جريدة الرؤية العمانية:
2024-11-18@15:50:17 GMT

تراتبية الشواش وخفايا السببيَّة

تاريخ النشر: 5th, May 2024 GMT

تراتبية الشواش وخفايا السببيَّة

 

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

 

تُوجد بديهيات للسيطرة، ولا يسهل نقضها عِلميًّا حسب المنهج الإنساني المعتاد، ولا يختلف على وثاقتها أحد كالقوة والنفوذ والمعرفة، وهي تتسق معًا -إذا ما تأطرت بالحكمة والنزاهة والواقعية- حتى تتمكَّن من الوصول لمستوى القبول الذي يُؤهلها لقابلية التطبيق والعمل بها، وغالبًا ما تتموضع هذه البَدَائِه سالفة الذكر تدريجيًّا وتراكميًّا على مرحلة زمنية طويلة؛ إذ لا يُمكن أن تنشأ فجأة لمجرد رفَّة جناح حشرةٍ لا وزن لها، وقد يُفضِي التحكُّم بالأولويات -وإن شابها شيءٌ من الخلل الساذج- إلى إطالة عمر ما بُني عليها لاحقًا خلال فترات مُتطاولة من الزمن، لكنها ستنتهي في مرحلةٍ ما، وقد لا تظهر عوارض النهاية التي ربما تكون أسبابها متناهية الصغر؛ مثل: تزحزح ذرة تراب قبل ألف عام في سفح إمبراطوريةٍ راسخة كالطَّود العظيم وهي غارقة في اعتقاد تحكُّمها بالأقدار من قِمتها المُناطحةِ للسحاب، ولكنَّ مبدأ التسخير الغامض لن يتوقف عن ضبط تقديراته الدقيقة.

تُحاول في أقصى الشرق فراشةٌ خفيفةٌ الوصولَ إلى زهرةٍ أعلى الشجرة، وبالطبع فإنَّ أثر رفرفة جناحها تافهٌ جدًّا لدرجة أنه لا يُذكر كي تصنع فوضى ذات تأثيراتٍ متتابعة وتصل تبادلياتها إلى تطوير أحداثٍ تسلسلية مرتبطة فيما بينها بنوع من التواتر، لتُنتج أخيرًا حدثًا كبيرًا يقلِب موازين حضارةٍ كاملة في الغرب البعيد، ومع أنَّ احتمال هذه التراتبية شديد الضآلة إلا أنه وارد في مفهوم نظرية الفوضى، وقد لاحظ فارسٌ شديد الولاء لإمبراطوريته ذلك صباحَ يومٍ مُشرقٍ عند تغيُّر لون السماء في الأفق، لكنه كان غير مكترث مع تقديم الأولويات في انتظار انتهاء صانع الحدوات من تثبيتها على حوافر حصانه، ولم يعلم أنَّ البيطار الكهل قد أهمل تثبيت أحد المسامير في إحدى الحدوات لانشغاله بكل الأعمال بعد أن أودَى به غضبه قبل عامين لطرد مساعده الشاب، الذي كان يُعِينه على إتمام المهام الثانوية نظيرَ أجر زهيد ليتفرغ هو للحدادة المربحة، ويُشاع مؤخرًا أنَّ الشاب الصغير مساعد الحداد قد هاجر إلى منطقة أخرى وأسَّس لعمله الجديد ولكن بطرقٍ أكثر تطورًا وحداثة وسرعة، مستفيدًا من خبرات الحداد الأحمق.

