باريس – يبدو أن الحفاوة الفرنسية والثريات المتلألئة في قصر الإليزيه لم تتمكن من حجب التوتر في اللقاء الذي جمع بين زعيم الصين -ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم- شي جين بينغ والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس الاثنين في باريس.

ففي ظل اتهامات الحكومات الغربية المستمرة للزعيم الصيني، الذي يعدّ الأقوى منذ ماو تسي تونغ، بمساعدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا وتوفير المعدات لجيشه، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه على شفا حرب تجارية شاملة مع بكين.

وبحضور رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، تأتي زيارة الدولة التي قام بها الرئيس الصيني لمضيفه الفرنسي للتأكيد على مرحلة التحول النموذجي في مجال الاقتصاد العالمي، رغم إصرار ماكرون على مفهوم "المعاملة بالمثل" والدفاع عن "إعادة التصنيع".

محللون انتقدوا وجود فون دير لاين (يمين) في اللقاء الذي جمع الرئيس الفرنسي بنظيره الصيني (الفرنسية) أخطاء بروتوكولية

ورغم أن البروتوكول المخصص لرؤساء الدول يعد صارما للغاية بحسب الدول وشخصيات القادة، فإنه تم انتقاد مشاركة فون دير لاين في اللقاء، فضلا عن استقبال شي جين بينغ في الإليزيه بدل قصر فرساي في قاعة المرايا الشهيرة.

وفي هذا السياق، اعتبر الدكتور وأستاذ العلوم السياسية توماس غينولي أن إرسال رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال لاستقبال الرئيس الصيني ليس خطأ خطيرا جدا "لكنه لا يزال محرجا"، خاصة وأن السلطات الصينية -كباقي الدول التي عانت من إذلال الفترة الاستعمارية- حساسة وترغب دائما في أن تحظى بالاحترام، حسب قوله.

وأضاف غينولي، في حديث للجزيرة نت، "قد لا يشكل الأمر مشكلة حقيقية مع دولة أخرى، ولكن عندما تعاني دولة ما من الاستعمار وتكون أنت نفسك دولة مستعمرة سابقة، فمن الواجب الانتباه أكثر لهذه الهفوات الجادة".

من جانبه، برر المستشار السابق في وزارة الخارجية الفرنسية مناف كيلاني ذلك بأن ماكرون ومستشاريه "كلهم شباب وعديمو الخبرة ويعتقدون أن الصين في متناول اليد"، لكنه يستدرك أنهم ينسون أن بكين لم تأتِ لتلقي الدروس، وأنهم أخطؤوا في البروتوكول بإرسال رئيس الوزراء لاستقبال رئيس القوة الاقتصادية الرائدة في العالم.

من جهة أخرى، انتقد كيلاني دعوة ماكرون رئيسة المفوضية الأوروبية "التي تعتبر تابعة لمنظمة أميركية في آخر المطاف"، متسائلا في حديث للجزيرة نت "هل يمكننا الشعور بالتأثير الفرنسي بالفعل؟".

لكن غينولي يرى أن وجود رئيسة المفوضية "حركة ذكية" باعتبار أن أعضاء الاتحاد الأوروبي يشكلون كتلة تجارية متكاملة، وعندما تكون هناك مفاوضات كبرى مثل مفاوضات منظمة التجارة العالمية، تقوم المفوضية الأوروبية بالتفاوض بشأن جميع دول الاتحاد ككتلة واحدة.

واعتبر المتحدث ذاته أنه من المنطقي إشراك المؤسسة المسؤولة عن التفاوض بجميع معاهدات التجارة الحرة الرئيسية التي تشارك فيها فرنسا في الاجتماع، حيث يرى أنه "من المؤسف" أن تنتقد شخصيات سياسية في فرنسا ذلك.

رهان جريء

وبما أن الصينيين يتقنون الفنون الدبلوماسية، فقد قرروا توجيه رسالة صريحة لأوروبا بالذهاب إلى صربيا بعد فرنسا، ثم إلى المجر للقاء رئيس الوزراء فيكتور أوربان، حيث يعد البلدان في أوروبا الوسطى متعاطفين مع روسيا، ويشكلان أيضا مصدر إزعاج للغرب، وخاصة بروكسل التي لا وجود لها في جولة الرئيس الصيني بأوروبا.

ويشير المحلل السياسي إيف سنتومر، في حديث للجزيرة نت، إلى أن ماكرون يصر على ضرورة ممارسة الصين ضغوطا على روسيا، لكنه في الوقت نفسه لا يزال يقول إنه مستعد لإرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، مما من شأنه أن يعزز التوتر على النطاق الدولي، ولا يعتبر السبيل الأمثل للدفع نحو التوصل إلى تسوية بين كييف وموسكو.

ولا يتفق سنتومر مع الآراء التي تعتبر أن فرنسا وحدها قادرة على تغيير خط الرئيس الصيني، موضحا أن هناك حاجة إلى لاعبين أكثر قوة، وفرنسا تظل في نهاية المطاف "قوة متوسطة"، وقال "بما أن أوروبا واثقة من قدرة الصين على تخفيف التهديدات النووية الروسية، إذ ليس من مصلحة بكين على الإطلاق خروج المواجهة عن السيطرة، فإن أي خطوة تهدف لخفض التوترات ستكون موضع ترحيب".

