن بكين هي أحد المستفيدين من الحرب الأوكرانية ويمكنها اليوم شراء النفط والغاز بسعر رخيص جدا من روسيا، التي بحاجة إلى بيعه لشراء مكونات الأسلحة لمواصلة الحرب، "وبالتالي، الصين فائزة في كلتا الحالتين".
وقال أوليفيه، في حديث للجزيرة نت، إن إضعاف أوروبا بسبب صراع في قلبها ووجود انقسامات معينة داخلها لا يزعج الصين، واعتبر أن الأمر اللافت للنظر في الزيارة الصينية إلى باريس هو توجه شي جين بينغ إلى صربيا، وهي ليست من دول الاتحاد الأوروبي، ثم إلى المجر، وهي دولة منشقة داخل الاتحاد، بعد لقائه برئيسة المفوضية الأوروبية.
وفي هذا الإطار، يرى أستاذ العلوم السياسية غينولي أنه لا فائدة من جعل بكين وسيطا في الحرب الأوكرانية، لأن الصين وكوريا الشمالية هما الموردان الرئيسيان للأسلحة إلى روسيا، واصفا مطالبة الصين بلعب هذا الدور بـ"الأمر السخيف"، لأن الوساطة تعني اللجوء إلى قوة عظمى لم تدعم ولم تدِن ولم تساعد روسيا أو أوكرانيا، حسب وصفه.
التفوق الصينيلم يكتفِ الرئيس الفرنسي في مناصرة الجانب الأوكراني ضد روسيا، وإنما تبنى الحاجة إلى الحزم في مواجهة التهديد التجاري الصيني للصناعة الأوروبية، متغاضيا عن تبعات ذلك.
ففي الفترة الأخيرة، شجعت باريس المفوضية الأوروبية على اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد هيمنة بكين على التكنولوجيا الخضراء بما في ذلك السيارات الكهربائية، مما فتح المجال أمام إطلاق تحقيق أوروبي لمكافحة دعم السيارات الكهربائية الصينية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وجاء رد الفعل الصيني بتضييق الخناق على منتجات المشروبات الكحولية الأوروبية وخاصة الفرنسية، إذ تمثل أكثر من 90% من جميع الواردات الصينية من الحكول.
ويحلل جيرالد أوليفيه هذه الخطوة بالقول إن هدف الشركات الصينية ليس تحقيق الربح، وإنما الحصول على حصة في السوق على حساب الشركات الأجنبية، وبالتالي يجب على ماكرون اتخاذ موقف أكثر تصادميا كما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عندما شن حرب التعريفات الجمركية على الصين، وسجل نقاطا ونتائج أجبرت بكين على الخضوع لعدد من الشروط غير المتكافئة مع الولايات المتحدة.
من جهة أخرى، يقدم المستشار السابق في وزارة الخارجية الفرنسية رؤية أخرى، إذ يعتبر أن الصين لا تحتاج إلى فرنسا، التي تعتبر شريكها التجاري السابع، لأنها "تستطيع مسحها من خريطة الشركاء واستبدالها بسهولة، فميزان القوى لم يعد كما كان في التسعينيات أو حتى في العقد الأول من القرن الـ21، والقوة الرائدة الآن هي الصين، والجميع لديه مصلحة في إقامة علاقات معها بما في ذلك الولايات المتحدة".
وأضاف كيلاني "لم تعد الولايات المتحدة وأوروبا تصنعان أي شيء، وجميع مكونات الأسلحة التي يتم إرسالها الآن إلى إسرائيل أو أوكرانيا تأتي من الصين، لذا يميل الجانب الحيوي لهذه العلاقة الدولية لصالح الجانب الصيني، كما أن فرنسا لم تعد لها سيادة على قراراتها العسكرية والسياسية".
ومع وجود الظل الأميركي في تفاصيل الزيارة، يستمر ماكرون في تقديم نفسه كمدافع عن أوروبا وطموحه بأن يصبح رئيسا لها غير مدرك ربما لحقيقة أن الصين دولة تضاهي في الحجم الاتحاد الأوروبي وذات خصوصية ثقافية وتاريخية مختلفة عن الهوى الأوروبي.
