لجريدة عمان:
2024-07-03@14:36:00 GMT

الحرية في بُعدها الحضاري

تاريخ النشر: 5th, May 2024 GMT

عندما يتم الحديث عن البعد الحضاري في أي شأن من شؤون الحياة العامة، فإن الفهم يذهب إلى الشمولية، أو العناوين الرئيسية التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية، حيث تختفي؛ هنا؛ الازدواجية، أو القياس بمعيارين مختلفين، فالفهم الحضاري لا يقبل التقسيم، وإلا اختزلت عندها المفاهيم، وتراجعت في مستويات الأبعاد الحضارية، إلى الحالة العادية، وهي الحالة الفقيرة الجدباء، المرتهنة للنموذج الشخصي البحت، والمطلق، حيث يضيق المفهوم الحضاري هنا، ويختزل إلى أدنى مفاهيمه، بل يتحرر نهائيًا من الارتقاء إلى مفهومه الحقيقي؛ لأن الحضارة مجموعة من الاستحقاقات، فإن لم تتوفر كلها مجتمعة، فإن النموذج لا يمكن أن يطلق عليه على أنه نموذج حضاري، كما هو الحال عندما يتمثل الشخص مع نفسه ويقنعها على أنه فرد «متحضر» فقط؛ لأنه يلبس الغالي من الملابس، ويستخدم الغالي من الأدوات، ويظهر أمام الآخرين بهيئة احتفالية أقرب إلى الزهو، والخيلاء، بينما لو استثاره أحد ما في أمر ما، قد تتساقط كل هذه الصور التي حمَّلها نفسه، وغدا فردًا فقيرًا مسكينًا لا يملك من أمر نفسه شيئًا إلا ما أحاط به من تلك الصور الاحتفالية المؤقتة، يقول الدكتور أحمد قطران: «نقصد بالحرية المتكاملة تساوي أفراد الأمة، وانعدام التفاوت المستند إلى الجنس أو اللون أو المكان، وخضوع كل شيء في الحياة للمنافسة المتساوية، ففي المجال السِّياسي يجب أن تكون المناصب السياسية محل تنافس ليصل إليها الأصلح بغض النظر عن جنسه أو نسبه أو مكانته الاجتماعية، وفي مجال العمل لكل فرد أن يعمل وينتج دون أن يجد عائقًا يعوقه ما دام يسير وَفْق النِّظام والقانون الذي يجب أن يكون دافعًا للتنافس، ولا يخضع التنافس للمحاباة والقرابة وإنما للكفاءة فقط.

فحرية الفكر جزء من الحرية، وحرية التَّدين جزء من الحرية، وحرية العمل جزء من الحرية. فالحرية المتكاملة هي التي تشمل جميع مناحي الحياة سياسة، وفكرًا، واقتصادًا، وكل ما من شأنه أن يصنع حَراكًا في الحياة». بحسب -https://hekmahyemanya.com -.

