قطع شريان الحياة والرحيل للمجهول.. رحلة الفرار من الموت لعائلات رفح تبدأ| يهيمون بلا وجهة آمنة وتهجير بلا نهاية في غزة
تاريخ النشر: 7th, May 2024 GMT
وصف المدنيون الفلسطينيون الذين طلب منهم الجيش الإسرائيلي إخلاء شرق رفح، خوفهم ويأسهم من اقتلاعهم من منازلهم وملاجئهم، في الوقت الذي تقصف فيه الغارات الجوية الإسرائيلية مدينة أقصى جنوب غزة، وذلك رغم أنه كانت هناك آمال في عدم المضي قدماً في هجوم رفح بعد أن قبلت حماس اقتراح وقف إطلاق النار يوم الاثنين، لكن تلك الآمال تبددت بسرعة بعد أن قالت إسرائيل إن الشروط "بعيدة كل البعد عن متطلبات إسرائيل الضرورية" وأنها ستستمر "من أجل ممارسة الضغط العسكري" على الجماعة المسلحة.
وبحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية، فبحلول صباح الثلاثاء، أدت الغارات الجوية الإسرائيلية على رفح إلى مقتل 23 شخصا، من بينهم ستة أطفال، وفقا لمسؤولين في مستشفى في جنوب غزة، وقال الجيش الإسرائيلي إنه يتمتع "بالسيطرة العملياتية" على الجانب الغزاوي من معبر رفح، وهو نقطة دخول حيوية لنقل المساعدات التي تشتد الحاجة إليها إلى القطاع من حدوده الجنوبية مع مصر، وأن الجيش يقوم بما أسماه "عملية دقيقة لمكافحة الإرهاب" من أجل القضاء على حماس وتفكيك البنية التحتية لها في مناطق محددة في شرق رفح، إلا أن الخوف من الأيام القادمة هو الشعور الذى سيطر على أهل رفح مع بداية رحلتهم إلى المجهول.
ما بين النزوح السابع إلى العاشر .. إلى متى؟
وتحدث الأشخاص الفارون من المنطقة عن تجارب مرعبة أثناء سردهم للساعات الأربع والعشرين الماضية لشبكة CNN، بعد أن دعا الجيش الإسرائيلي ما يقدر بنحو 100 ألف فلسطيني إلى "الإخلاء الفوري" يوم الاثنين، وطُلب من السكان الانتقال إلى المواصي، وهي بلدة ساحلية قريبة من مدينة خان يونس تقول جماعات الإغاثة إنها غير مناسبة للسكن، ويقول رجل يدعى ربيع غرابلة إن هذا هو النزوح السابع لعائلته، فالوضع صعب للغاية، وقد غادرنا في خوف، حيث تم استهداف منازل المدنيين، الأشخاص الذين نعرفهم، ويضيف أن القصف كان عشوائياً وعشوائياً الليلة الماضية.
فيما قالت امرأة أخرى، لم تذكر اسمها، إنها هربت من الموت مع أطفالها، وإن عائلتها نزحت أكثر من 10 مرات منذ اندلاع الحرب و"تحملت الكثير من المعاناة والإذلال"، وقد بدأت الحرب في 7 أكتوبر، وفي ما يقرب من سبعة أشهر منذ ذلك الحين، أدى القصف العسكري الإسرائيلي لغزة إلى مقتل أكثر من 34600 شخص، ودفع أكثر من مليون فلسطيني إلى البحث عن ملجأ في رفح، وهي المدينة التي قالت منظمة أطباء سان فرونتيريس الطبية غير الحكومية إنها كانت مكتظة بالسكان.
الذعر يسيطر على الجميع بعد قرار الإخلاء
وبحسب تقرير الشبكة الأمريكية، فقد سيطر على الناس في شرق رفح حالة من الذعر بعد إعلان الإخلاء الإسرائيلي، الأمر الذي أثار موجة من المناشدات من زعماء العالم والأمم المتحدة والجماعات الإنسانية التي تحث إسرائيل على عدم تنفيذ هجومها الذي هددت به منذ فترة طويلة، وقد وصف مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك هذه الخطوة بأنها "غير إنسانية" و"تتجاوز القلق" من قبل المجلس النرويجي للاجئين (NRC).