تبدُو السُّلوكيات البسيطة أحيانًا غير ذات أثرٍ على الهيكل العام، وهي شذوذات صغيرة غير مقصودة، وربما تكون معلومة لكنها هشَّة يسيرة ولن تضر بالأساس البنيوي الذي يقوم عليه النظام ككل، بَيْد أنَّ اتحادها مع بعض المتغيرات الظرفية غير القابلة للرصد قد يؤدي لنتائج غير متوقعة وتحيد بنهج السيطرة إلى الشواش والفوضوية، لتأتي على بديهيات القوة والنفوذ والمعرفة، وتنسفها من أساسها نسفًا، وهذا ما كان يفكر فيه الفارس بعد امتطائه صهوة جواده منطلقًا في قيادة الجيش لدحض حملةٍ مناهضةٍ تشكلت على مقربةٍ من سفح الجبل الذي تتربَّع عليه القلعة المُحصَّنة للإمبراطور الخرِف، وقد أدرك الفارس في نقطة اللاعودة عدم ثبات خطوات حصانه، وهو لا يعلم أنَّ إحدى حدواته بدأت بالتخلخُل نتيجة سقوط مسمارٍ غير مُحكم التثبيت، كما لا يعلم الحدَّاد أنَّ مساعده الشاب قد طوَّر أعماله لصناعة أنواع من الأسلحة ذات جودةٍ عالية وأسعارٍ مُتدنية، مكَّنتْ الفقراء الناقمين من امتلاكها واستخدامها للقيام بثورة ضد الإمبراطورية التي لا تُقهر، وفي الجانب الشرقي القَصِي، وراء الجبال، تشكَّلت غيومٌ عملاقة تنبئ بتطوُّرها إلى إعصار مع هروب الفراشة للاعتصام بمكانٍ آمن.

كل الأمور تحت السيطرة في ظاهرها العام، وحسب القوانين والأنظمة التي وضع أُسُسها النظام، ومطردة مع التطوُّر الحضاري الطويل نسبيًّا في عمر الإنسان لخدمته وخدمة مجتمعه، وهي مبنيَّة على المعايير العلمية والخبرات التي اكتسبها خلال الفترات الماضية، وتبدو رصينة متماسكة لا يُمكن لأيَّة احتمالات اختراقها، كما لا يمكن وضع افتراضاتٍ سلبية بعيدة من شأنها تغيير المنهجية التي تسير عليها منذ عقود، وهذا ما يُؤكده مجرى الحياة اليومية ويُصَادِق عليه، ولكن فيما وراء الظواهر تعملُ بعض التقاطعات البسيطة ضد مجرى الأحداث، ولا يمكن قياسها أو حسابها، فهو جنوح غير قابل للتطبيق ولا التصديق، إلا أنَّ وقوعه الذي يناهز المستحيل مُمْكِن الحدوث.

تُعتبر بعض الظواهر البسيطة مُجرَّد شؤون سطحية جدًّا يمكن التعامل معها، ولكن تُشير كلُّ المؤشرات العميقة غير المُدركة إلى سقوط الإمبراطورية، وتدلُّ كل الدلائل الخفية على اقتراب ساعة النهاية؛ حيث ذرة تراب في قلب جبل القلعة الحصينة قد حرَّكت معها ذراتٍ في تراتبية منظمة لمئات السنين، وأحدثت خللًا في البنية الأساسية للجبل، وثار إعصار مُدمِّر من رفة جناح فراشة ليُغرق كلَّ تجهيزات الدفاع الاحتياطية التي اتَّخذها الإمبراطور المتخبِّط، وأسهم تسريح الحداد الغبي للشاب المجتهد في نشوء قوة جديدة أكثر تجهيزًا وتنظيمًا وراسخة الإيمان بعقيدتها، وسقوط حُدوة حصان الفارس عطَّل وصول الجيش في الوقت المناسب لمُلاقاة الثورة الشعبية، وما هي إلا سُوَيْعَات حتى جاء أمر الحسم، وانهارت معه كل ما صنعته هذه الحضارة، بعدما اتخذت كامل زخرفها، وانتهت وهي في قمة قوتها، وباتت تُرْوَى في كتب التاريخ، ويضع لها كلُّ مستكشفٍ فرضيته الخاصة في زوالها وأفول نجمها.

