د. محمد عبد الحميد
كان بإمكان هذا المقال أن يُعمِل أدوات علم التفاوض على مجمل مجريات عمليات التفاوض الجارية لوقف الحرب في السودان تحليلاً وشرحاً، غير أن ذلك قد تبدى مستحيل نظراً لتعقُد وتداخل مسارات التفاوض. وقد لا يكون ذلك مستغرب لأن طبيعة الحرب الدائرة في السودان نفسها لا تخضع لأي معيار علمي في تحليل النزاعات، فهي ليست حرب أهلية بالمعنى المعروف.
بالمقابل فإن تحليل مسارات عمليات الوساطة والتفاوض فيها سيكون مرهق تبعاً لذلك. كما أن مواقف الفاعلين (الوسطاء) نفسها تضيف للإرهاق عسرا، فهناك مبادرة من دول الايقاد والاتحاد الأفريقي لم تتقدم خطوة للأمام. كما أن هناك منبر مفاوضات جدة التي انطلقت برعاية أمريكية - سعودية يمكن أن تُصنّف حسب علم التفاوض بأنها تحمل سمات (المسار الأول Track one) وذلك نسبة لوجود وفدين محددين يتناقشان فيما يطرحه عليهما الوسطاء وفق أجندة محددة، وهي بطبيعتها معلنة في حدود ما يصدر عن الوسطاء من حين لآخر من بيانات عما تم التوافق عليه، غير أنه وبدون مقدمات منطقية إنبثق مسار آخر لا يمكن تصنيفه بأنه يقع ضمن ( المسار الثاني Track two ) ولا هو كذلك مصنف ضمن (المسار المعروف بمسار الواحد ونصف Track 1.5) حسب علم التفاوض. فالمساران الأخيران يشكلان في الغالب الأعم مساران داعمان وممهدان للمسار الأول ويخدمان بإتجاه إثارة الأفكار وتطويرها من قبل فاعلين أكادميين أو ممثلين للمجتمع المدني العريض أو خبراء اختصاصيين في قضايا محددة لا يحملون الصبغة الرسمية، إلا أنهم يساهمون في تسريع الوصول لحل النزاع بأفضل وأيسر السبل.
بينما كانت أنظار المراقبون ترنو لمنبر جدة، فإذا بخبر يعم الإعلام تم تسريبه بشكل مدروس لمنبر آخر "سِري" بمستوى تمثيل رسمي عالي من الطرفين... وبرعاية الرباعية والتي تضم للمفارقة ذات الوسيطين في مفاوضات جدة وهما أمريكا والسعودية مضاف اليهما مصر والإمارات.
هنا تعتلي المشهد معالم الحيرة الكبرى بدرجة ترهق ذهن المتابع كما ترهقه طبيعة الحرب بعدم إمكانية تصنيفها .. فإذا كان منبر جدة واضح المعالم من حيث التصنيف في علم التفاوض، فلا يمكن أن يُصنف منبر التفاوض " السري" في المنامة فهو سري ومعلن في نفس الوقت.. وعال المستوى من حيث التمثيل (الكباشي بوصفه نائب القائد العام للجيش، وعبد الرحيم دقلو قائد ثاني الدعم السريع) ومنبع الحيرة يكمن في أنه لا ينفي وجود منبر آخر أقل منه مستوى وأوضح منه تصنيفاً.. فمنبر المنامة فيما يبدو ليس بديلاً لجدة من ناحية، ولا هو منبر لتطوير الأفكار والآراء لتكون عوناً للمفاوضين في جدة نظراً لمستوى تمثيله. فهو بذلك لا يقع ضمن تصنيف المسار الثاني ولا هو كذلك مسار الواحد ونصف ليتم تحليله من منظور علم التفاوض على أساس محدد ودقيق.. ففيما يبدو أن هذا المنبر مقصود بذاته لذاته بهذه الدرجة من التمثيل العالي لتمهيد ما قد يتمخض عنه أو بشكل أدق لتمهيد ما تمخض عنه فعلياً. ويبدو أن أطرافه وبحكم مواقعها الرسمية مفوضة لإنجاز إتفاق نهائي يكون فيه صيغة مرضية أو مفروضة على الطرفين من قبل رعاة هذا المنبر.. لذلك تميز بأنه منبر تفاوضى غير معهود حسب مسارات التفاوض التي مر ذكرها وبذلك يمكن أن يُصك له مصطلحاً خاصاً به وهو (المسار السريع Fast Track).. كما أنه معني بإيجاد حل قد يكون مكلفاً خاصة للطرف الحكومي (الجيش ومن يواليه من الاسلاميين تحديداً )... فبنظرة عامة لرعاة هذا الإتفاق (أمريكا، مصر، السعودية والإمارات) فإن هنالك ثمة توافق مشترك بينهم في سياساتهم المعلنة والخفية ومشربهم ومزاجهم الفكري، نقطة ارتكازه قائمة على فكرة جوهرية هي إبعاد الاسلاميين من المشهدين الحربي و السياسي في السودان على الأقل في اللحظة الراهنة، وهذا الإبعاد قد لا يتم التوصل إليه من خلال منبر يناقش قضايا فنية في كيفيات وقف الحرب وبناء السلام. فالواضح أن منبر المنامة قد بُني على أرضية فرض حل سياسي يستجيب لرغبة الوسطاء وتصورهم لحل النزاع و وقف الحرب، وهذا التصور قد يقرب الشقة عملياً بين كل الفاعلين بمن فيهم الدعم السريع ولن يكلف الجيش وقيادته الكثير خاصة إذا ما ضمن لهم خروجاً آمناً من المساءلات عن العديد من التجاوزات إبان الثورة وما بعدها.