ويقول فيصل بربخ، الذي فر على دراجته، إنه سيترك وراءه ذكريات العمر "إلى المجهول"، وتابع: "أنا أحمل كل حياتي هنا، وعائلتي ممزقة في سبعة أماكن، وأشعر أنها نهاية الحياة، ولا أستطيع التفكير بعد الآن، لقد تركت 59 عامًا من العمر، كل ذكرياتي، صور أطفالي، عقد منزلي"، وتُظهر لقطات الفيديو وصول العائلات إلى طريق شاطئ دير البلح، الذي يقع إلى الشمال من المنطقة الإنسانية التي حددها الجيش الإسرائيلي، على متن شاحنات وعربات تجرها الحمير وسيارات مكتظة، وكانت سياراتهم مكدسة بالمراتب والأمتعة الشخصية، فيما بدأ أشخاص آخرون في نصب الخيام، وكان العديد ممن يغادرون شرق رفح قد نزحوا في السابق عدة مرات مع انتقال تركيز إسرائيل من مدينة إلى أخرى.
قطع شريان حياة ... إسرائيل تسيطر على المعبر
وبعد اقتحام الجيش الإسرائيلي معبر رفح، تم استبدال الأعلام الفلسطينية بالأعلام الإسرائيلية، والتي يمكن رؤيتها، بحسب الصور المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، معلقة خارج المبنى الرئيسي، وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي شوشاني إن المعلومات الاستخبارية تشير إلى أن الجانب الفلسطيني من معبر رفح "يستخدم لأغراض إرهابية"، وتقول إسرائيل إن عمليات رفح ستمضي قدماً لأن اتفاق حماس لا يزال "بعيداً" عن تلبية مطالبها، ويعد المعبر الحدودي بوابة رئيسية للمساعدات الإنسانية، حيث تدخل عبره ما يصل إلى 300 شاحنة يوميًا، وفقًا لإعلان صادر عن مصر الشهر الماضي.
ويقول وائل أبو عمر، المتحدث باسم الهيئة العامة للمعابر والحدود، لشبكة CNN، إن جميع الحركة وشحنات المساعدات عبر رفح توقفت "بعد سيطرة الدبابات الإسرائيلية على مرافق المعبر من الجانب الفلسطيني"، وحذرت وزارة الداخلية والأمن الوطني في غزة من أن إغلاق معبر رفح "يؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية" و"يمثل سياسة عقاب جماعي ضد أكثر من مليوني شخص"، ووصفت الوزارة المعبر بأنه “شريان الحياة الرئيسي للمواطنين في قطاع غزة” والذي “لا يمثل أي تهديد للاحتلال الإسرائيلي”.
صرخة للإغاثة .. فهل يسمع أحد؟
وسرعان ما أعربت جماعات الإغاثة عن قلقها من أن تؤدي العملية الإسرائيلية هناك إلى توقف جهود الإغاثة الإنسانية في جميع أنحاء قطاع غزة، وقالت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في العاشر من الشهر الجاري إن "استمرار انقطاع دخول المساعدات وإمدادات الوقود عند معبر رفح سيوقف الاستجابة الإنسانية الحرجة في جميع أنحاء قطاع غزة"، وأضافت أن "الجوع الكارثي الذي يواجهه الناس وخاصة في شمال غزة سوف يزداد سوءا إذا انقطعت طرق الإمداد هذه".
ورفض الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق حول، الرد على استفسار الشبكة الأمريكية حول هذا الموضوع والاستفسار عن أي خطط لمواصلة دخول المساعدات إلى غزة، ولكن في الأشهر الأخيرة، أدت الضربات الإسرائيلية إلى مزيد من التدهور في ظروف أولئك الذين يعيشون ويأوون إلى المدينة، بما في ذلك ما يقدر بنحو 600,000 طفل، وقالت منظمة أطباء سان فرونتيرز إن سوء التغذية ينتشر بسرعة، وأصبحت المرافق الطبية "غير فعالة بسبب الحصار الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية".
