د. قاسم بن محمد الصالحي

في الأسبوع الماضي، ظَهَر على هاتفي رقمٌ يبدأ بمفتاح العاصمة الأمريكية واشنطن، صوت صديق لم أره منذ 30 عامًا، في سُكُون الصَّمت المحيط، بَدَا صوته مبحوحًا، حزينًا، ومألوفًا في الوقت نفسه، كان نفس الشخص الذي عرفته، لكنه كان مُنكَسِرًا، مُحبَطًا هذه المرة، كان يكلمني بصوت مخنوق متحشرِج، كما لو كان على وشك الانهيار والسقوط، ثم تحدث عن أمور تقلقه وتسبِّب له الاكتئاب.

هو يشعر أنه كلما تكشَّفت كذبة الديمقراطية التي تبنَّتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي لطالما دافع عنها هو في أحاديثه المتكرِّرة معي من قبل، لكنه اليوم ومع ازدياد موجة العنف في باحات الجامعات، وتعامل السُّلطات الأمنية مع مظاهرات سلمية، كفلتها ديمقراطية الزَّيْف والكبر والغرور، أصبح لديه وسواس قهري بسبب خوفه من ازدياد العنف واتِّسَاع رقعة الفوضى على عيشه وحياة أسرته في مجتمع ديمقراطي، وبالمقابل لدى الغالبية الكبرى معاناة كبرى في إقناع ساسة الإدارة الامريكية بأنَّ إداراتهم السابقة والحالية، وحتى تلك التي ستأتي، تقود بنهجها الإمبراطورية الأمريكية إلى السُّقوط والانهيار، ولا يدري كيف يمكن إقناعهم بالدور الذي يلعبه الصهاينة في هذا السقوط، خصُوصًا أولئك الذين أصبحوا يمسكون بقرار الولايات المتحدة الأمريكية الداخلي والخارجي؛ نتيجة تعاملهم الفوقي المتعالِي على القيم الإنسانية والأخلاقية.

وفي الحقيقة لم أكن أدري كيف أردُّ على صديقي رجل القانون وصاحب الخبرة في مجاله، فلم اعتَد على تقديم الاستشارة له، بل أستقِيْهَا من خبرته ومعايشته لمجتمعه، وبالمقابل لم أكن أودُّ أنْ أبخل على نفسي تبادل الحديث معه حول الفعل وردة الفعل بين المتظاهرين والجهات الرسمية في أمريكا، وكُنت في حيرة من أمري: هل أخوض معه في حديث مُوسَّع أو لا؟ فاستشرتُ نفسي وأيَّدتنِي صحبته الحديث معه، لعلِّي أخفف عنه... وهذا ما حدث.

ليس مهمًّا ما جَرَى في تلك المكالمة المطولة؛ فقد كنت على يقين من أنَّني نجحت نوعًا ما في مشاركته للاطلاع على هموم شعبه وأمته، كما أنه يُعبِّر عن ضمير واقعه فعلًا وقولًا، يعيش في مجتمع يضمن حرية الرأي بغض النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع نظام بلده الرسمي؛ ففي المجتمع الأمريكي العميق "حرية الرأي" مضمونة، يُنادى بها، إلا أنَّ المُحزِن في ظل مظاهرات الجامعات أنْ انكشفتْ مشروعية ما كانت تسوِّق له أمريكا؛ فظهر خلالها وجه سياسة القهر والقمع والفساد والإفساد: هل باعت ضميرها الديمقراطي وأخلاقها الإنسانية للشيطنة الصهيونية؟ بحيث أنها تزين أي سياسة لخدمة الصهيونية، حتى لو خالفت المبادئ التي نادتْ بها الأمة الأمريكية، تماما مثلما يفعل الكيان الغاصب في فلسطين، حتى لو انتفض الداخل الأمريكي وطالب بمقاطعة هذا الكيان اللَّقِيط، وتبلغ الهرطقة مَدَاها عندما تصدر الأوامر باستخدام العنف لفض اعتصامات الطلاب في الجامعات، وتسويق سياسة معادات السامية؛ تمهيدا لتجميل صورة الإبادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني في غزة منذ 7 أشهر، فيتسابق قادة الولايات المتحدة لتسويقه بأنه يُمثِّل الديمقراطية في المنطقة، وشيطنة المقاومة الفلسطينية بطريقة مبالغ فيها، ووصول الأمور إلى درجة مُضحِكَة عندما تتم مهاجمة حركة حماس ووصفها بالمجرمة، وأن إجرامها وصل إلى الداخل الأمريكي، في مقابل تنكُّرها لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في وطنه التاريخي، ومنها حقُّه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف، وينحازُ الساسة في أمريكا إلى الطَّرف الآخر المعادي وكأنه بطل السلام، رغم كل عدوانيته واستمراره في احتلال الأراضي العربية، حتى وصلت حماقته إلى المقدسات الإسلامية والمسيحية، وهناك حماقات أخرى يطُول الحديث عنها، لكنَّ هؤلاء المدافعين عن الكيان الغاصب بحماقتهم وسقوطهم السياسي والأخلاقي يعجِّلون بانهيار وسقوط كذبة الديمقراطية، فهل ستصحِّح مظاهرات واعتصامات الجامعات مسار الأمة الأمريكية وتؤخِّر سقوطها وانهيارها؟!

