تراتبية الشواش وخفايا السببيَّة
تاريخ النشر: 5th, May 2024 GMT
ماجد المرهون
majidomarmajid@outlook.com
تُوجد بديهيات للسيطرة، ولا يسهل نقضها عِلميًّا حسب المنهج الإنساني المعتاد، ولا يختلف على وثاقتها أحد كالقوة والنفوذ والمعرفة، وهي تتسق معًا -إذا ما تأطرت بالحكمة والنزاهة والواقعية- حتى تتمكَّن من الوصول لمستوى القبول الذي يُؤهلها لقابلية التطبيق والعمل بها، وغالبًا ما تتموضع هذه البَدَائِه سالفة الذكر تدريجيًّا وتراكميًّا على مرحلة زمنية طويلة؛ إذ لا يُمكن أن تنشأ فجأة لمجرد رفَّة جناح حشرةٍ لا وزن لها، وقد يُفضِي التحكُّم بالأولويات -وإن شابها شيءٌ من الخلل الساذج- إلى إطالة عمر ما بُني عليها لاحقًا خلال فترات مُتطاولة من الزمن، لكنها ستنتهي في مرحلةٍ ما، وقد لا تظهر عوارض النهاية التي ربما تكون أسبابها متناهية الصغر؛ مثل: تزحزح ذرة تراب قبل ألف عام في سفح إمبراطوريةٍ راسخة كالطَّود العظيم وهي غارقة في اعتقاد تحكُّمها بالأقدار من قِمتها المُناطحةِ للسحاب، ولكنَّ مبدأ التسخير الغامض لن يتوقف عن ضبط تقديراته الدقيقة.
تُحاول في أقصى الشرق فراشةٌ خفيفةٌ الوصولَ إلى زهرةٍ أعلى الشجرة، وبالطبع فإنَّ أثر رفرفة جناحها تافهٌ جدًّا لدرجة أنه لا يُذكر كي تصنع فوضى ذات تأثيراتٍ متتابعة وتصل تبادلياتها إلى تطوير أحداثٍ تسلسلية مرتبطة فيما بينها بنوع من التواتر، لتُنتج أخيرًا حدثًا كبيرًا يقلِب موازين حضارةٍ كاملة في الغرب البعيد، ومع أنَّ احتمال هذه التراتبية شديد الضآلة إلا أنه وارد في مفهوم نظرية الفوضى، وقد لاحظ فارسٌ شديد الولاء لإمبراطوريته ذلك صباحَ يومٍ مُشرقٍ عند تغيُّر لون السماء في الأفق، لكنه كان غير مكترث مع تقديم الأولويات في انتظار انتهاء صانع الحدوات من تثبيتها على حوافر حصانه، ولم يعلم أنَّ البيطار الكهل قد أهمل تثبيت أحد المسامير في إحدى الحدوات لانشغاله بكل الأعمال بعد أن أودَى به غضبه قبل عامين لطرد مساعده الشاب، الذي كان يُعِينه على إتمام المهام الثانوية نظيرَ أجر زهيد ليتفرغ هو للحدادة المربحة، ويُشاع مؤخرًا أنَّ الشاب الصغير مساعد الحداد قد هاجر إلى منطقة أخرى وأسَّس لعمله الجديد ولكن بطرقٍ أكثر تطورًا وحداثة وسرعة، مستفيدًا من خبرات الحداد الأحمق.
تبدُو السُّلوكيات البسيطة أحيانًا غير ذات أثرٍ على الهيكل العام، وهي شذوذات صغيرة غير مقصودة، وربما تكون معلومة لكنها هشَّة يسيرة ولن تضر بالأساس البنيوي الذي يقوم عليه النظام ككل، بَيْد أنَّ اتحادها مع بعض المتغيرات الظرفية غير القابلة للرصد قد يؤدي لنتائج غير متوقعة وتحيد بنهج السيطرة إلى الشواش والفوضوية، لتأتي على بديهيات القوة والنفوذ والمعرفة، وتنسفها من أساسها نسفًا، وهذا ما كان يفكر فيه الفارس بعد امتطائه صهوة جواده منطلقًا في قيادة الجيش لدحض حملةٍ مناهضةٍ تشكلت على مقربةٍ من سفح الجبل الذي تتربَّع عليه القلعة المُحصَّنة للإمبراطور الخرِف، وقد أدرك الفارس في نقطة اللاعودة عدم ثبات خطوات حصانه، وهو لا يعلم أنَّ إحدى حدواته بدأت بالتخلخُل نتيجة سقوط مسمارٍ غير مُحكم التثبيت، كما لا يعلم الحدَّاد أنَّ مساعده الشاب قد طوَّر أعماله لصناعة أنواع من الأسلحة ذات جودةٍ عالية وأسعارٍ مُتدنية، مكَّنتْ الفقراء الناقمين من امتلاكها واستخدامها للقيام بثورة ضد الإمبراطورية التي لا تُقهر، وفي الجانب الشرقي القَصِي، وراء الجبال، تشكَّلت غيومٌ عملاقة تنبئ بتطوُّرها إلى إعصار مع هروب الفراشة للاعتصام بمكانٍ آمن.
