بين انتفاضة الجامعات الأميركية والجامعات العربية
تاريخ النشر: 6th, May 2024 GMT
أكاد أجزم أنه لم يكن يدور في خلد نعمت شفيق رئيسة جامعة كولومبيا للحظة واحدة، عندما استدعت الشرطة الأميركية لتفريق تظاهرة طلبة الجامعة ضد الحرب على غزة، أنها تشعل بيدها انتفاضةً عاتيةً ستمتدّ على طول الجامعات الأميركية الكبرى وعرضها، وتتجاوز الولايات المتحدة لتنتشر في جامعات دولية عريقة في مختلف دول العالم ولا سيما في القارة الأوروبية.
ولعل من المفارقات اللافتة أن تكون بداية هذه الأحداث قد جرت على يد أستاذةٍ من أصل مصري وُلدت في الإسكندرية قبل أن تهاجر عائلتها خارج مصر إلى بريطانيا، فالولايات المتحدة وتحملَ جنسيتهما. فمصر هي الجارة الأقرب لقطاع غزة المحاصر، وهي بوابة غزة الوحيدة إلى العالم، والأستاذة المصرية كانت من حيث لا تدري البوابةَ الكبرى التي أوصلت صوت غزة للمجتمع الطلابي الأميركي، وتسببت في انتفاضةٍ حقيقيةٍ في الجامعات قد يدفع الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن وإدارته ثمنها غاليًا في الانتخابات القادمة بعد ستة أشهر.
انتفاضة الجامعات الأميركية التي انطلقت من جامعة كولومبيا لم تكن الوحيدة في التاريخ الأميركي، فقد عرفت الولايات المتحدة انتفاضتين مشابهتين لهذه الحالة في ستينيات القرن الماضي ضد الحرب في فيتنام – وللمفارقة فقد انطلقت تلك الانتفاضة أيضًا من جامعة كولومبيا – وفي الثمانينيات ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
وكانت الحركة الطلابية في الجامعات الأميركية قد نجحت في هاتين الحالتين في تشكيل حالةٍ عارمةٍ تسببت لاحقًا بشكل غير مباشر في تغيير مسار السياسة الأميركية تجاه فيتنام بالانسحاب منها، وفي فرض العزلة على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا – الذي كانت الولايات المتحدة من أشد الداعمين له – بما ساهم في سقوطه وتفكيكه لاحقًا.
ولعل هذا ما أصاب اللوبي المتحالف مع إسرائيل في الولايات المتحدة بالرعب من الحركة الطلابية الحالية ودفعه لرفع كافة البطاقات الحمراء التي يملكها في وجه طلبة الجامعات؛ ابتداءً بورقة معاداة السامية، وليس انتهاءً بالاتهامات بدعم الإرهاب، وقد أثبت الطلاب في هذه المرة أن هذه الاتهامات المعلبة التي كانت تنجح في لجم أي حراكٍ معادٍ لإسرائيل على مدى سبعين عامًا لم تفلح هذه المرة في ترهيب الطلبة وإرغامهم على التراجع عن مواقفهم.
إسرائيل نفسها أصيبت بالرعب، ووصل الأمر بنتنياهو شخصيًا للتدخل السافر في شأنٍ يعتبر أميركيًا داخليًا، فحرّض علنًا على ضرورة قمع حركة طلبة الجامعات، الأمر الذي حدا ببعض الصحفيين الأميركيين لاعتبار ذلك تدخلًا في الشؤون الأميركية الداخلية بشكل فجّ ووقح.
ثم أتى جلعاد أردان مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة ليعلن أمام أمم العالم كافةً إعلانًا سرياليًا يدعي فيه أن إسرائيل "اكتشفت" أن حماس "تختبئ" في جامعتَي هارفارد وكولومبيا! بل من الطريف أن نجد أن بعض الساسة الأميركيين اضطروا للاستعانة بالأفكار التي استعملتها بعض الأنظمة القمعية فيما يسمونه: "العالم الثالث" عبر استئجار بعض البلطجية للاعتداء على المتظاهرين في جامعة كاليفورنيا، بما يذكرنا بالأسلوب المسمى إعلاميًا: "المواطنون الشرفاء" الذي اتبعته بعض الأنظمة في سنواتٍ ماضيةٍ لقمع التظاهرات.
هذه الحركة الطلابية التي تزداد قوتها يوميًا في الجامعات الأميركية وتنتقل فكرتها إلى الخارج جعلت بعض الأصوات تتعالى في العالم العربي والإسلامي متسائلةً عن دور الجامعات العربية والإسلامية فيما يحدث في قطاع غزة، وعن سبب الهدوء النسبي في الجامعات العربية والإسلامية مقابل ما يحدث في الجامعات الأميركية والأوروبية.