وفي هذا السياق، يؤكد أوليفيه أنه لا يمكن للشخصيتين أن تتفقا لأن ماكرون يؤمن بأن الأمم تنتمي إلى الماضي، وأنه إذا أردنا أن نتعايش في عالم معولم، يجب على الجميع احترام هذه القيم الأوروبية التي يعتبرها عالمية، وقال "لكنه مخطئ في ذلك لأنه لم يفهم أن سيادة الصين تعني أنها ليست مضطرة إلى الاستماع إلى الدروس الأخلاقية من الآخرين".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات المفوضیة الأوروبیة الاتحاد الأوروبی الرئیس الصینی أن ماکرون أن الصین
إقرأ أيضاً:
أي ثمن دفعه السوريون لقاء نقل الغاز القطري إلى أوروبا عبر تركيا؟
لم يمضِ أسبوع واحد على تسلّم المجموعات المسلحة زمام الأمور في سوريا حتى طفت على سطح المشهد السوري المعقّد، وقبل استتباب الأمور، مسألة خط أنابيب نقل الغاز القطري عبر الأراضي السورية وصولاً إلى تركيا فأوروبا، وهو مشروع قديم، يعود للعام 2009، رفضه الرئيس السوري بشار الأسد في حينه، أي قبل سنتين من اندلاع الحرب في سوريا.
المشروع، الذي ستتكفّل قطر بتكاليفه التي تصل إلى 10 مليارات دولار، يمتد على مسافة 1500 كيلومتر، انطلاقاً من حقل جنوب فارس/الشمال في قطر، مروراً بالسعودية والأردن وسوريا ثم تركيا ومنها إلى القارة الأوروبية، كان من شأنه أن يقلّل الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي (قبل اندلاع الحرب الأوكرانية) وأن يحوّل تركيا إلى مركز ثقل استراتيجي كمنصة توزيع غاز إلى أوروبا وغيرها.
هذا الخط سيؤمّن للموزّع التركي جزءاً كبيراً من غاز الشرق الأوسط بالإضافة إلى كميات الغاز الضخمة التي تصل تركيا من أذربيجان عبر الخط العابر للأناضول “تاناب”، وهو خط يربط حقول غاز أذربيجان على بحر قزوين مروراً بجورجيا وصولاً إلى تركيا باتجاه أوروبا وقدرته الحالية 22 مليار متر مكعب سنوياً، (10 مليارات للاستهلاك التركي و12 ملياراً إلى أوروبا)، وهذه الكمية يمكن أن تصل إلى نحو 60 مليار متر مكعب سنوياً عام 2026 بعد الانتهاء من مدّ خطوط أنابيب إضافية بين أذربيجان وتركيا والمعروف بـ”الممر الجنوبي للغاز”.
أسباب رفض الأسد لمشروع قطر/تركيا
سلّطت وسائل الإعلام الغربية ومراكز القرار الغربي في حينه الضوء على المصالح الروسية كسبب وحيد لرفض الرئيس الأسد المشروع التركي – القطري، لأن الغاز القطري سيحلّ محلّ الغاز الروسي الذي كان، قبل الحرب في أوكرانيا، يؤمّن 45% من احتياجات أوروبا للغاز الطبيعي.
وهذه الفرضيّة صحيحة إلى حد ما، فموسكو حليفة تاريخية لسوريا ومن غير المتوقّع أن تأخذ دمشق قراراً يهدّد مصالح حليفتها، واتهم الأسد في حينه أنه فضّل مصالح روسيا على مصلحة شعبه الذي كان بالإمكان أن يستفيد من حقّ مرور الغاز في أراضيه، لكنّ الوقائع التي كشفت منذ تلك المرحلة، تفيد بأنّ رفض الأسد كان له سبب وجيه آخر ويعود لسوريا بمنافع اقتصادية أعلى بكثير من الخط القطري التركي.
كان الأسد يناقش في تلك المرحلة، وبدعم روسي، مشروع بناء خط أنابيب لنقل الغاز الإيراني عبر العراق وصولاً إلى أوروبا عبر نافذة سوريا على المتوسط، وكان بإمكان هذا المشروع أن يؤمّن احتياجات سوريا من الغاز عبر حقّ المرور، وثانياً سيحوّل سوريا إلى مركز استراتيجي لتصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا بديلاً من تركيا، وقد تمّ بالفعل توقيع مذكّرة تفاهم بين الدول الثلاث؛ إيران والعراق وسوريا في يوليو عام 2011، أي بعد ثلاثة أشهر فقط على بدء الحرب السورية، على أن يكون جاهزاً للعمل بحدود العام 2016، وحدّدت التكاليف بنحو 10 مليارات دولار.
وبالتزامن مع طرح إردوغان للمشروع القطري التركي على سوريا عام 2009، تمّ اكتشاف حقول ضخمة من الغاز الطبيعي في الحوض الشرقي للمتوسط (الأراضي المحتلة لبنان سوريا وقبرص ومصر)، وتمّ توزيع رخص التنقيب مباشرة على شركات أمريكية وأوروبية وهذا ما رفع أهمية المشروع لكونه يمكن أن يتكفّل بنقل الغاز المكتشف حديثاً عبر الخطوط التركية.
