د. عبدالله باحجاج

نستخدمُ وصف "المُتجددة" لسياسة "فرِّق تسُد"؛ على اعتبار أنَّ هناك سياسة أمريكية تقليدية مستمرة، وتتجدَّد الآن لدواعٍ أمريكية مُلحَّة وعاجلة، تجد فيها واشنطن حاليًا نفسها في "حالة الضرورة" للانفتاح على المطالب الخليجية، والتي كانت سابقًا من النقاط الحمراء، والانفتاح قد يصل إلى مستوى التنازلات، ومن ثم على كل دولة خليجية العِلم بأسباب الضرورة الأمريكية المُلحَّة، والعلم كذلك بأنَّ واشنطن الأمس ليست واشنطن اليوم، وأن غدَها محفوفٌ بمخاطر وجودية حقيقية داخلية طويلة الأجل، وخارجية عاجلة، في ظل انكشاف وجهها الأخلاقي القبيح!

داخليًّا.

. السياسات الأمريكية البوليسية تصنع في جيلها النخبوي الجديد الشعورَ بالقهر، من خلال قَمْعِها تضامن طلاب نخب جامعاتها مع غزة، دون أن تدرس تأثير هذا القمع على هذا الجيل، ودون أن تدرس تاريخ الإنسان المقموع، وتحويله إلى إنسان آخر غير مُسيطَر عليه جرَّاء المتغيرات في بيئته الداخلية العقلية والنفسية، ومنطقة الشرق الأوسط أفضل بيئة لدراسة تاريخ القمع وتداعياته؛ فهو لا يُولِّد الطاعة أو يُنتج إنسانًا ومجتمعًا مُطيعًا، وإنما مشاريع عنف أو إرهاب -فردية وجماعية- تُغذِّي ديمومة الجماعات الفكرية والمسلحة، وتُوسِّع مساحة انتشارها ضد أمريكا داخلها وخارجها، حالات قليلة جدًّا من تُروَّض بالعنف، لكنها تكون بلا روح وطنية، ومُستَسْلِمة ومُنافقة.

وخارجيًّا.. تنتابُ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدين، مخاوف كبرى من صعود الصين تكنولوجيًّا وعسكريًّا، فضلًا عن الانتشار الجيوسياسي لبكين، ومن ثمَّ قدرتها المُمكِنة على إزاحة واشنطن من مكانتها العالمية، إذا لم تتحرك براديكالية غير مسبوقة؛ لذلك تتحرَّك الآن لإغلاق المسارات التي تُنتج الثراء لبكين، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتي انفتحت على الصين باتفاقيات إستراتيجية كبرى، وأصبحت تُشكِّل محطات رئيسية في مشروع "الحزام والطريق" الصيني، ولم تكن واشنطن قلقة من الصين مثلما هي الآن.

وهناك استدلالاتٌ كثيرة يُمكن تقديمها لإثبات ذلك؛ أبرزها: تقرير مجتمع الاستخبارات الأمريكية للعام 2024، والذي يرى في بكين المنافس الأول لواشنطن في العالم، والمُهدِّد الرئيسي لها سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، ويُطالب إدارة بايدين بكبح جماحها عاجلًا. والمجتمع الاستخباراتي يضم 18 وكالة استخبارية أمريكية، تُصدِر سنويًّا تقريرًا عن التهديدات الداخلية والخارجية التي تواجه المصالح والأمن القومي الأمريكي، ويَسترشد بها صناع القرار.

أيضًا تحليل مؤسسة "تي.جي.بي" العالمية للأبحاث، والذي يرى أنَّ صعود الصين الاقتصادي والمالي بات مُقلقًا للولايات المتحدة، التي تعتقد أنَّ الثروة هي وسيلة لتحقيق السلطة السياسية والنفوذ العالمي؛ حيث يُثير التقدُّم الذي يحرزه الصينيون في مجالات تقنيات الصواريخ والأسلحة النووية والذكاء الاصطناعي قلقًا كبيرًا، ليس في واشنطن فحسب؛ بل والغرب عامة، كما تتخوَّف الاستخبارات الامريكية من استغلال المنافسين -وبالذات الصين وروسيا- الأزمات الإقليمية لتحقيق مصالحهما وتقويض النظام العالمي الراهن.