مهما بَدت قابلية الرَّصد للقوانين الطبيعية، ومهما بدت قابلية التطبيق للقوانين الوضعية، إلا أنَّها ستبقى هزيلةٍ ضعيفة مقابل قوانين ما وراء الطبيعة، والتي لن تفشل سببيتها في إحداث التغييرات، ولن تتوقف القوانين الربانية التي تجري على أساس تسخير الأحداث عن العمل، وما قد يبدأ من العدم في النطاقات غير المُدرَكة وتتوالى بعده الأحداث إنما هي رُتب مُقدَّرة، وتحتشد بكل دقة وإتقان، ولا نُلقي بها إلى مسميات الفوضى والشواش والحتمية وتأثير الفراشة إلا لضعفنا أمامها، وعدم إحاطتنا علمًا بها، وستأتي نتائجها في حينها المعلوم، ولا يُستَعجل أمرُ الله باستعجالِ أحد؛ حيث إنَّ المُستبد والمنصف والظالم والمظلوم جميعًا في قبضته.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

اللغة التي يفهمها ترامب

ما اللغة التى يفهمها الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب، وكذلك رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو؟!

الأول يفهم لغة المصالح، والثانى يفهم لغة القوة، والاثنان لا يفهمان بالمرة لغة القانون الدولى وحقوق الإنسان والمحاكم الدولية وقرارات الشرعية الدولية.

هل معنى ذلك أن الرؤساء الأمريكيين، وكذلك رؤساء الوزراء الإسرائيليون السابقون كانوا ملائكة ويقدسون لغة القانون والشرعية الدولية؟!

الإجابة هى لا. جميعهم يفهمون ويعرفون لغة القوة والمصالح، لكن تعبيرهم عن ذلك كان مختلفا وبدرجات متفاوتة، وكانوا دائمًا قادرين على تغليف القوة الخشنة بلمسات ناعمة وقفازات حريرية ملساء والقتل والتدمير بعيدًا عن كاميرات وعيون الإعلام. والدليل أن المذابح والمجازر الإسرائيلية مستمرة منذ عام 1948 حتى الآن، وخير مثال لذلك كان رئيس الوزراء الأسبق شيمون بيريز.

نعود إلى ترامب ونقول إنه يصف نفسه أحيانًا بأنه مجنون ومن يعرفه يقول عنه إنه يصعب التنبؤ بأفعاله، وأنه لا ينطلق من قواعد معروفة. هو لا يؤمن بفكرة المؤسسات، والدليل أنه همش حزبه الجمهورى، وهمش وسائل الإعلام وتحداها. كما يزدرى المؤسسات الدولية، بل إنه ينظر مثلًا إلى حلف شمال الأطلنطى باعتباره شركة مساهمة ينبغى أن تعود بالعوائد والأرباح باعتبار أن الولايات المتحدة هى أكبر مساهم فى هذه الشركة أو الحلف.

تقييم ترامب لقادة العالم يتوقف على قوتهم وجرأتهم وليس على التزامهم بالأخلاق والقيم والقوانين.

حينما علق على خبر قيام إيران برد الهجوم الإسرائيلى، نصح إسرائيل بتدمير المنشآت النووية الإيرانية، وقبل فوزه بالانتخابات الأخيرة نصح نتنياهو أن ينهى المهمة فى غزة ولبنان بأسرع وقت قبل أن يدخل البيت الأبيض رسميًا فى 20 يناير المقبل.

وإضافة إلى القوة، فإن المبدأ الأساسى الذى يحكم نظرة وقيم ومبادئ ترامب هو المصلحة. ورغم أنه يمثل قمة التيار الشعبوى فى أمريكا، والبعض يعتبره زعيم التيار المحافظ أو اليمين المتطرف، فلم يعرف عنه كثيرًا تعصبه للدين أو للمبادئ. هو يتعصب أكثر للمصالح. وباعتباره قطبًا وتاجر عقارات كبير، فإن جوهر عمله هو إنجاز الصفقات.