وفي رأيي فإن هذه المفارقة ليست عادلة من عدة وجوه، حيث إن الواجب فهم طبيعة الاختلافات الجوهرية في الحياة الجامعية والعامة بين الولايات المتحدة والبلدان الغربية من ناحية، والبلدان العربية والإسلامية من ناحية أخرى. لا أعني هنا الممارسات الديمقراطية والحرية النسبية الأوسع في العالم الغربي بشكل مختلف كثيرًا عن العالم العربي، بل إن طبيعة وشكل الحراك الاجتماعي الطلابي في هذه المناطق يختلف باختلاف طبيعة المجتمع نفسه.
ففي العالم العربي، لابد من الاعتراف بأن طلبة الجامعات كانوا على الدوام القوة الأسرع تحركًا والأقوى حضورًا في الشارع خارج حدود الجامعات، ولعل حراك طلبة الأردن الذين حاصروا السفارة الإسرائيلية على مدى أكثر من أسبوعين في شهر رمضان المبارك مجرد مثال واحد على طبيعة الحراكات الطلابية في العالم العربي والميدان الذي تتحرك فيه.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الجامعات التركية لا تترك أسبوعًا دون تظاهرات في مختلف الجامعات، بحيث تشكل حالةً عامةً للطلبة تعبر عن غضب الشارع مما يجري وترد على بعض الساسة الأتراك الذين هاجموا المقاومة الفلسطينية، كما فعل بعض طلبة الجامعات قبل أيامٍ حين نشروا لوحاتٍ في خطوط المترو في إسطنبول ترد على رئيس بلدية المدينة المنتمي للمعارضة التركية أكرم إمام أوغلو، الذي وصف حركة حماس بالإرهاب. وهذا ما نراه كذلك لدى طلبة الجامعات في دول أخرى مثل المغرب ومصر وغيرهما عبر حراكات في الشوارع، وليس بالضرورة بأسلوب الاعتصامات في الجامعات كما يجري في الولايات المتحدة.
إن الفارق الأساسي بين هذه التحركات وحركة الجامعات الأميركية هي أنها تعمل في بلدان يعتبر الجو الشعبي العام فيها متعاطفًا بشكل كامل وطبيعي مع الشعب الفلسطيني، بعكس الحالة لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية المختلفة، وهذا فارق جوهري يضاف إلى فارق الحقوق المدنية وحقوق التعبير التي يتمتع بها العالم الغربي بشكل أعلى نسبيًا من المنطقة العربية.
لابد هنا من الإشارة إلى أنني أرى أن التقصير حاصلٌ بالفعل في الحالة العربية الشعبية والرسمية العامة تجاه ما يجري في غزة في مقابل حجم المعاناة غير المعهودة في القطاع الذي يتعرض لحملة إبادةٍ حقيقية، الأمر الذي يجعل أي حراك مجتمعي أو سياسي في المنطقة المحيطة بالأراضي الفلسطينية يبدو غير ذي قيمة كبيرة، إذا ما قُورن بحجم الوحشية الإسرائيلية في غزة، والتي تجعل أي تحرك تقل نتائجه عن وقف هذه المجازر الوحشية يبدو أقل من المطلوب.
لكن من ناحية أخرى، لابد من القول إن تراكم هذه الأعمال بشكلٍ متتالٍ ومتنوع حسب طبيعة البلد وثقافته وهويته، وتصاعُدَ الغضب العالمي بشكل تدريجي، هي مسألة يجب البناء عليها، بل إنها تعتبر الاتجاه الطبيعي لدى الشعوب بشكل عام، لأنَّ حركة الشعوب تعتبر في العادة بطيئة مقارنة بحجم الأحداث، ولكن في مقابل هذا البطء فإن التحرك الشعبي غالبًا ما يكون – عندما يحصل – فعالًا وقويًا وصادمًا، لأنه يكون مبنيًا على تراكم الانفعالات، حتى تتحول إلى تيارٍ جارفٍ لا يمكن الوقوف في وجهه.
وهذا ما يمكن القول إنه يحدث في العالم العربي والغربي على حد سواء اليوم، فالغضب يتصاعد ويتراكم شيئًا فشيئًا، وفي لحظةٍ فارقةٍ لا أحد يستطيع أن يحددها يمكن أن يتحول هذا الغضب إلى حراكٍ عارمٍ. ولعل هذا ما يمكن فهم الحراك الطلابي الأميركي أيضًا في إطاره.