لا توجد "مناطق آمنة" فى غزة
وكانت هناك جوقة من الإدانة للوضع الذي يواجهه الكثيرون في رفح وأماكن أخرى في القطاع بعد أن تجاهلت إسرائيل النداءات الدولية ضد المضي قدما في العملية، وحذر منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل يوم الثلاثاء من عدم وجود "مناطق آمنة" في غزة بعد انتقاده لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأضاف أنه "يخشى" أن يؤدي الهجوم إلى وقوع العديد من الضحايا المدنيين، وفي الوقت نفسه، منع نقص الوقود في رفح الناس من الفرار والوصول إلى "المنطقة الإنسانية الموسعة" التي حددتها إسرائيل في المواصي، حسبما قالت سوزي فان ميجن، رئيسة عمليات المجلس النرويجي للاجئين في فلسطين لشبكة CNN عبر الهاتف من رفح يوم الثلاثاء.
وقال العديد من الأشخاص في رفح إنهم لا يعرفون إلى أين يذهبون، وهو ما دفع عودة عسلية، مواطن فلسطيني، إن "الموت أكرم من هذا" وإنه "يصلي لكي يُضرب ويرتاح من كل هذا"، وأضافت عسلية: "لا أعرف إلى أين أتوجه... لا يوجد مكان آمن في كل غزة"، فيما قالت آلاء أبو رمضان: " إن عائلتها كانت تنتظر ضوء النهار للمغادرة، ولا نعرف ماذا نفعل، فنحن نتجه نحو المجهول"، بالنسبة لأولئك القادرين على السفر لعدة كيلومترات إلى المواصي، المدينة الساحلية القريبة من خان يونس، يصلون ليجدوها مكتظة بالفعل بالنازحين، ويبدو بعض الوافدين الجدد مرتبكين ومشوشين، وكانت الشوارع مكتظة بالشاحنات والعربات التي تجرها الحمير، وتحيط بها أكوام ضخمة من القمامة.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الجیش الإسرائیلی معبر رفح شرق رفح أکثر من بعد أن فی رفح
إقرأ أيضاً:
عبد الله حمدوك.. المدني الذي آثر السلامة فدفعه الجيش إلى الهامش
في صباح الأول من يناير/كانون الثاني عام 1956، وقف رئيس الوزراء السوداني إسماعيل الأزهري وزعيم المعارضة محمد أحمد المحجوب في ساحة قصر الحاكم العام بالخرطوم، الذي أصبح يُعرف فيما بعد بالقصر الجمهوري، وسط حشد جماهيري مهيب، ورفعا على السارية علم السودان ذا الألوان الثلاثة: الأخضر رمز الزراعة، والأصفر رمز الصحراء، والأزرق رمز الماء والنيل، الذي تغيَّر لاحقا في عهد الرئيس جعفر النميري عام 1970.
على بعد حوالي 700 كيلومتر من مشهد إعلان استقلال السودان في العاصمة، وبالتحديد في مدينة الدبيبات بولاية جنوب كردفان، كانت أرملة المرحوم آدم حمدوك تضع مولودها عبد الله، الذي سيصبح فيما بعد رئيسا للوزراء وأحد أبرز الوجوه السياسية في السودان المعاصر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف نفهم خريطة الصراع في السودان؟list 2 of 2النظرية خضراء والتجربة رمادية.. لماذا تعثر الإسلاميون في السودان؟end of listمن كردفان إلى مانشستر
تعود أصول عبد الله آدم حمدوك إلى قبيلة بني كنانة العربية في سهول كردفان، وقد تلقى تعليمه المتوسط في مدينة الدلنج، ثم انتقل إلى مدينة الأُبيِّض بولاية شمال كردفان، حيث أكمل تعليمه في مدرسة خور طقت الثانوية، وهي إحدى ثلاث مدارس ثانوية تأسست في عهد الاستعمار البريطاني في السودان.
بعدئذ، شدَّ حمدوك الشاب الرحال إلى الخرطوم، فالتحق بجامعة الخرطوم العريقة، التي كانت امتدادا لكلية غردون التذكارية التي أنشأها البريطانيون، وتخصَّص هناك في الاقتصاد الزراعي وتفوَّق فيه، حتى حصل على درجة الإجازة مع مرتبة الشرف عام 1975.
في الجامعة، أدّى الحراك الطلابي دورا محوريا في تشكيل الحياة السياسية السودانية؛ بداية من مؤتمر الخريجين عام 1938 مرورا باشتعال ثورة أكتوبر 1964 ضد نظام الرئيس إبراهيم عبود.