وانطلاقًا من هذا الفهم فإنه من العبث حينما يجلس أى مسئول فلسطينى أو عربى مع ترامب أن يحدثه عن قرارات الشرعية الدولية أو الحقوق أو القانون الدولى. هو يعرف قانون المصلحة أو القوة أو الأمر الواقع.

ويحكى أن وزير الخارجية الأسبق والأشهر هنرى كسينجر نصح وزيرة الخارجية الأسبق مادلين أولبرايت قبل أن تلتقى الرئيس السورى الأسد، وقال لها: «إذا حدثك الأسد عن الحقوق والشرعية قولى له نحن أمة قامت على اغتصاب حقوق الآخرين أصحاب الأرض، وهم الهنود الحمر، وبلدنا تاريخها لا يزيد على 500 سنة، وبالتالى نؤمن بالواقع والقوة وليس القانون».

هذا هو نفس الفكر الذى يؤمن به ترامب، لكن بصورة خشنة وفظة. هو يتعامل مع أى قضية من زاوية هل ستحقق له منافع وأرباح أم لا.

وربما انطلاقًا من هذا المبدأ يمكن للدول العربية الكبرى أن تقدم له لغة تنطلق من هذا المبدأ. بالطبع هناك أهمية كبرى للحقوق وللشرعية وللقرارات الدولية والقانون الإنسانى، ومن المهم التأكيد عليها دائمًا، لكن وإضافة إليها ينبغى التعامل مع ترامب باللغة التى يفهمها. أتخيل أن اللجنة الوزارية المنبثقة عن القمة العربية الإسلامية يمكنها أن تتفاوض مع ترامب بمجرد بدء عمله فى البيت الأبيض. بمنطق أنه إذا تمكن من وقف العدوان الإسرائيلى على فلسطين ولبنان فسوف تحصل بلاده على منافع مادية محددة، أما إذا أصرت على موقفها المنحاز?فسوف تخسر كذا وكذا.

بالطبع هذا المنهج يتطلب وجود حد أدنى من المواقف العربية الموحدة، ولا أعرف يقينًا هل هذا متاح أم لا، وهل هناك إرادة عربية يمكنها أن تتحدث مع الولايات المتحدة وإسرائيل بهذا المنطق الوحيد الذى يفهمونه أم لا؟

الإجابة سوف نعلمها حتمًا فى الفترة من الآن حتى 20 يناير موعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض
خصوصًا أن تعيينات ترامب المبدئية كلها لشخصيات صهيونية حتى النخاع، وهى إشارة غير مبشرة بالمرة.

أما عن نتنياهو فكما قلنا فهو لا يفهم إلا لغة القوة. وقوته وقوة جيشة وبلاده مستمدة أولًا وثانيًا وثالثًا وعاشرًا من قوة الولايات المتحدة، وبالتالى سنعود مرة أخرى إلى أن العرب والفلسطينيين يقاتلون أمريكا فعليًا وليس إسرائىل فقط.

(الشروق المصرية)

مقالات مشابهة

  • هذه مواصفات صاروخ فجر5 الذي أعلن عنه حزب الله (إنفوغراف)
  • للمرّة الأولى... ما الذي قصفه حزب الله بالصواريخ؟
  • القبض على صاحب المنزل الذي اعتدى على موظف التعداد السكاني في الديوانية
  • رينارد: نسعى للفوز في مباراة الغد وأتمنى التوفيق لإندونيسيا ولكن ليس غدًا
  • مصدر بالأهلي ردا على التفاوض مع مصطفى محمد: نجم كبير ولكن
  • اربيل.. اعتقال حلّال المشاكل الاسرية الذي هدد بنشر صور وفيديوهات ضحاياه
  • ما حكم العمل في مكان يبيع خمور؟.. أمين الفتوى: يجوز ولكن بشرط (فيديو)
  • حرب غزة والنموذج المقاوم: ما الذي يجب أن نتحرر منه؟
  • تفاصيل مقتل رجل أعمال يمني على يد إبن أخيه الذي استدعاه للعمل معه في السعودية ( الاسماء)
  • اللغة التي يفهمها ترامب