على هذا الأساس، يمكن الذهاب نحو الاستنتاج الذي جرى الحديث عنه بإسهاب مع بداية الحرب في سوريا، عن أن المشروع القطري التركي ورفض الرئيس السوري له كانا سبباً وجيهاً لبدء حرب إسقاط الأسد عام 2011 من قبل الأطراف المعنية بالغاز، وكان هذا أيضاً واحداً من الأسباب التي دفعت روسيا لدخول الحرب.
لهذا السبب دخلت روسيا في الحرب لأنّ أيّ تغيير للنظام في سوريا في تلك المرحلة، يعني مجازفة انتظار نظام جديد سيجري تصنيعه بحيث لن يعارض مشروع خط الغاز القطري- بحسب ما يقول البروفيسور ميشيل اورنيشتاين من مركز دراسات روسيا في جامعة هارفرد، كما لن يعارض النظام الجديد في سوريا الترتيبات الإقليمية المطلوبة لتجميع ناتج غاز سواحل شرق المتوسط، على نحو تتوافر فيه كميات تكفي الحاجة الأوروبية وتكون بديلاً نهائياً عن الغاز الروسي.
دور السعودية
يقول الدكتور نفيذ أحمد، وهو كاتب بريطاني في Middle East Eye و The Guardian وله عدة كتب من بينها “الدول الفاشلة والبيئة والاقتصاد”، إن الأمير السعودي بندر بن سلطان، اعتبر أن خطة إنشاء خط أنابيب بين إيران والعراق وسوريا سيشكّل “صفعة مباشرة في الوجه” لخطط قطر وسيرفع من نفوذ إيران بشكل واسع في المنطقة، وقد حاول الأمير السعودي رشوة روسيا طالباً منها عدم السماح بتطبيق هذا المشروع، إذ أبلغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن “أي نظام سيأتي بعد” الأسد، سيكون في أيدي المملكة العربية السعودية بالكامل وأنها ستحافظ على المصالح الروسية في سوريا، وعندما رفض بوتين، تعهّد الأمير بعمل عسكري ضد سوريا.
مشروع النفط العراقي – الإسرائيلي
كما أنّ لـ”إسرائيل” مصلحة مباشرة في مواجهة خط الأنابيب الإيراني العراقي السوري، ففي عام 2003، أي بعد شهر واحد فقط من بدء حرب العراق، نقلت صحيفة الغارديان عن مصادر حكومية أمريكية وإسرائيلية وجود خطط “لبناء خط أنابيب لسحب النفط من العراق الذي تمّ احتلاله حديثاً إلى إسرائيل” (عبر الأردن) وحتى أواخر عام 2007، كان المسؤولون الحكوميون الأمريكيون والإسرائيليون في نقاش مستمر حول تكاليف مشروع هذا الخط الذي سقط لاحقاً بسبب التطورات والتغييرات في العراق.
التحضيرات للحرب منذ 2009
المشروع التركي – القطري حظي بمباركة أمريكية – أوروبية، لأنه سيوجّه ضربة ضخمة للاقتصاد الروسي، ووفقاً لاعترافات وزير الخارجية الفرنسي السابق رولان دوما، فإن بريطانيا “كانت تخطّط لعمل سري وتعدّ مسلحين لغزو سوريا” منذ عام 2009، أي في العام نفسه الذي اقترح فيه إردوغان مشروع خط أنابيب الغاز القطري على الأسد.
وفي العام 2011، واستناداً إلى رسائل إلكترونية مسرّبة من شركة الاستخبارات الخاصة “ستراتفور”، وفيها ملاحظات من اجتماع مع مسؤولين من البنتاغون، كشف أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تدرّبان منذ عام 2011 قوات المعارضة السورية بهدف استنباط “انهيار” نظام الأسد من الداخل.
على هذا الأساس، ومنذ العام 2011، تحالفت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وتركيا و”إسرائيل” لتقديم الدعم العسكري للمجموعات المسلحة في سوريا، وكانت معظم هذه الأسلحة، بحسب “نيويورك تايمز”، تصل إلى “المجموعات الإسلامية المتشدّدة” بما فيها جبهة النصرة التي لا تزال حتى الآن على لائحة الإرهاب الأمريكية، والتي استولى مقاتلوها في منتصف العام 2013، بالتحالف مع “الجيش الحرّ” المدعوم من تركيا، على حقول النفط في محافظتي دير الزور والحسكة، وحقّقوا منها أرباحاً هائلة.
القصة تعود إلى أحداث 11 سبتمبر 2001، فقد كشف الأمين العام المتقاعد لحلف شمال الأطلسي ويسلي كلارك، بحسب الكاتب البريطاني الدكتور نفيذ أحمد، عن فحوى مذكّرة من مكتب وزير الدفاع الأمريكي بعد أسابيع قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر عن خطط لمهاجمة وتدمير الحكومات في سبع دول في غضون خمس سنوات، بدءاً من العراق وانتقالاً إلى سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران، والهدف السيطرة على موارد النفط والغاز الهائلة في المنطقة.