يرتبط مفهوم الحرية بعدد من المفاهيم المؤسسة للمفهوم الحضاري؛ من ذلك: الاتجاهات الفكرية - القياس عليها ما يؤمن بها أفراد المجتمع ويعبرون عن مواقفهم من خلالها؛ وهي خلاصات تجربة الحياة، وهي التي يعبر عنها؛ غالبا؛ كبار السن من المفكرين، وقادة الرأي - كذلك تأتي المفاهيم الدينية وهي المؤسسة أصلا لمفاهيم الحرية، فالدين الإسلامي خصب بالحديث عن الحرية بكافة مفاهيمها، وجاء أبناؤه معبرين عنها في أقوال كثيرة، ومواقف أكثر، ومن يتتبع النصوص الدينية؛ سواء في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة؛ يجد الكم الكبير من ذلك سواء الداعية بصورة مباشرة إلى احترام الذات الإنسانية، أو تلك التي تشير إلى أحقية الإنسان في كثير من شؤون حياته اليومية فيما يملك، وفيما يعطي، وفيما يهب، مع الحرص الكبير على احترام ذاته الإنسانية وإنزالها المنزلة الكريمة التي تعمل على ديمومة بقائه، وتكاثره، واحترام شخصه، وقراراته فيما يود فعله، في كل ما لا يصطدم مع التعاليم الدينية التي تنهى عن الوقوع في مواطن الزلل والخطيئة، كذلك تأتي القيم الاجتماعية السامية لتزيد من تأصيل الكرامة الإنسانية، لتحقيق توازن القيم والكرامة الإنسانية، وهي تدفع بهذه المُثُل السامية منها إلى تعزيزها، واحترامها، والعمل على توظيفها في المناخات الإنسانية والاجتماعية المختلفة، بل يصل الأمر إلى محاكمة من يحاول أن يعكر صفو المجتمع الأنساني بممارسات لا تعبر عن احترام القيم الاجتماعية، وإنزالها المنزلة المباركة، وذلك كله حفاظا على قوة المجتمع الإنساني وهيبته، وتوقير أفراده، ولذلك تمثل مقولة الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا» النموذج الأمثل لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتأصيل منهج الحرية في بعده الاجتماعي. فالاستعباد الذي يشير إليه النص، لن يكون في مجموعة من الأوامر أو النواهي غير المنطقية فقط، بل يشمل ذلك كل ما يمس الكرامة الإنسانية في حياته اليومية المادية والمعنوية؛ بلا استثناء؛ وسواء أكان الفرد ذا قيمة اجتماعية في محيطه، أو غير ذلك، فتكفي فرديته الإنسانية لأن يحظى بكافة الحقوق التي يكفلها القانون له، دون أن يسعى الفرد إلى المطالبة بما له من حقوق، مع الفهم الواسع بأن عليه حقوق تجاه الآخر، على ألا يكون تأدية هذه الحقوق بطريقة استفزازية، تجعل صاحبها يؤديها من غير اطمئنان نفسي لكي يحصل هو -في المقابل- على حقوقه، لا أبدًا؛ وإنما يذهب الفهم إلى الشمولية في أداء الواجب، وفي الحصول على الحقوق، دون إراقة ماء وجه في كلا الحالتين، وبالتالي متى يصل المجتمع بغالبيته الكبيرة إلى هذا الشعور، يكون بذلك المجتمع تأصلت فيه الحرية في بعدها الحضاري، فالحضارة هنا هي المعنى الشامل لكل المثل والقيم الإنسانية التي يجد فيها الفرد -قبل الجماعة- ضالته فيهنأ بما فيها.