بدوره، لفت الباحث والمحلل السياسي المتخصص في العلاقات الدولية جيرالد أوليفيه إلى أن ماكرون غير مقتنع بأن الصين حليفة لروسيا، موضحا أن بكين هي أحد المستفيدين من الحرب الأوكرانية ويمكنها اليوم شراء النفط والغاز بسعر رخيص جدا من روسيا، التي بحاجة إلى بيعه لشراء مكونات الأسلحة لمواصلة الحرب، "وبالتالي، الصين فائزة في كلتا الحالتين".

وقال أوليفيه، في حديث للجزيرة نت، إن إضعاف أوروبا بسبب صراع في قلبها ووجود انقسامات معينة داخلها لا يزعج الصين، واعتبر أن الأمر اللافت للنظر في الزيارة الصينية إلى باريس هو توجه شي جين بينغ إلى صربيا، وهي ليست من دول الاتحاد الأوروبي، ثم إلى المجر، وهي دولة منشقة داخل الاتحاد، بعد لقائه برئيسة المفوضية الأوروبية.

وفي هذا الإطار، يرى أستاذ العلوم السياسية غينولي أنه لا فائدة من جعل بكين وسيطا في الحرب الأوكرانية، لأن الصين وكوريا الشمالية هما الموردان الرئيسيان للأسلحة إلى روسيا، واصفا مطالبة الصين بلعب هذا الدور بـ"الأمر السخيف"، لأن الوساطة تعني اللجوء إلى قوة عظمى لم تدعم ولم تدِن ولم تساعد روسيا أو أوكرانيا، حسب وصفه.

التفوق الصيني

لم يكتفِ الرئيس الفرنسي في مناصرة الجانب الأوكراني ضد روسيا، وإنما تبنى الحاجة إلى الحزم في مواجهة التهديد التجاري الصيني للصناعة الأوروبية، متغاضيا عن تبعات ذلك.

ففي الفترة الأخيرة، شجعت باريس المفوضية الأوروبية على اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد هيمنة بكين على التكنولوجيا الخضراء بما في ذلك السيارات الكهربائية، مما فتح المجال أمام إطلاق تحقيق أوروبي لمكافحة دعم السيارات الكهربائية الصينية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وجاء رد الفعل الصيني بتضييق الخناق على منتجات المشروبات الكحولية الأوروبية وخاصة الفرنسية، إذ تمثل أكثر من 90% من جميع الواردات الصينية من الحكول.

ويحلل جيرالد أوليفيه هذه الخطوة بالقول إن هدف الشركات الصينية ليس تحقيق الربح، وإنما الحصول على حصة في السوق على حساب الشركات الأجنبية، وبالتالي يجب على ماكرون اتخاذ موقف أكثر تصادميا كما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عندما شن حرب التعريفات الجمركية على الصين، وسجل نقاطا ونتائج أجبرت بكين على الخضوع لعدد من الشروط غير المتكافئة مع الولايات المتحدة.

من جهة أخرى، يقدم المستشار السابق في وزارة الخارجية الفرنسية رؤية أخرى، إذ يعتبر أن الصين لا تحتاج إلى فرنسا، التي تعتبر شريكها التجاري السابع، لأنها "تستطيع مسحها من خريطة الشركاء واستبدالها بسهولة، فميزان القوى لم يعد كما كان في التسعينيات أو حتى في العقد الأول من القرن الـ21، والقوة الرائدة الآن هي الصين، والجميع لديه مصلحة في إقامة علاقات معها بما في ذلك الولايات المتحدة".

وأضاف كيلاني "لم تعد الولايات المتحدة وأوروبا تصنعان أي شيء، وجميع مكونات الأسلحة التي يتم إرسالها الآن إلى إسرائيل أو أوكرانيا تأتي من الصين، لذا يميل الجانب الحيوي لهذه العلاقة الدولية لصالح الجانب الصيني، كما أن فرنسا لم تعد لها سيادة على قراراتها العسكرية والسياسية".

ومع وجود الظل الأميركي في تفاصيل الزيارة، يستمر ماكرون في تقديم نفسه كمدافع عن أوروبا وطموحه بأن يصبح رئيسا لها غير مدرك ربما لحقيقة أن الصين دولة تضاهي في الحجم الاتحاد الأوروبي وذات خصوصية ثقافية وتاريخية مختلفة عن الهوى الأوروبي.