إعلانوقد استمر التفاعل السياسي النشط في الجامعة طوال السبعينيات، فظهرت حركة الطلاب المحايدين، وتلتها صراعات عنيفة في الثمانينيات بين طلاب الجبهة الإسلامية وطلاب اليسار والقوى التقليدية.
وفي خضم هذا الزخم، انضم حمدوك إلى الحزب الشيوعي السوداني أثناء دراسته، لكنه لم ينخرط في السياسة كليًّا، إذ انشغل بالتحصيل الأكاديمي وترك عضوية الحزب بعد وقت قصير.
بدأت مسيرة حمدوك المهنية عقب تخرُّجه عام 1981 حين عمل في وزارتي الزراعة والمالية والتخطيط الاقتصادي حتى عام 1987، قبل أن يتوجَّه إلى بريطانيا لإكمال دراسته العليا بكلية الدراسات الاقتصادية في جامعة مانشستر ضمن بعثة حكومية، رغم إحالته لاحقا إلى "الصالح العام" عام 1990.
وقد حصل حمدوك على الدكتوراه عام 1993، وفي أثناء دراسته تعرف على زوجته منى، الحاصلة على الدكتوراه في التنمية من جامعة لايدن بهولندا، التي تولت منصبا رفيعا في الاتحاد الأفريقي، ولديه منها ولدان، هما علي وعمرو.
من العمل الدولي إلى المرحلة الانتقاليةفي نهاية الثمانينيات، ترك حمدوك العمل الحكومي في السودان وهو في الثلاثينيات من عمره، متوجها إلى زيمبابوي للعمل في شركة "ديلويت"، وهي إحدى أكبر أربع شركات عالمية تعمل في مجال التدقيق والاستشارات المالية، وعمل بها حتى عام 1995، ثم تولَّى منصب كبير المستشارين الفنيين في منظمة العمل الدولية في جنوب أفريقيا وموزمبيق حتى عام 1997.
وبعد ذلك عُيِّن حمدوك في بنك التنمية الأفريقي في ساحل العاج (1997-2001)، ثم انضم إلى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة في أديس أبابا (2001-2003)، حتى أصبح نائبا للأمين العام التنفيذي للجنة، كما عمل أيضا مديرا إقليميا للمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية (2003-2008).
انتقل حمدوك إلى منصب كبير الاقتصاديين ونائب الأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية لأفريقيا منذ عام 2011، قبل أن يُعيِّنه بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، في منصب القائم بأعمال الأمين العام التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا لمدة عام واحد عام 2016.
إعلانشغل حمدوك فيما بعد منصب كبير مستشاري بنك التجارة والتنمية حتى اختير رئيسا لوزراء السودان بعد الإطاحة بنظام البشير عام 2019.
على خلفية سقوط النظام، تأسَّس في يناير 2019 تحالف قوى الحرية والتغيير، وفي أبريل/نيسان 2019 أعلن وزير الدفاع الفريق عوض بن عوف عبر بيان تلفزيوني "اقتلاع النظام والتحفُّظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن"، إلى جانب حلِّ الحكومة وتعطيل الدستور وتشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى إدارة البلاد لمدة عامين.
ولكن بيان بن عوف لم يلق قبول الشارع السوداني الذي رأى فيه إعادة إنتاج نظام البشير، وبعد يوم واحد فقط خرج بن عوف في بيان جديد وأعلن استقالته وكلَّف الفريق عبد الفتاح البرهان برئاسة المجلس العسكري الانتقالي، مع التعهد بتشكيل حكومة مدنية تدير البلاد.
لم تنل تلك الخطة رضا قطاعات من المُحتجين الذين اعتصموا أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، مطالبين بتولي حكومة مدنية. وفي يونيو 2019 وقعت مجزرة القيادة العامة، حيث قتل أكثر من 125 معتصما وانتشرت تسجيلات توثِّق تورط عناصر من قوات الدعم السريع، وجدير بالذكر أن نتائج التحقيقات لم تظهر حتى الآن.