كُلُّنا يعلم التقاربَ الخليجيَّ الصينيَّ خلال السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص، ومدى استعداد بكين المفتوح لتأمين الطموحات الخليجية في مجالات الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني؛ وبالتالي لا يُمكن لإدارة بايدين أن تقنع الخليجيين بأي سياسة لاحتواء الصين، ما لم تضمن طموحاتهم في تلكم المجالات. من هنا.. تنشأ حالة الضرورة الأمريكية التي ستجعل إدارة بايدين -بل أي إدارة مقبلة: جمهورية أو ديمقراطية- تَنحني للمطالب الخليجية، مهما كان حجمها، بُغية وَقْف الانتشار الجيوإستراتيجي الصيني، ووقف تعظيم قوتها الاقتصادية. وهنا تنكشفُ لنا طبيعة سياسة "فرِّق تسُد" المتجددة؛ فإدارة بايدين ستتعامل مع كل دولة خليجية على انفراد، حسب ثقلها في ترجيح كفتها في كبح تفوق بكين، وحسب مقدرتها المالية؛ مما قد يُحدِث بين الدول الست اختلالًا كبيرًا في حجم القوة الخشنة والناعمة معًا.

هذا ليس استشرافًا للمستقبل؛ بل هو ما حَاصل الآن، فهناك مفاوضات بين واشنطن وبعض دول المنطقة للتوصل لاتفاقيات تاريخية طويلة الاجل، وقد وصلت إلى مستويات متقدمة، وتقدِّم إدارة بادين لإحداها تنازلات كبرى لتحقيق الكثير من طموحاتها الإستراتيجية؛ مثل: بناء مفاعل نووي، وتشارك واسع في الذكاء الاصطناعي، وتمكينها تكنولوجيًّا. ومثل هذه المطالب ستُدخل دول الخليج في قلق من الاستفراد بالقوة التكنولوجية المدنية والعسكرية والسيبرانية؛ مما قد يؤدي بدوره لتقديم كل دولة لتنازلات لواشنطن خاصة والغرب عامة، حتى تؤمِّن لنفسها التوازن في القوة أو على الأقل الردع المناسب.

لذلك؛ نتوقَّع أن تنجح واشنطن في محاصرة بكين جيوسياسيًّا واقتصاديًّا وتجاريًّا بما فيها مشروع "الحزام والطريق" داخل المنطقة الخليجية. وللأسف، هناك عوامل كثيرة تجعل من إدارة بايدين تنجح في مسار الاستفراد بكل دولة خليجية؛ إذ إنَّ الرؤية التنموية طويلة الأجل لكل دولة بُنِيَتْ على أُسس التنافس وليس التكامل، رغم التفاهمات السياسية الجديدة نحو تحقيق الوحدة الاقتصادية. كما أنَّ الاستفراد الأمريكي بكل دولة سياسة أمريكية قديمة / جديدة، والآن تمارس بمثالية الأحادية النفعية التي تُعزِّز القلق الخليجي/الخليجي.

لكن، هل ينبغي الثقة في واشنطن مُجدَّدًا وهي لن تنصاع للمطالب الإستراتيجية الخليجية إلا تحت وطأة حالة الضرورة، لكبح بكين، بعد توصيات أجهزتها الاستخباراتية؟!! وحتى انصياعها هذا نشكُّ فيه، وقد توظِّفه حسب السياق الزمني لمواجهتها الصين. وهذا يعني أن الأصل الثابت هو عدم الثقة في أمريكا، ولن نتوغَّل في التاريخ؛ فذاكرتنا حيَّة بسحب قواتها من المنطقة لبحر قزوين، وجعل عواصم خليجية مفتوحة للصواريخ والطائرات المسيرة لجماعة "أنصار الله" الحوثية. لذلك على الوعي الخليجي أنْ لا ينساق نحو الفخ الأمريكي، وأن يبني مستقبل بلدانه من منظور التعاون مع الكلِّ، بعيدًا عن المُقاطعة أو الدخول في عداوات لصالح الحليفة واشنطن؛ لأنَّ إرهاصات تشكيل العالم الجديد، وبروز دول كبرى جديدة، وتراجع أخرى، يُحتِّم على دول مجلس التعاون أن تكون كتلة واحدة مُتماهيةً في أجنداتها، حتى يكون لها مركزٌ مؤثِّر. لذلك؛ فإن مسارها الأنسب الآن تحقيق أجنداتها التكاملية؛ كالإسراع في تحقيق وحدتها الاقتصادية ومنظومة دفاعاتها المشتركة، وقبلها -أو تزامنًا معها- التوصُّل لتأسيس ثقة سياسية مُستدامة يُبنى عليها المشترك الجماعي، وألَّا تُثير الفردية المخاوف مُجددًا.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