هذا الكلام يتقاطع إلى حد بعيد مع تقرير صدر عام 2008 عن مؤسسة “راند” الأمريكية للبحوث العسكرية بتمويل من الجيش الأمريكي، تحت عنوان “كشف مستقبل الحرب الطويلة”، وفيه أن الدول الصناعية ستستمر بالاعتماد بشكل كبير على النفط، وبما أن معظم النفط لا يزال يستخرج من الشرق الأوسط، فإن الولايات المتحدة لديها “الدافع للحفاظ على العلاقات الطيبة مع دول الشرق الأوسط واتخاذ كلّ الإجراءات لمنع خسارة السيطرة ولو الجزئية على نفط وغاز المنطقة.
لقد كان واضحاً، أن الرئيس السوري السابق بشار الأسد، بتحالفه مع إيران والاتفاقية التي وقّعها الطرفان مع العراق قد أثارت مخاوف استراتيجية لدى مجموعة من الدول في مقدّمتها تركيا و “إسرائيل”، الخاسرتان من خط الأنابيب الإيراني – العراقي، فمن جهة سيمنع على تركيا التحوّل إلى منصة غاز دولية، تستخدمها كما فعلت روسيا لعقود طويلة، للضغط على الأوروبيين، فالرئيس التركي لم ولن ينسى رفض الأوروبيين لمشروع انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي.
أما بالنسبة لـ “إسرائيل”، التي تحوّلت الى دولة مصدّرة للغاز وعقدت خلال السنتين الماضيتين اتفاقيات لنقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، فإنها تجد في الخط القطري التركي حلاً مثالياً لنقل غازها إلى القارة العجوز، ومن جهة ثانية، تخلّصت عبر التغيير الحاصل في دمشق، من مشروع غاز معادٍ لها، لأنّ نجاح خط الأنابيب الإيراني العراقي سيشكّل بالتأكيد رافعة اقتصادية استثنائية لهذه الدول.
إن الصراع على الغاز والنفط، يبدو أنه هو من حدّد طبيعة التدخّل في سوريا وتغيير الأنظمة، ليس بالضرورة الاهتمام بحياة السوريين، فقد قال رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة السابق الجنرال مارتن ديمبسي: سوريا ليست مسألة اختيار بين جانبين بل اختيار جانب واحد من بين العديد من الجوانب، وأعتقد أن الجانب الذي نختاره لا بدّ أن يكون مستعدّاً لتعزيز مصالحه ومصالحنا عندما يتحوّل الميزان لصالحه.
ويروي روبرت كينيدي، ابن شقيق الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي، أن واشنطن واعتباراً من العام 2000 اتخذت قراراً بالعمل على مشروع يصبح فيه الغاز القطري بديلاً من الغاز الروسي الذي يتحكّم برقبة أوروبا، وقال في مقابلة مع مجلة “بوليتكو” إن القرار الأمريكي اتخذ بعد 10 سنوات بالتخلّص من الرئيس الأسد الذي “تعرّض للضغط الروسي في رفضه المشروع القطري – التركي.
قبل أيام قليلة، أعلن في أنقرة أنّ سقوط بشار الأسد أعاد إلى الواجهة مشروع خط الغاز الطبيعي بين قطر وتركيا، وقالت الباحثة السياسية والاقتصادية التركية بشرى زينب أوزدمير، إن سوريا بلد مهم للغاية بالنسبة لدولة قطر من حيث تصدير الغاز الطبيعي، وأشارت إلى أنّ “الثورة السورية” التي استمرت أكثر من 10 أعوام، جعلت المشروع مستحيل التنفيذ، إلا أنه بعد تأسيس نظام مستقر في سوريا، يمكن القول “إن المشروع لن يواجه أيّ عقبات سياسية في المنطقة إذا استمرّ الوضع الراهن”.
السعودية قد تطيح بالحلم التركي
ربما الطموحات التركية متعجّلة بعض الشيء، فالتطوّرات الأخيرة في سوريا بعد سيطرة المجموعات المسلحة على الحكم، وتفرّد قطر من بين دول الخليج بإدارة المعركة لإسقاط الأسد أدّت إلى غضب عارم في الرياض، خصوصاً وأن السعودية كانت قد فتحت أبوابها للرئيس السوري السابق بشار الأسد، وهذا الغضب الذي تتشاركه معها دول عربية أخرى، يمكن أن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه العلاقة من توتر بين عامي 2013 و2021، وقد يطيح معه على المدى المنظور على الأقل أحلام أنقرة الغازيّة.