بعد محادثات ووساطة برعاية إثيوبيا والاتحاد الأفريقي، أُعلِن عن الوثيقة الدستورية في أغسطس/آب 2019، وهي صيغة لتقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي والقوى المدنية، وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير، ثم تشكَّل مجلس السيادة الانتقالي لإدارة البلاد لمدة 3 سنوات تقريبا، على أن تتولى رئاسة الوزراء شخصية مستقلة تُرشِّحها قوى الحرية والتغيير، وبناء على هذا الاتفاق أصبح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبا له.
وقع اختيار القوى المدنية على حمدوك لرئاسة الحكومة، وعزز ذلك الاختيار رفض حمدوك تولي وزارة المالية في حكومة معتز موسى، التي تشكلت تحت رئاسة البشير قبيل ثورة ديسمبر، إلى جانب كونه شخصية تكنوقراطية لم يُعرَف لها انتماء أو نشاط سياسي صريح، وكذلك خبرته في التنمية الاقتصادية التي اكتسبها في سنوات عمله، ومشاركته في مبادرات سلام أفريقية للتوسُّط في نزاعات دارفور وكردفان والنيل الأزرق، علاوة على دوره في وضع سياسات النمو الاقتصادي في إثيوبيا أثناء حكومة ميليس زيناوي.
إعلان براغماتي في عاصفة الثورةفي يوم 21 أغسطس 2019، وعلى متن طائرة قادمة من أديس أبابا إلى الخرطوم، وصل الدكتور عبد الله حمدوك، الذي اقترب حينها من منتصف عقده الستين، وأدى اليمين الدستورية أمام البرهان، ليصبح أول رئيس وزراء للسودان عقب الإطاحة بنظام البشير.
في كلمته، وصف حمدوك نفسه بأنه "لا يحمل عصا موسى"، وأنه سيسلك نهجا براغماتيا لإصلاح الاقتصاد السوداني عن طريق وقف الحرب، ثم تنفيذ إصلاحات مستندة إلى نماذج التنمية الغربية ونماذج التنمية التي طُبِّقَت في النمور الآسيوية وكوريا الجنوبية.
ولكن في غضون عشرة أشهر من توليه رئاسة الحكومة، اندلعت مظاهرات في يونيو/حزيران 2020 احتجاجا على ضعف أداء الحكومة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والغلاء المعيشي، وطالبت بتعديلات وزارية وتصحيح مسار الثورة، كما نادت بإصلاح النظام القضائي وإقالة المدير العام للشرطة وتعيين ولاة من الدفة المدنية، واستجابةً لطلبات المتظاهرين، اضطر سبعة وزراء إلى مغادرة الحكومة، بينهم وزراء المالية والخارجية والصحة، إضافة إلى الزراعة والثروة الحيوانية والبنى التحتية، كما أقيل المدير العام لجهاز الشرطة.
وقد سبق ذلك تشكيل لجنة طوارئ اقتصادية لمواجهة تحديات الاقتصاد السوداني، وهي لجنة طالتها انتقادات حادة تساءلت عن كفاءتها، خاصة أنها جاءت برئاسة حميدتي، الذي لم تُعرف عنه أي خبرة اقتصادية سابقة، في حين اكتفى حمدوك بأن يكون نائبا له.
ظهر تهميش المكون المدني المتمثل في حمدوك داخل بنية السلطة الانتقالية بشكل أوضح عندما قاد حميدتي الوفد الحكومي في مفاوضات سلام جوبا مع حركات الجبهة الثورية المسلحة، رغم العداء التاريخي بين الطرفين، وهي خطوة كان من المفترض أن يضطلع بها رئيس الوزراء المدني بخبرته السابقة.
ولكن الأخير اكتفى بإجراء مشاورات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال (جناح عبد العزيز الحلو)، التي رفضت الانضمام لمشاورات جوبا.
إعلانولم تسفر محادثات حمدوك والحلو، إلا عن اتفاق مبادئ لم يتطور لدمج الحركة بفعالية في عملية السلام. وعلى صعيد آخر ساهم حمدوك عبر مباحثات مع الولايات المتحدة في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب في ديسمبر/كانون الأول 2020، وذلك بعد أن وافقت السلطات السودانية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، رغم أن حمدوك سبق أن رفض ربط التطبيع برفع السودان من قائمة الإرهاب وشدَّد على أن قضية التطبيع تحتاج إلى نقاش عميق في المجتمع السوداني.