لك أن تُغْمِض عينيك وتتخيَّل سقوطًا سياسيًّا وأخلاقيًّا للأمة الأمريكية التي تربَّعَت على قمة العالم، لحظتها ستتأكد أنَّ قضية فلسطين لم تسقط نظامًا تلو آخر، بل ستسقط نظامًا عالميًّا كاملًا مرة واحدة، لك أن تتخيل حجم الكارثة التي ستتحمَّلها الشعوب، هو نفسه إحساس صديقي الذي أفرغ ثِقَل همه في حديثه لي، عندما انتابه الإحساس بخيبة الأمل لحظة تعامل الساسة في الولايات المتحدة الأمريكية مع اعتصامات طلبة الجامعات، فتملَّكهُ الضَّعف ليسقط سقوطًا سحيقًا يصل قاع الرُّوح، نهش فؤاده في ثوانٍ معدودات أمام صدمة واقع مجتمعه الأمريكي، اختلَّ فيها توازنه الشعوري، وفقد قدرته على التفسير والتحليل، تاهَ بين قيم كاذبة ومشهد مخزٍ، يحاول مقاومة اللوم والانفطار، مستجديًا الحديث معي حتى يتحلَّى بالقوة، ويقف دفاعه الدائم عن الديمقراطية على الجانب مُتفرِّجًا ليُطَاطئَ رأسَه مُختفيا كقطرة ماء تبخَّرَت.

بالنسبة لي، كان التواصل مع صديق قديم مُهمًّا جدًّا، فقد استعدتُ ذكريات جمعتني به، وأحاديث تبادلناها، فقد أدركتُ في مكالمتي معه أنني ناجح فيما أقوم به اليوم من لفت انتباه لعوامل الفشل في قبول مصطلحات ونظريات مُهاجرة إلينا من الغرب، قد لا تكون المجتمعات الغربية نفسها قادرة على تقديم حلول للوحل الغارقة فيه، فغالبًا لا يستطيع أصحاب تلك النظريات تجاوز الإخفاقات؛ لأنها أكبر منهم بكثير، فيُصدِّروا ثقافتهم الرأسمالية الشرسة، ليسلبوا الشعوب حريتهم وهم في حالة الإنكار، يستمتعون بفوضويتهم التي يسمُّونها بالخلاقة خارج مجتمعاتهم، وهذه المكالمة جعلتني أتيقَّن أنَّ ما يُطرح على مجتمعاتنا كغثاء السيل لا ينفع. بعد المكالمة، جلستُ أفكِّر كثيرا في حراك الجامعات الأمريكية.