يمكن القول إن الحرية في حالتها المجردة، فقيرة المعنى والدلالة، ولذلك فهي خاضعة لكل احتمالات التوظيف، ومن هنا يتباين هذه التوظيف بين الأفراد والمجموعات في التنفيذ، فكلمة «أنا حر» قد تجر وراءها الكثير من التداعيات في حالة تطبيقها، حيث تخضع كثيرًا لحالة صاحبها النفسية؛ فهي لا تستند إلى حاضنة تاريخية؛ وهذا هو الغالب الأعم في التوظيف، ومن هنا يأتي التلاعب بمفهوم الحرية ودلالاتها المادية والمعنوية. والسؤال: متى تكتسب الحرية حمولتها الحقيقية في الفهم والتوظيف؟ والجواب: عندما تكتسب بعدا حضاريا، وهذا البعد الحضاري له استحقاقات كثيرة، منها؛ العمر الزمني المنجز «التأريخ»حيث يأتي التاريخ كأهم ممول وفاعل لمفهوم الحضارة، ومعنى ذلك لا حضارة بلا تاريخ، مع التأكيد أنه لا يمكن صناعة تاريخ لتأسيس حضارة، بمعنى أنه لا بد أن يأتي التاريخ متسلسلًا عبر مراحل الزمن، وهذا التسلسل؛ لا بد أن يكون منطقيًا؛ تتشكل فيه مراحل الحضارة، بكل مقوماتها الإنسانية والمادية، والمعنوية، والمقصود هنا، بالمعنوية هي ذات الفهم الواعي لمعنى الحضارة، وليس إقحامًا أو تجاوزًا لذات المفهوم، وإلا أصبح في مقدور كل تجمع إنساني أن يطلق على نفسه «حضارة» وهذا مما لا يمكن حدوثه، وفق الفهم الواعي للحضارة، وإلا لأصبحت المفاهيم المهمة، ومنها المفهوم الحضاري، معروضة على الأرصفة للبيع، وبالتالي فكل من عنده القدرة المادية أن يتبضع مما هو معروض، وينشئ معرضًا مشاهدًا للجمهور تحت عنوان «حضارة» وهذا لا يمكن استيعابه؛ فضلًا عن قبوله، ومنها المنجز المادي المتنوع والشامل لمجالات الحياة اليومية الذي حقق من خلالها مجموعات الأفراد مختلف الإشباعات المادية والمعنوية، ومنها ذلك الأثر الطيب الذي حظي به الآخر؛ حيث شيوع الأمن والسلام والرخاء، دون أن يكون هذا الأثر حكرًا لمجموعة معينة من الناس، في حيز جغرافي محدد، فالشمولية تقتضي هنا؛ أن يعم الخير والأمان للناس كافة، وإلا لسقط فهم «البعد الحضاري» دون تحقق كل ذلك، وبالتالي فإن أية مجموعة إنسانية تنادي بالحرية؛ متجاوزة هذه الاستحقاقات فهي لا تزال عند مستويات الحرية الأولى، وهو المستوى المجرد الـ«فقير» للدلالة والمعنى للحرية، وهو المستوى الذاهب إلى الانتصار للذات، وللخصوصية فقط، وبالتالي فهي بعيدة عن مفهوم الحرية في بعدها الحضاري، فالدول الاستعمارية -على سبيل المثال- قد تنادي بالحرية؛ وقد تقطر شيئا منها للمجتمعات في بلدانها المحدودة، من خلال نظم وقوانين محدودة أيضًا، فهي بذلك عند مستويات الحرية الأولى «الحالة المجردة» بدليل أنها لن تستطيع أن تفضي ولو بالشيء اليسير هذا في البلدان التي تحتلها وتنتهك فيها حريات البشر، ومعنى ذلك فإن هذه الأنظمة هي أقرب إلى الديكتاتورية والعنصرية؛ منها إلى الحرية الحقيقية والمساواة، فضلا عن وصولها إلى الحرية في بعدها الحضاري.

أختم هنا -بتقييم خاص- لمفهوم البعد الحضاري لحرية الصحافة والإعلام؛ وهو: إن الحرية الصحفية والإعلامية لا يمكن أن تؤسس بعدا حضاريا لمسيرتها الفنية والموضوعية، وذلك لعدة أسباب منها؛ أولا: إنها ترتهن في أدائها عبر سياسة إدارية حسب نهج المؤسسة التي تنتمي إليها، فهي ليست كيان في ذاتها.

ثانيا: إنَّ جل المؤسسات العاملة في المجال الصحفي والإعلامي محكومة بمجموعة من سيطرة النخب (سياسية؛ اقتصادية؛ دينية؛ اجتماعية) وهذه كلها تمارس على المؤسسة الصحافية أو الإعلامية ضغوطًا غير منكورة.