فالطلبة الأميركيّون كانوا يرون ضرائبهم تذهب منذ سنواتٍ لدعم ومساندة إسرائيل بمباركة منظمات اللوبي الصهيوني كالأيباك وغيرها. ولعل من أبرز إشارات هذا التململ الطلابي الشبابي خلال السنوات الماضية كان الدعم الكبير الذي حظي به السيناتور الديمقراطي اليهودي بيرني ساندرز المنتقد علانيةً لإسرائيل لدى طلبة الجامعات الأميركية عام 2016، للفوز ببطاقة الترشح في الانتخابات الرئاسية في وجه هيلاري كلينتون، حيث كانت تلك إشارةً كان على الساسة الأميركيين أن يلتقطوها ليفهموا طبيعة التحولات في المجتمع الطلابي الأميركي الذي يشكل مستقبل التوجه العام للمجتمع الأميركي.
لكن كما يبدو لم يفهم الساسة الديمقراطيون تلك الرسالة، واستمروا في تجاهل التحولات في المجتمع الطلابي الأميركي، لتأتي أحداث حرب غزة الحالية وتطلق العنان للحراك الطلابي بشكل غير مسبوق بعد تراكماتٍ استمرت سنواتٍ طويلة.
ولا أرى ما يشير إلى أنّ مثل هذه الحالة لا تنطبق أيضًا على العالم العربي، وقد رأينا مسبقًا تراكماتٍ أدت إلى انفجار ثوراتٍ كان عمودها الفقري من طلبة الجامعات، وبرأيي فإن على ساسة العالم كله عمومًا، والعالم العربي خصوصًا، أن يلتفتوا إلى شكل وطبيعة حراك الطلبة ويستجيبوا له ولا يحاولوا معاندته أو قمعه، لأنه المظهر الأبرز لطبيعة تحولات الشارع، فمن لم يفطن لهذه المعادلة المتكررة تاريخيًا فسيجد نفسه خارجها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الجامعات الأمیرکیة الولایات المتحدة فی العالم العربی طلبة الجامعات فی الجامعات هذا ما
إقرأ أيضاً:
بريطانيا تحذر من ديب سيك: لوضع معايير تطوير الذكاء الاصطناعي بشكل آمن
الاقتصاد نيوز - متابعة
حذرت المملكة المتحدة مواطنيها وشركاتها، وقالت "توخوا الحذر"، حول سبل التعامل مع نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني الجديد المثير للجدل، ديب سيك DeepSeek، ملوحةً لاحتمال حظره بالكامل.
وقالت وزيرة الذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة، فريال كلارك، في الوقت الذي تواجه فيه الحكومات تحدياً حيال مواجهة التطبيقات الصينية المفتوحة المصدر: "في النهاية، القرار شخصي لكل فرد فيما إذا كان سيقوم بتنزيله أم لا.. نصيحتي هي أن يكون المستخدمون على دراية بالمخاطر المحتملة ويفهموا كيفية استخدام بياناتهم".
وكتبت الوزيرة البريطانية على منصة إكس أن المملكة المتحدة تقود الطريق من خلال وضع معايير عالمية تضمن تطوير الذكاء الاصطناعي بشكل آمن.
وأضافت ستساعد قواعد الممارسة المحدثة على حماية الأنظمة والبيانات المهمة، حتى تتمكن الشركات من تقديم أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تدفع النمو وتحسن الخدمات العامة بشكل أفضل.
وفي اعتراف بتفوق التطبيق الصيني، أقر الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي OpenAI، سام ألتمان، بخطأ عدم استخدام استراتيجية المصدر المفتوح التي تبنتها شركة ديب سيك الصينية.
وكان النموذج الصيني الجديد قد أحدث هزة في الأسواق العالمية، مثيراً أسئلة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي ومعايير الأمان والسلامة وحماية المعلومات الشخصية.
وقال ألتمان "أعتقد شخصياً أننا كنا على الجانب الخطأ من التاريخ هنا ونحتاج إلى معرفة استراتيجية مختلفة للمصدر المفتوح، إن ديب سيك نموذج جيد جداً".
جاءت تعليقات ألتمان خلال جلسة أسئلة على ريديت Reddit وأجاب عن أسئلة، بما في ذلك ما إذا كان سيفكر في نشر أبحاث أوبن إيه آي، وأجاب ألتمان بأنه يؤيد الفكرة وأنها موضوع نقاش داخل الشركة التي يقع مقرها في سان فرانسيسكو.
ووفقاً لألتمان، فإن تطبيق استراتيجية فتح المصدر ليست من أولويات الشركة حالياً إذ لم تتوافق بشأنها آراء جميع مَن بالشركة.
ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التيليكرام