اه.. نعم.. عرفت، أو بالأحرى تذكرت، أنَّ ما يحصل في غزه قد حرَّك سُكُون الضمير الأمريكي والمجتمعات الغربية، فأصبحت الشعوب الحرة تتألَّم كما يتألم الشعب الفلسطيني، وأضحت هذه الشعوب تُطالب أنظمتها بأنْ تنتبه لهذا الأمر، لا أدري ما السبب (!) ولكن عندما استمعت إلى حديث صديقي أدركتُ مدى الحماقة التي يُمكن أن ترتكبها الإدارة الامريكية، وإهمال حقوق الشعب الفلسطيني هو أعلى رأس هذه الحماقة، فإلى أين تقود الصهيونية الولايات المتحدة الأمريكية في ظلِّ التحولات الكبيرة التي تحصل على الأراضي الأمريكية؟

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

قائد الثورة: الأمريكي شريك أساسي مع العدو الإسرائيلي في كل جرائمه التي يرتكبها على مدى عقود من الزمن

يمانيون/ خاص

أكد السيد القائد أن الأمريكي شريك أساسي مع المجرم الصهيوني الإسرائيلي اليهودي في كل جرائمه التي يرتكبها على مدى عقود من الزمن في فلسطين ولبنان وسوريا والأردن ومصر.

وقال السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، في كلمة له، اليوم الخميس، حول آخر تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والمستجدات الإقليمية والدولية، أن بريطانيا وفرنسا شاركت الأمريكي في استقدام العصابات الصهيونية اليهودية إلى فلسطين وتجنيدها وتسليحها وتمكينها.

وأضاف السيد أن الرئيس الفرنسي الحالي ومن قبله جعلوا من أنفسهم الفداء للصهاينة اليهود، وأن ألمانيا تقدم الكثير من قذائف السلاح والدعم السياسي والإعلامي.. مؤكداً أن قوى الشر المنضوية تحت لواء الصهيونية اتجاهها الإجرامي الوحشي ضد أمتنا الإسلامية من منطلق عقائدي ورؤية وتوجه

ولفت قائد الثورة إلى أنه من المدهش أن بعض السياسيين والإعلاميين العرب ممن يتحدثون عن المجاهدين في فلسطين ولبنان يتحدثون عنهم وكأنهم هم من استفز العدو الإسرائيلي والأمريكي.

وأوضح السيد أن الأمريكي والبريطاني والأوروبي اتجهوا لدعم الصهيونية كمشروع يؤمنون به لتدمير أمتنا الإسلامية.. لافتاً إلى أن الحديث الصهيوني المتكرر عن فلسطين وبقية الشام ومصر وأجزاء من السعودية والعراق بهدف السيطرة والاحتلال المباشر.

وأشار السيد القائد إلى أن ما يعبّر عنه الأمريكي والإسرائيلي بتغيير وجه الشرق الأوسط يعني التحكم بالجميع بما يخدم المصلحة الأمريكية والإسرائيلية.. مضيفاً أن عدوانية أمريكا و”إسرائيل” ليست ردة فعل من استفزاز بل هم من ابتدأ العدوان على امتنا باحتلال الأوطان واستهداف الشعوب.

ونوه السيد إلى أن العدو لديه توجه إجرامي مفسد، يستهدف الناس لإفساد حياتهم على المستوى الأخلاقي، ولإفساد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأن توجه العدو ظلامي بكل ما تعنيه الكلمة في رؤيته وتوجهه وفكره.

مقالات مشابهة

  • «ملتقى الأدلة الجنائية» يحفز الابتكار لدى طلبة الجامعات
  • غزة وإسرائيل على طاولة ترامب.. هل يتغير النهج الأمريكي تجاه الشرق الأوسط؟
  • مساعدة وزير الخارجية الأمريكية الأمريكي تؤكد دعم واشنطن لمغربية الصحراء
  • على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأمريكية
  • قائد الثورة: الأمريكي شريك أساسي مع العدو الإسرائيلي في كل جرائمه التي يرتكبها على مدى عقود من الزمن
  • إيلون ماسك المغربي يعلن تسويق سيارات الهيدروجين التي عرضها أمام الملك في الولايات المتحدة
  • "لجان المقاومة": الفيتو ضد وقف الحرب بغزة دليل أن الإدارة الأمريكية هي من تديرها
  • حماس: المجزرة التي ارتكبها الاحتلال في بيت لاهيا نتيجة للفيتو الأمريكي
  • المبعوث الأمريكي للسودان: الولايات المتحدة تؤيد إنهاء الحرب والجرائم التي ترتكب في حق الشعب السوداني
  • عينه ترامب وفصله بايدن.. من هو أول مسلم في الإدارة الأمريكية الجديدة؟