أعلن حمدوك تشكيل حكومته الثانية في فبراير/شباط 2021 استجابة لمتطلبات اتفاقية جوبا للسلام، وتشكيل حكومة جديدة من 26 وزيرا تضم ممثلين من قوى الحرية والتغيير، والحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق.
وبعد حوالي شهر، تعرض حمدوك لمحاولة اغتيال بعبوة ناسفة استهدفت موكبه في الخرطوم، دون إعلان جهة مسؤولة عن الحادث، وتشكَّلت لجنة تحقيق دون صدور نتائج رسمية حتى الآن.
وقد واجهت الحكومة عدة تحديات من جائحة كوفيد إلى تنفيذ اتفاق السلام الهش مع الجماعات المتمردة، والسعي للتفاوض على اتفاق مع الجماعات التي لم تنضم للاتفاق، وإصلاح قطاع الأمن، وسن قوانين الانتخابات، وعقد مؤتمر دستوري لتشكيل حكومة دائمة، واستكمال هياكل الوثيقة الدستورية، وفي مقدمتها المجلس التشريعي.
علاوة على ذلك، برزت العديد من التحديات الإقليمية، مثل الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة على النيل الأزرق قرب حدود السودان، والنزاع الحدودي مع إثيوبيا في إقليم الفشقة، واستقبال 65 ألف لاجئ إثيوبي نتيجة الصراع في إقليم تيغراي، وكل ذلك في خضم وضع اقتصادي عصيب، وارتفاع أسعار السلع الأساسية ونقص الخبز والوقود، ووصول معدل التضخم إلى 141% عام 2020.
الطريق إلى الأزمةبدا أن حمدوك عازم رغم كل ذلك على السير نحو إصلاحات اقتصادية متوافقة مع أجندة صندوق النقد الدولي متقشفة، ومنها رفع الدعم عن الوقود، وتخفيض قيمة العملة، كما سعى إلى فرض سيطرة الحكومة على الشركات المملوكة لقوى الأمن.
إعلانولكن سياسة التقشف في بلد يفتقر إلى بنى تحتية أساسية وبعد ثورة شعبية عارمة حفَّزتها أزمة اقتصادية عنيفة، سرعان ما فاقمت من معاناة المواطنين، وزادت من الغضب الشعبي، ولذا اعترف حمدوك بالصعوبات الناجمة عن الإصلاحات، لكنه أبدى أمله أن يظهر أثرها الإيجابي بسرعة، وقال إن الشعب السوداني دفع ثمنا غاليا للإصلاحات ولا بد من تحقيق تطلعاته.
على ضوء التملمُل الشعبي والمشهد الانتقالي المُحتقِن بين المكونين المدني والعسكري، أرسل حمدوك يوم 27 يناير 2020 خطابا إلى الأمين العام للأمم المتحدة دون التنسيق مع المكون العسكري، طالبا إرسال بعثة أممية تحت البند السادس من الميثاق لمساعدة السلطة الانتقالية في دفع عملية السلام.
وقد فُسِّرَت هذه الخطوة حينها بأنها التفاف على مجلس السيادة الذي عَدَّ الطلب استقواء بالأمم المتحدة. وبعد عام واحد، مرَّر الكونغرس الأميركي "قانون التحول الديمقراطي في السودان والمحاسبة والشفافية المالية"، وجاء القانون، الذي وقف وراءه ناشطون سودانيون، مُلوّحا بفرض عقوبات إذا لم يُسلِّم العسكريون رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين بعد انقضاء دورتهم وفقا للوثيقة الدستورية.
وصل التوتر بين الطرفين المدني والعسكري إلى ذروته في سبتمبر/أيلول 2021 عندما أُعلِن عن إحباط محاولة انقلابية دبَّرتها مجموعة عسكرية، وقال حمدوك حينها إن المحاولة رتبتها عناصر من داخل المؤسسة العسكرية وخارجها، وأشار إلى سعيها لتقويض المسار الديمقراطي بالبلاد.
ومن جهته انتقد البرهان المدنيين في خطاب له أثناء تخريج دفعة من الضباط قائلا إن "القوى السياسية انشغلت بالصراع على السلطة والمناصب"؛ مما أسهم في وقوع المحاولة الانقلابية، وإن المؤسسة العسكرية لن تترك جهة واحدة تتحكم في مصير البلاد. وقد سار حميدتي على نهج البرهان في مهاجمة المدنيين، وتأكيد مسؤوليتهم عن فشل المرحلة الانتقالية.