في جلسة سرية.. ماسك يلتقي بالسفير الإيراني لدى واشنطن وحديث عن إمكانية رفع العقوبات عن طهران

بعد توسطه في مكالمة بين ترامب وزيلينسكي، ينطلق رائد الأعمال الشهير إيلون ماسك بقوة في مهامه الاستشارية في البيت الأبيض، لكن هذه المرة في جلسة "سرية"، حيث التقى بسفير إيران لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، في نيويورك بهدف مناقشة سبل تخفيف التوتر بين طهران وواشنطن، حسبما نشرت صحيفة نيويورك تايمز

اعلان

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين إيرانيين قولهم إن ماسك هو من طلب الاجتماع بإيرواني، الذي اختار بدوره المكان. وقد استمر حديثهما لأكثر من ساعة، ووُصفت أجواؤه بأنها "إيجابية"، حيث ناقشا إمكانية رفع العقوبات الأمريكية عن إيران، بالإضافة إلى تعزيز سبل التعاون الاقتصادي، من خلال نقل ماسك بعض أعماله إلى طهران.

في هذا السياق، يرى بعض المحللين أن الطرفين مستعدان لفتح صفحة جديدة، وهو ما عبّر عنه مدير الشؤون الإيرانية في مجموعة الأزمات الدولية، علي واعظ، بقوله إن كل شيء ممكن مع ترامب.

Relatedغروسي من طهران: المواقع النووية يجب أن تكون محمية والرئيس الإيراني يؤكد "لن نسعى لامتلاك سلاح نووي""مؤامرة مقززة".. طهران ترفض اتهامات واشنطن بالتخطيط لاغتيال ترامبرغم تجربتها المريرة معه.. إيران تعرب عن لامبالاتها بفوز ترامب وتقول "حدث لا يعني طهران"

وفي وقت سابق من يوم الخميس، قال وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، عبر حسابه على منصة "إكس"، بعد لقائه مع رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، رافائيل غروسي، إن الخلافات يمكن حلها من خلال التعاون والحوار، وإن إيران صادقة بشأن نيتها التفاوض حول برنامجها النووي السلمي، مؤكدة أنها لا تسعى لامتلاك أسلحة نووية، وذلك استناداً إلى فتوى المرشد الأعلى علي خامنئي.

عرقجي يؤكد إيجابية الاجتماع مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ويشير إلى أن إيران لم تترك طاولة المفاوضات أبدا بشأن برنامجها النووي

يذكر أن ترامب، خلال فترة ولايته الأولى، ألغى الاتفاق النووي المبرم عام 2015 مع إيران، واصفًا إياه بأنه "اتفاق من جانب واحد ما كان ينبغي إبرامه أبدًا"، وفرض عقوبات اقتصادية صارمة على عائدات النفط الإيراني والتعاملات المصرفية الدولية. كما أمر باغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في العراق عام 2020.

أما في ظل ما تشهده المنطقة من نزاعات وحروب، فقد تكون لدى ترامب في البيت الأبيض أولويات مغايرة لولايته الأولى، لا سيما مع طهران، التي تعتقد أن الزعيم الجمهوري "يحب عقد الصفقات، وبالتالي فإن رفع العقوبات ممكن.

