كلنا يعلم مدى الغزو الدرامي التركي للمنطقة العربية في السنوات الأخيرة خاصة مصر والسعودية، حيث أشار أحد التقارير إلى أن مصر والسعودية ومعهما إسبانيا هم أكبر مستوردي الدراما التركية في عام 2023. وتعتبر تركيا هي ثالث أكبر مصدري الدراما عالميًّا بعد كل من أمريكا وبريطانيا، وتعرض المسلسلات التركية في ١٧٠ دولة حول العالم.
ورائحة الصندوق عزيزي القارئ هو اسم مسلسل تركي يتم بثه مؤخرًا عبر المنصات الرقمية والقنوات الفضائية المدفوعة بمصر، والمنطقة العربية، وهو مسلسل تدور أحداثه في إطار اجتماعي يعكس جانبًا من حياة الأسرة التركية والمشكلات التي تتعرض لها، وذلك في سياق درامي يتسم بالواقعية ويمزج بين الرومانسية والانكسار والانتقام وهى سمة غالبة في الميزة التنافسية للدراما التركية. والمسلسل مثله مثل الكثير من المسلسلات التركية التي استحوذت على عقل واهتمام ومشاعر المشاهد العربي- فهو يوظف مفردات الإبهار المختلفة من جودة الحبكة الدرامية والأحداث الرومانسية ووسامة الممثلين وأماكن التصوير والإخراج وغيرها. ولكن للأسف وكغيره أيضًا مثل العديد من المسلسلات التركية، فإنه يقدم بعض الأنماط والقيم الثقافية والأخلاقية التي تتنافى مع القيم والعادات الشرقية والعربية والإسلامية، بل وتتنافي مع المعتقدات الدينية الأخرى غير الإسلامية. وهنا نتحدث عن تركيز المسلسل على عرض مشكلة العلاقات خارج إطار الزواج في إطار فقط أنها مشكلة تمس الخيانة الزوجية، وليس لأنها علاقات محرمة دينيا بالأساس!!. كما أنه يعرض قيمًا ما أنزل الله بها من سلطان مثل أن تقع الابنة في عشق زوج الأم، ويتفقان سويًا على الزواج في مخالفة صريحة لكل الكتب السماوية. حيث لم يقف الأمر عند حد زنا المحارم بل إلى هدم الثوابت الدينية، والقيم الإنسانية.
والخطير هنا في موضوع الغزو الدرامي التركي لقيم الأسرة العربية، والمصرية هو أنها أخطر تأثيرًا من الدراما والسينما العالمية الغربية الأوروبية أو الأمريكية- حيث يتم تقديم الدراما التركية في إطار واقعي قريب من نمط حياة الأسرة المصرية والعربية من حيث أسماء الشخصيات وعاداتهم الاجتماعية وديانتهم سواء الإسلامية أو المسيحية، مما يحدث نوعًا من التوحد والتقمص الوجداني مع الشخصيات والأحداث، وهو مما يجعل معدل التأثير الدرامي التركي على المشاهد المصري العربي أكبر بكثير من حجم التأثير عند التعرض للمحتوى الدرامي الغربي الأوروبي والأمريكي.
ولا نريد أن نقف عند حد عرض المشكلة فقط، ولكن على الجميع الحذر، والمبادرة بتحصين قيم الأسرة المصرية، والعربية ضد هذا الغزو المتوحش في ظل انفجار ثورة المعلومات والاتصالات وإتاحة مثل هذه المضامين بكل حرية وسهولة في الفضاء الرقمي. ومن أهم أولويات وغايات التحصين هى ضرورة خلق مشاهد واعٍ من الأجيال القادمة عبر المناهج الدراسية لغرس مهارات الاستخدام الآمن للتكنولوجيا ومضمونها ومنها الاستخدام الآمن ثقافيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا حتى لا تقضي رائحة الصندوق وغيره من المضامين غير الصديقة على قيمنا وعقيدتنا وهويتنا، وحينها نهلك جميعًا.
المصدر: الأسبوع
إقرأ أيضاً:
الدراما التلفزيونية السورية المنتظرة وتجسيد ثقافة المواطنة
تُعد الدراما التلفزيونية من أكثر الفنون تأثيراً في نفوس المشاهدين. فهي لا تقتصر على التسلية فقط، بل تُسهم بشكل كبير في رفع وعيهم من خلال عرض التحديات الاجتماعية والأفكار المتوارثة التي تعيق تقدم المجتمع.
كما توجه سلوكهم نحو تحسينه، ضمن سياق درامي يتسم بالجاذبية ويحتوي على المقومات الفكرية والفنية اللازمة لإثارة اهتمامهم.