انتقلت التجاذبات إلى الشارع وخرجت مظاهرات مؤيدة لكل طرف، كما حدث انقسام بين القوى المدنية ذاتها؛ مما أدّى إلى انشقاق تحالف الحرية والتغيير إلى جناحين، هما المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية، إضافة إلى تصاعد الاحتجاجات المناطقية ضد اتفاق جوبا وبعض بنود الوثيقة الدستورية، وتجلَّى ذلك في إغلاق طريق شرق السودان، الذي تتدفق منه 70% من احتياجات البلاد من الخارج، مع تصاعد انتقادات لحمدوك تتهمه بضعف الأداء وغياب الإنجازات في الملفات العاجلة التي تمس حياة المواطن.
إعلانوقد أعلن حمدوك منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2021 خريطة طريق من عشرة بنود للخروج من الأزمة، لكن بعد أقل من أسبوعين تحرَّك الجيش بمساندة الدعم السريع، ووضع حمدوك تحت الإقامة الجبرية، وحلَّ الحكومة ومجلس السيادة، وعطَّل العمل بالوثيقة الدستورية، وألقى القبض على أغلب أعضاء الحكومة وشخصيات سياسية بارزة.
أتى التحرُّك المفاجئ من الشارع السوداني، فرغم التردي الاقتصادي الذي عاشته قطاعات واسعة من السودانيين أثناء حكومتيْ حمدوك، فإنها خرجت في مظاهرات ضخمة رافضة قرارات الجيش، واعتبرت ما حدث انقلابا على ثورة ديسمبر، ولذا حظي حمدوك بتأييد شعبي كبير ورفع المتظاهرون صوره مطالبين بعودته.
ونتيجة لذلك أفرِج عن حمدوك، وجرى توقيع اتفاق سياسي مع البرهان عاد بموجبه إلى منصبه في نوفمبر/تشرين الثاني، وهي خطوة لم تلق تأييدا من مناصريه وخسر بها جزءا من مصداقيته في صفوف المعسكر المؤيد للانتقال المدني الديمقراطي، إذ تحوَّل في نظر هؤلاء إلى خائن متحالف مع الجيش ويُسهِّل عودة النظام السابق.
برَّر حمدوك موقفة حينها بأنه كان يهدف لحقن الدماء، وقطع الطريق على قوى الثورة المضادة، وحذَّر من أن البلاد "تواجه تراجعا كبيرا في مسيرة الثورة، يهدد وحدتها واستقرارها"، لكن الشارع لم يهدأ، وزادت الانقسامات، وخرج السودانيون في مظاهرات شهدت مناوشات مع الأمن وأسفرت عن ضحايا ومصابين، وهو ما أجَّج الوضع، وجعل حمدوك في موقف أكثر حرجا. وفي 2 يناير 2022، أعلن حمدوك استقالته رسميا من منصبه في خطاب بمناسبة عيد استقلال البلاد، معترفا بفشله في إيجاد توافق سياسي لعبور الفترة الانتقالية.
الحرببعد استقالته، اختفى حمدوك عن الساحة السياسية وتصاعدت الانقسامات داخل المجتمع السوداني، وتعدَّدت المبادرات الإقليمية والدولية للتقريب بين وجهات نظر الفرقاء، إلى أن وُقِّع اتفاق إطاري في ديسمبر 2022 بين الجيش وقوات الدعم السريع من جهة والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير من جهة أخرى.
إعلانوحدَّد الاتفاق فترة انتقالية جديدة مدتها عامان تبدأ بتولي رئيس الوزراء الجديد مهام منصبه. وقد انقسمت المواقف حول الاتفاق بين داعم ورافض، سواء في الشارع السوداني أو بين القوى المدنية، واستمرت الانقسامات والمظاهرات إلى أن ظهرت بوادر خلاف داخل المكون العسكري بإعلان حميدتي أن خطوة الإطاحة بحمدوك في أكتوبر 2021 خطأ فتح الباب أمام عودة النظام القديم، فيما عدَّه كثيرون إشارة إلى تقارب بين قائد قوات الدعم السريع والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير.