في المقابل، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" في وقت سابق، أن الرئيس المنتخب يعتزم زيادة العقوبات على إيران بشكل كبير، بالإضافة إلى تقليص مبيعات النفط الإيرانية، بهدف تقليص دعم طهران للجماعات المسلحة في الشرق الأوسط.

Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية تعادل سلبي بين فرنسا وإسرائيل.. ومشادات كلامية بين مشجعين تعكر صفو مباراة كرة القدم.. رغم الإجراءات أمطار غزيرة تتسبب في فيضانات ودمار واسع في صقلية الإيطالية متهم بالاتجار الجنسي.. مرشح لتولي منصب وزير العدل الأمريكي دونالد ترامبالاتفاقية الشاملة للبرنامج النووي الإيرانيواشنطنإيلون ماسكعقوباتعلي خامنئياعلاناخترنا لك يعرض الآن Next مقتل العشرات في غزة ولبنان.. وإصابة 27 إسرائيليا في الجبهتين.. ومصرع قائد فصيل بالكتيبة 51 غولاني يعرض الآن Next تعادل سلبي بين فرنسا وإسرائيل.. ومشادات كلامية بين مشجعين تعكر صفو مباراة كرة القدم.. رغم الإجراءات يعرض الآن Next تحقيقات فيدرالية تكشف عن اختراق شبكات اتصالات أمريكية من قبل قراصنة صينيين يعرض الآن Next منظمة العفو الدولية تتهم الإمارات وفرنسا بتزويد قوات الدعم السريع بالأسلحة في السودان يعرض الآن Next منظمة "أنقذوا الأطفال": 295 ألف قاصر بإيطاليا يعيشون في فقر مدقع اعلانالاكثر قراءة روسيا تحذّر من اجتياح إسرائيلي لسوريا وتقول إن قواتها حاضرة مقابل مرتفعات الجولان "كان لا بد من كشف الحقيقة"... أمريكي متهم بتسريب خطط إسرائيلية لضرب إيران لا مجال لكسب مزيد من الوقت.. النيابة العامة الإسرائيلية ترفض تأجيل شهادة نتنياهو بقضايا الفساد مارس الجنس مع 400 من زوجات كبار الشخصيات أمام الكاميرا.. فضيحة مسؤول كيني يعتقد أنه مصاب بمرض الإيدز بين السماء والأرض: ألمانيان يحطمان الرقم القياسي في التزلج على الحبل المتحرك بارتفاع 2500 متر اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليومكوب 29إسرائيلدونالد ترامبفيضانات - سيولالصراع الإسرائيلي الفلسطيني ضحاياإيطالياالصينأزمة المناخبحث وإنقاذالكونغرسالانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024الموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesJob offers from AmplyAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactPress officeWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2024

مقالات مشابهة

  • في لقاء حاسم: بايدن يضغط على الصين لتحجيم دعم كوريا الشمالية لروسيا
  • «فايننشال تايمز»: الصين تتسلح لمواجهة حرب تجارية مع ترامب.. بايدن حافظ على معظم الإجراءات المطبقة ضد بكين مع تصاعد التوتر بين البلدين
  • سلفستر ستالون يصف ترامب بـ "جورج واشنطن الثاني" ويشيد بإنجازاته
  • بكين وموسكو تستعرضان مقاتلاتهما في أكبر عرض جوي في الصين
  • واشنطن تحذر من الاستثمارات الصينية مع تدشين بكين ميناء في بيرو
  • في جلسة سرية.. ماسك يلتقي بالسفير الإيراني لدى واشنطن وحديث عن إمكانية رفع العقوبات عن طهران
  • أميركا لا تستطيع مواجهة الصين وحدها فماذا يمكنها أن تفعل لتجنب الهزيمة؟
  • الصين الشعبية، مستمعاً سموه للجهود التي تقدمها الجامعة والتعاون بين الطرفين في المجال البحثي.
  • زعماء الخليج: مرحبا بعودتك يا دونالد.. كاتب أمريكي يتحدث عن عودة ترامب
  • الصين تجري تدريبات قتالية في المياه الضحلة المتنازع عليها غرب الفلبين