على عموم الأمر، لن تكون عملية إبعاد الإسلاميين سهلة و رخيصة الثمن. فالإسلاميون قد بنوا حساباتهم ورهان بقائهم ليس فقط على استمرارية الحرب، وإنما على هزيمة قوات الدعم السريع والقضاء عليها قضاءاً مبرماً من خلال العمليات العسكرية، وبذلك صارت الحرب والظفر بها مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم. فقد عبأوا كل قدراتهم وامكاناتهم لخوض الحرب، ونجحوا لحد كبير في تصوير الحرب بحدية مفرطة التطرف واستنفروا فيها قدرات اعلامية ومالية وبشرية مهولة، ونسجوا خطاباً ببطانة داخلية سميكة يصور الحرب وأفق السلام بمعيار واحد وحيد هو القضاء على الدعم السريع وقد تجسد ذلك في شعار (بل بس) ساعدهم في ذلك طبيعة الدعم السريع كقوات غير منضبطة. وفقدان السيطرة الميدانية على سلوك محاربيها فضلا عن عدم وجود رؤية سياسية واضحة المعالم لتكييف الحرب والاتكاء على خطاب متناسق ومتزن يمكن أن يجعل لحربهم معنى أو مغزى اضافة لحالات النهب والسلب والترويع وجرائم الحرب الذي وصمت سلوكهم بكل المخازي المرتبطة بالحروب القذرة.
مهما يكن من أمر، فإن منبر التفاوض "المبهم" في المنامة وبحكم مستويات التمثيل فيه و وزن رعاته إقليمياً ودولياً قد عقد العزم على وضع تصور لإنهاء الصراع بكيفية سيكون الخاسر فيه الأكبر الاسلاميين، غير أن ذلك سيكون أمر صعب المنال حيث لن يستسلم الاسلاميون بسهولة لفرض حل هم اقدر من يصوغ المبررات لرفضه على المستوى الوجداني والسياسي، حيث سيعملون على تمرير خطاب عاطفي (يخون) الطرف الحكومي الموقع واستهدافه بل وتصفية الموقعين عليه جسديا إن لزم الأمر وغالبا ما يلزم.. كما أنهم وبحكم سيادة خطاب الغلو والتطرف الذي تشبعت به أجواء الحرب منذ اندلاعها سيراهنون ساعتذاك على شق صف الجيش نفسه بين (خونة و وطنيين) طبقا لما يستلزم حالة فك الخناق من عنقهم واحداث حالة من البلبلة تشكك حتى في رأس الحكم والتي بدأت وقبل فترة وربما تصفيته حتى تضمن عدم اصطفاف مختلف بعد أن رتبوا الملعب لعودتهم عوداً مظفراً بعد الحرب.
د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com
/////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الدعم السریع یمکن أن کما أن
إقرأ أيضاً:
«الدعم السريع» تستعيد السيطرة على قاعدة رئيسية في دارفور
قالت «قوات الدعم السريع» السودانية إنها استعادت السيطرة على قاعدة لوجيستية رئيسية في شمال دارفور، أمس (الأحد)، بعد يوم من استيلاء قوات منافسة متحالفة مع الجيش السوداني عليها، وفق ما أوردته وكالة «رويترز»، اندلع الصراع بين «الدعم السريع» والجيش في أبريل (نيسان) 2023، ووقعت بعض أعنف المعارك في شمال دارفور، حيث يقاتل الجيش والقوات المشتركة المتحالفة، وهي مجموعة من الجماعات المتمردة السابقة، للحفاظ على موطئ قدم أخير في إقليم دارفور الأوسع.
وقال الجيش والقوات المشتركة في بيانين إنهما سيطرا، أمس، على قاعدة «الزرق» التي استخدمتها «الدعم السريع» خلال الحرب المستمرة منذ 20 شهراً قاعدة لوجيستية لنقل الإمدادات من الحدود القريبة مع تشاد وليبيا.
وقالا إن قواتهما قتلت العشرات من جنود «الدعم السريع» ودمرت مركبات واستولت على إمدادات أثناء الاستيلاء على القاعدة.
ويقول محللون إن الحادث قد يؤجج التوتر العرقي بين القبائل العربية التي تشكل قاعدة «الدعم السريع»، وقبيلة الزغاوة التي تشكل معظم القوات المشتركة.
واتهمت «الدعم السريع» مقاتلي القوات المشتركة بقتل المدنيين وحرق المنازل والمرافق العامة القريبة أثناء الغارة.
وقالت في بيان اليوم: «ارتكبت حركات الارتزاق تطهيراً عرقياً بحق المدنيين العزل في منطقة الزُرق، وتعمدت ارتكاب جرائم قتل لعدد من الأطفال والنساء وكبار السن وحرق وتدمير آبار المياه والأسواق ومنازل المدنيين والمركز الصحي والمدارس وجميع المرافق العامة والخاصة».
الخرطوم: «الشرق الأوسط»