وفي صباح 15 أبريل 2023 اندلعت الحرب التي ما زالت تدور رحاها بين القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.
عاد حمدوك إلى المشهد بعد حوالي شهرين من اندلاع الحرب على رأس تحالف "تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية" المعروفة اختصارا بـ"تقدُّم"، وذلك من أجل طرح "رؤية سياسية لوقف الحرب وإعادة الإعمار"، وأعلن التحالف وقوفه على مسافة واحدة من طرفي الصراع الدائر، واعتبر الطرفيْن متساويَّين.
وهي خطوة تسبَّبت في عدد من الانتقادات وأثارت الشكوك حول انحياز "تقدُّم" إلى الدعم السريع، وتواطئها في محاولة إنقاذ مشروع حميدتي بعد فشل انقلابه على الجيش، خاصة بعد أن وقع حمدوك مع حميدتي في أوائل عام 2024 إعلان "أديس أبابا" لوقف الحرب، بعد أن مرَّ حوالي عام على الحرب، التي ارتكبت خلالها قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة بحق المدنيين شملت عمليات تصفية عرقية واغتصاب وتهجير قسري وثَّقتها المنظمات الدولية؛ مما دفع حكومة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن إلى اعتبارها أعمال إبادة جماعية بحق المدنيين.
وتأكَّد هذا التصوُّر لمنتقدي "تقدُّم" عندما انشق فصيل مُهِم عنها أوائل العام الجاري، وانضم صراحة إلى قوات الدعم السريع لتشكيل حكومة سودانية موازية على الأراضي الواقعة تحت سيطرة حميدتي، فيما سُمي بتحالف تأسيس، وهي خطوة تفتح الباب أمام تقسيم فعلي ثانٍ للسودان بعد انفصال الجنوب عام 2011، لكن الإعلان لاقى رفضا إقليميا ودوليا واسعا.
إعلانمن جهته، اكتفى حمدوك ومن بقي معه في "تقدُّم" بإعلان حل التنسيقية، وإنشاء كيان جديد أطلق عليه "صمود"، متبنيا الخطاب السابق نفسه الداعي إلى وقف الحرب، الذي فشل على مدار عامين في تحقيق أي إنجاز يُذكَر.
وقد أطلق حمدوك في أوائل الشهر الجاري عبر حسابه الرسمي على موقع إكس ما أسماه "نداء سلام السودان"، داعيا طرفي الصراع إلى التفاوض برعاية مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي، وهي خطوة اعتبرها كثيرون تفتقر إلى الواقعية السياسية وتتجاهل تطوُّرات الأوضاع الميدانية على الأرض وتقدُّم الجيش في محاور مختلفة وسط هزائم متتالية للدعم السريع، مع احتمال فتح جبهات جديدة للقتال.
ويحدث كل ذلك في ظل أسوأ أزمة إنسانية في العالم يعيشها السودانيون منذ عامين، بحسب تقديرات المؤسسات الأممية، أسفرت عن أكثر من 150 ألف قتيل حتى الآن.
من المؤكد أن شخصية عبد الله حمدوك أتت في ظرف محوري في تاريخ السودان، وأن حبرا كثيرا سيسيل لتقييم دوره، بين منتقد يعتبره مسؤولا عن ضياع ثورة عظيمة أريقت فيها دماء السودانيين الذين بذلوا فيها الغالي والنفيس، بسبب سوء تخطيطه وافتقاره إلى الرؤية والحكمة اللازميْن، وبين مؤيد يعتبر أن الرجل بذل ما في وسعه، وأنه ضحية تآمر العسكر وبقايا نظام البشير.
لكن المؤكد أن حمدوك كان في موضع القيادة وفشل -حسب تعبيره في بيان استقالته- في إيجاد توافق وطني بين مكونات مجتمع غني بتنوعه الثقافي والإثني والسياسي للعبور بالسودان وثورته في لحظة فارقة من تاريخه، ولعل اختيار شخصية تكنوقراطية تفتقر إلى الحس السياسي لقيادة فترة التحول الحاسمة في خضم ثورة شعبية، أمرٌ لم يكن مناسبا.
مع كل ذلك، سيظل حمدوك رمزا للتجربة الانتقالية في السودان؛ مما سيجعل إرثه موضوع نقاش طويل في كتب التاريخ والسياسة.