نأي عن تمجيد الفردلكن، هل يختلف دور الدراما التلفزيونية السورية في ظل المستجدات الحالية، كما حدث بعد سقوط نظام آل الأسد؟
بالتأكيد، فإن المطلوب من الدراما الآن يتجاوز ما كانت تلتزم به سابقاً تحت تأثير الرقابة السياسية، إذ أصبح من الضروري أن تبتعد عن تقديم الأعمال التي تشكل تهديداً لوعي المشاهدين، خاصة تلك التي تعتمد على السير الشعبية التي لا تعزز أية قيمة سوى قيمة الفرد المخلص، مثل مسلسل "الزند".
والأمر نفسه ينطبق على المسلسلات التي تروج لخارجين عن القانون في مختلف المجالات، مثل السرقة أو التهريب أو تجارة المخدرات، والتي تتضمن غالباً مشاهد قتل دون أي اعتبار لوجود السلطات الأمنية، التي تكون مغيبة تماماً في تلك الأعمال، كما في مسلسلات "هوا أصفر"، "على صفيح ساخن"، "مع وقف التنفيذ"، و"ولاد بديعة" للكاتبين علي وجيه ويامن الحجلي، أو مثل مسلسل "الهيبة" بجزئه الثالث للكاتب هوزان عكو.
كما ينبغي الابتعاد عن المسلسلات "البيئة الشامية" التي كانت تقدم خطاباً رجعياً يحاول إحياء تقاليد وقيم بالية تحت ذريعة مقاومة المستعمرين الفرنسيين أو العثمانيين، على نحو ساذج وغير مكلف إنتاجياً، مما جعل شركات الإنتاج تستثمر الأزياء والديكورات في أكثر من جزء، مقدمة صورة مشوهة عن تاريخ دمشق تحت ذريعة "الدراما المتخيلة" وليست التاريخية، ما يتناقض مع مقومات المكان وأزيائه وعاداته.
تحت سقف القانونأما ما نحتاجه من الدراما للمساهمة في بناء الحياة الجديدة، حتى إذا استعدنا بعض السير الشعبية، فهو أن تكون على غرار ما قدمه الكاتب الراحل ممدوح عدوان في مسلسله المميز "الزير سالم".
ففي هذا المسلسل، استعاد عدوان السيرة الشعبية ولكن بأسلوب يتسم بالمسؤولية، حيث تجسد شخصية "كُليب" ليس كرمز للاستبداد أو الثأرية، بل كمثال على ضرورة وجود "نظام سياسي" يحترم القانون، ويجب على الجميع الالتزام به، حتى وإن كانوا من أقرب الناس.
ولم تشفع قرابة "البسوس" له عندما خالفت القانون، ففرض عقوبتها عليها.
وهذا هو جوهر الخطاب الفكري في "الزير سالم"، أي فرض سيادة القانون على الجميع، وتجاوز العصبية القبلية وقرابة الدم.
إذا تأملنا المجتمعات المستقرة التي تحقق الإنجاز والتطور وتحترم حقوق الإنسان، سنجد أنها المجتمعات التي تضع القانون فوق الجميع من دون وساطات أو تحيزات.
لكن في الوقت نفسه، سلط ممدوح عدوان الضوء على استبداد "كليب" الذي أفضى إلى طيش "جساس" وثأرية "الزير سالم"، مما أدى إلى فوضى أو حرب أهلية.
من خلال هذا الضوء، حذر عدوان من خطورة التفرد بالسلطة وإصدار القوانين من دون مراعاة المصلحة العامة.
لا يمكن إغفال ما قدمه هذا المسلسل الهام، إلى جانب أعمال أخرى، من خطاب درامي يركز على تعزيز قيم مؤسسات الدولة واحترامها.
هذا النهج تجسد في بعض المسلسلات التي قدمها الثنائي الراحل حسن سامي يوسف ونجيب نصير، ومسلسل "المفتاح" للراحل خالد خليفة، ومسلسل "رياح الخماسين" لأسامة إبراهيم. كلها أكدت، بأشكال مختلفة، ضرورة احترام المؤسسات والقوانين، رغم ما تعرضت له هذه المؤسسات من ترهل وفساد، كما ألمحت إلى ذلك بعض الأعمال الكوميدية مثل مسلسل "سعادة الوزير وحرمه" للكاتب محمود الجعفوري، وبعض لوحات "مرايا" و"بقعة ضوء"، التي طرحت ضرورة خضوع المجتمع بأفراده وشرائحه، بما في ذلك قياداته، للقانون.
المشاهدون السوريون اليوم بحاجة إلى خطاب درامي مشابه لما قدمته هذه المسلسلات، وأعمال أخرى تعزز ثقافة المواطنة بين أفراد المجتمع، وهي ثقافة تنبذ التمييز على أساس قومي أو ديني أو طائفي أو حزبي أو قبلي أو عائلي أو جنسي، وتعتبر الفرد مواطناً سيداً حراً، مساوياً لغيره أمام القانون. دراما تعزز مثل هذه الثقافة تسهم في تجاوز جراح الماضي وتحفز مشاعر التعاون لبناء مجتمع جديد. فالفنون هي اليد التي تقود الناس إلى إنسانيتهم نحو تمجيد "الثالوث الأقدس" الحق والخير والجمال.