ثالثا: الحرية الصحافية والإعلامية خاضعة لقناعات الموظف، ومجموعة التجاذبات التي تحيط به الخاصة والعامة، وبالتالي فهو ليس حر حتى يتبنى الحرية، ويعلي من سهم ميزتها الحضارية.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحریة فی لا یمکن

إقرأ أيضاً:

الحياة بعد الستين

الكثيرون منا على مشارف الستين أو ربما وصلناها، والبعض قد يكون اتخذ قرارا بأن يرتاح بعد حياة حافلة بالعمل والعطاء، لكن تقاعدنا نحن أبناء هذا الجيل ليس كتقاعد الأجيال التي سبقتنا، فالمتقاعد في عمر الخمسين منذ عقود مضت لم تكن الحياة المتاحة له مثلما هي متاحة اليوم، فعمر الستين هي الأربعون الجديدة كما يقال، ذلك أن تطور الخدمات الصحية والرفاهية التي يعيشها أبناء جيلنا تجعلنا ليس فقط نعيش لفترة أطول، ولكن نعيش حياة أفضل ونتمتع بصحة جيدة حتى منتصف الثمانينيات من العمر وفقا لتوقعات الحياة.

مما يعني ثلاثين سنة أخرى أمامنا بعد ترك الوظيفة، فما الذي نويت القيام به خلال هذه السنين؟ هل فكرت في وضع خطة جديدة لحياتك، تتضمن تعويض ما فاتك؟ ربما أحلام كنت قد وضعتها في شبابك لكن لم يتسن لك تحقيقها؟ وقد تكون أحلاما جديدة تمخضت عن هذه المرحلة العمرية التي تتسم بالنضج، والتي أثرتها الخبرات، الجميل أن في هذه الفترة كل شيء ممكن ومتاح، ففي كثير من أنحاء العالم تجد المتقاعدين يبدأون في دراسة تخصصات جديدة، ويبدأون العمل في قطاعات مختلفة تماما عما اعتادوا عليه، اليوم القوانين تغيرت، والحدود ذابت فلست مضطرا للدراسة في بلدك، ولست حتى مضطرا للترحال من أجل التعليم والعمل، فالعالم الافتراضي أصبح بين يديك كمصباح علاء الدين الذي يضع العالم بين يديك.

لأولئك الذين يفضلون الراحة والاسترخاء وربما السفر، أصبح هذا متاحًا لهم وبشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية، فكثرة خطوط الطيران أتاحت السفر بكل سهولة، وكثير من الدول ألغت تأشيرات الدخول إليها من أجل جذب السياح والمستثمرين على حد سواء، وأصبح بإمكان المرء شراء بيت والإقامة فيه في أغلب الدول الآن.

بمعنى آخر يمنحك بلوغ الستين اليوم فرصة للبدء من جديد، والأمر متروك لك فيما إذا أردت القيام ذلك أم لا، فكونك بلغت الستين أو تجاوزتها فهذا يعني أن لديك رصيدا من المهارات والمعارف التي تستطيع أن تصنع لك بها حياة ثرية، وتصنع فارقا في حياة من حولك، وتقوم بما كنت ترغب القيام به دائما، إنه عمر جديد فعلا.

حمدة الشامسية كاتبة عمانية في القضايا الاجتماعية

مقالات مشابهة

  • «الحرية المصري»: ننتظر من الحكومة دعم الصناعات الصغيرة وجلب الاستثمارات
  • "الحرية المصري" يكشف عن مطالبه من الحكومة الجديدة
  • "تطبيقات نظم المعلومات الجغرافية GIS في حفظ وتوثيق التراث" ورشة بمكتبة الإسكندرية
  • «الحرية المصري»: نأمل في منهج إبداعي مع التغيير الوزاري الجديد
  • المشروع الحضاري وقفة الملاح
  • "الأورومتوسطي لحقوق الإنسان": انتهاكات إسرائيل ضد الأسرى الفلسطينيين يندى لها جبين الإنسانية
  • التنسيق الحضاري يدرج اسم الفنانة مريم فخر الدين ضمن مشروع «عاش هنا»
  • محطات الانتظار
  • كوريا الشمالية ترد على مناورات حافة الحرية بإطلاق صاروخين
  • الحياة بعد الستين