وفي هذا السياق، يؤكد أوليفيه أنه لا يمكن للشخصيتين أن تتفقا لأن ماكرون يؤمن بأن الأمم تنتمي إلى الماضي، وأنه إذا أردنا أن نتعايش في عالم معولم، يجب على الجميع احترام هذه القيم الأوروبية التي يعتبرها عالمية، وقال "لكنه مخطئ في ذلك لأنه لم يفهم أن سيادة الصين تعني أنها ليست مضطرة إلى الاستماع إلى الدروس الأخلاقية من الآخرين".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات المفوضیة الأوروبیة الاتحاد الأوروبی الرئیس الصینی أن ماکرون أن الصین

إقرأ أيضاً:

صحيفة عبرية: القنبلة التي هزت ميناء رجائي الإيراني جاءت من الصين

شددت صحيفة "معاريف" العبرية، على أن شحنة من بيركلورات الصوديوم وصلت إلى إيران قبل نحو شهر، كانت وراء الانفجار الذي وقع في ميناء "الشهيد رجائي" في بندر عباس، زاعمة أن ما وصفته بـ"القنبلة" جاء من الصين.

وأوضحت الصحيفة، في تقرير أعدته مراسلتها السياسية آنا بارسكي، أن السفينة "جيران"، التي تحمل مواد كيميائية تُستخدم في إنتاج وقود الصواريخ، وصلت إلى الميناء الإيراني في شهر آذار /مارس الماضي.

وأشارت إلى أن التقديرات تفيد بأن حوالي ألفي طن من بيركلورات الصوديوم كانت مخزنة في الميناء الإيراني، على حد زعمها.


ولفتت إلى أن شركة "أمبري" الأمنية أكدت أن الشحنة، التي حملت وقودا للصواريخ من نوع بيركلورات الصوديوم، كان من المفترض أن تهدف إلى تجديد مخزون إيران من الصواريخ الباليستية.

كما أوضحت الصحيفة العبرية، أن بيركلورات الصوديوم تُعد مكونًا رئيسيًا في الوقود الصلب الذي يستخدم في هذه الصواريخ بسبب قدرته العالية على إطلاق الأكسجين وبالتالي تحقيق احتراق سريع وقوي.

وأضاف التقرير أن المادة، رغم سهولة تخزينها ونقلها بسبب جفافها النسبي، إلا أنها قد تصبح متفجرة للغاية إذا تعرضت للحرارة أو الاحتكاك، مما يجعلها خاضعة لرقابة دولية مشددة.

ولفتت "معاريف" إلى أن استيراد إيران لكميات كبيرة من بيركلورات الصوديوم أثار مخاوف متزايدة في الغرب، مشيرا إلى أن ذلك يعد انتهاكا للقيود الدولية المفروضة على برنامج طهران الصاروخي، وتهديدا إضافيا للأمن الإقليمي.

وقالت شركة "أمبري" إن الحريق الذي اندلع في الميناء نجم على ما يبدو عن الإهمال في التعامل مع شحنة الوقود الصلب، مشيرة إلى بيانات تتبع السفن التي أظهرت وجود إحدى السفن المحملة بالمواد في الميناء خلال آذار /مارس الماضي. في المقابل، رفضت السلطات الإيرانية تأكيد استلام الشحنة.


ونقلت وكالة الأنباء الإيرانية "إرنا" عن مديرية الجمارك المحلية تحميلها المسؤولية لـ"التخزين غير السليم للمواد الخطرة في منطقة الميناء"، دون تقديم تفاصيل إضافية.

وأشارت الصور التي التُقطت من موقع الحادث إلى وقوع أضرار واسعة النطاق في عدة مواقع داخل الميناء، بينما حذرت السلطات من "تلوث جوي شديد" بسبب انبعاث مواد كيميائية خطرة مثل الأمونيا وثاني أكسيد الكبريت وثاني أكسيد النيتروجين، ما دفع إلى إغلاق المدارس مؤقتا في مدينة بندر عباس.

ويُعد ميناء رجائي مركزا تجاريا استراتيجيا في محافظة هرمزجان جنوب إيران، وقد سبق أن تعرض لهجوم إلكتروني عام 2020 نسبته تقارير إلى "إسرائيل"، في إطار صراع متواصل بين الجانبين في الفضاء الإلكتروني.

مقالات مشابهة

  • بعد مقتل مصلًّ في المسجد .. ماكرون يستقبل عميد المسجد الكبير بباريس
  • WSJ: ترامب منح الرئيس الصيني هدية ثمينة من خلال الرسوم الجمركية
  • الرئيس الصيني: بكين ستحمي بقوة حقوقها ومصالحها
  • ما هي الشبكة الكهربائية الأوروبية المشتركة التي شهدت تعطلاً اليوم؟
  • الأزهر الشريف يدين قتل مصلٍ في مسجد بفرنسا
  • بكين تنفي حدوث أي تواصل بين ترامب والرئيس الصيني
  • بكين ترد على تصريحات ترامب بشأن اتصال الرئيس الصيني به حول الرسوم الجمركية
  • صحيفة عبرية: القنبلة التي هزت ميناء رجائي الإيراني جاءت من الصين
  • ليس لهم مكان في بلدنا .. ماكرون يتوعد قوى الظلام بعد جريمة مروعة تهز مسجدا فرنسيا
  • أول تعليق من ماكرون على مقتل مصل داخل مسجد في فرنسا