كل الأمور تحت السيطرة في ظاهرها العام، وحسب القوانين والأنظمة التي وضع أُسُسها النظام، ومطردة مع التطوُّر الحضاري الطويل نسبيًّا في عمر الإنسان لخدمته وخدمة مجتمعه، وهي مبنيَّة على المعايير العلمية والخبرات التي اكتسبها خلال الفترات الماضية، وتبدو رصينة متماسكة لا يُمكن لأيَّة احتمالات اختراقها، كما لا يمكن وضع افتراضاتٍ سلبية بعيدة من شأنها تغيير المنهجية التي تسير عليها منذ عقود، وهذا ما يُؤكده مجرى الحياة اليومية ويُصَادِق عليه، ولكن فيما وراء الظواهر تعملُ بعض التقاطعات البسيطة ضد مجرى الأحداث، ولا يمكن قياسها أو حسابها، فهو جنوح غير قابل للتطبيق ولا التصديق، إلا أنَّ وقوعه الذي يناهز المستحيل مُمْكِن الحدوث.
تُعتبر بعض الظواهر البسيطة مُجرَّد شؤون سطحية جدًّا يمكن التعامل معها، ولكن تُشير كلُّ المؤشرات العميقة غير المُدركة إلى سقوط الإمبراطورية، وتدلُّ كل الدلائل الخفية على اقتراب ساعة النهاية؛ حيث ذرة تراب في قلب جبل القلعة الحصينة قد حرَّكت معها ذراتٍ في تراتبية منظمة لمئات السنين، وأحدثت خللًا في البنية الأساسية للجبل، وثار إعصار مُدمِّر من رفة جناح فراشة ليُغرق كلَّ تجهيزات الدفاع الاحتياطية التي اتَّخذها الإمبراطور المتخبِّط، وأسهم تسريح الحداد الغبي للشاب المجتهد في نشوء قوة جديدة أكثر تجهيزًا وتنظيمًا وراسخة الإيمان بعقيدتها، وسقوط حُدوة حصان الفارس عطَّل وصول الجيش في الوقت المناسب لمُلاقاة الثورة الشعبية، وما هي إلا سُوَيْعَات حتى جاء أمر الحسم، وانهارت معه كل ما صنعته هذه الحضارة، بعدما اتخذت كامل زخرفها، وانتهت وهي في قمة قوتها، وباتت تُرْوَى في كتب التاريخ، ويضع لها كلُّ مستكشفٍ فرضيته الخاصة في زوالها وأفول نجمها.
مهما بَدت قابلية الرَّصد للقوانين الطبيعية، ومهما بدت قابلية التطبيق للقوانين الوضعية، إلا أنَّها ستبقى هزيلةٍ ضعيفة مقابل قوانين ما وراء الطبيعة، والتي لن تفشل سببيتها في إحداث التغييرات، ولن تتوقف القوانين الربانية التي تجري على أساس تسخير الأحداث عن العمل، وما قد يبدأ من العدم في النطاقات غير المُدرَكة وتتوالى بعده الأحداث إنما هي رُتب مُقدَّرة، وتحتشد بكل دقة وإتقان، ولا نُلقي بها إلى مسميات الفوضى والشواش والحتمية وتأثير الفراشة إلا لضعفنا أمامها، وعدم إحاطتنا علمًا بها، وستأتي نتائجها في حينها المعلوم، ولا يُستَعجل أمرُ الله باستعجالِ أحد؛ حيث إنَّ المُستبد والمنصف والظالم والمظلوم جميعًا في قبضته.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
محمد رضا «معلم السينما» الذي أضحك الأجيال
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تحل اليوم الجمعة، ذكرى وفاة الفنان محمد رضا، الذي يعد أحد أبرز نجوم الكوميديا في تاريخ السينما والمسرح المصري، والذي استطاع أن يضفي على الشاشة روحًا فريدة تجمع بين الدعابة والإنسانية، تاركًا بصمة خالدة في قلوب الجماهير بأدواره المميزة وشخصيته المحبوبة.
بداياته متواضعة لكنها مشبعة بالحماسفي الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1921 ولد محمد رضا في بيئة بسيطة بمدينة أسيوط، حيث نما في أجواء تنضح بالثقافة الشعبية والتراث المصري، وعلى الرغم من التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهها في طفولته، حملته شغفه بالفن إلى السعي وراء تحقيق أحلامه، فكانت بداياته متواضعة لكنها مشبعة بالحماس والتصميم على الوصول إلى القمة.
درس محمد رضا الهندسة في البداية قبل أن يتحول إلى عالم التمثيل، فلم يكن الطريق إلى الشهرة مفروشًا بالورود، فقد بدأ مسيرته بتجارب فنية متعددة قبل أن يتجه رسميًا إلى عالم المسرح والسينما، التحاقه بالمعهد العالي للفنون المسرحية كان خطوة فاصلة، حيث تدرب وتعلم أصول الأداء المسرحي الذي مهد له الفرصة لتطوير أسلوبه الفريد، فقد استغل كل فرصة صغيرة ليثبت موهبته، ما أكسبه ثقة مخرجي الأفلام والمسارح في تلك الحقبة الذهبية للفن المصري.
فيلم 30 يوم في السجنانتقل محمد رضا إلى الشاشة الكبيرة في فترة ازدهار السينما المصرية، وسرعان ما أصبح رمزًا للكوميديا الراقية، فقد شارك في أكثر من 300 عمل فني، منها أفلام أصبحت من كلاسيكيات السينما مثل: «30 يوم في السجن»، الذي جمعه مع كبار نجوم عصره أمثال فريد شوقي، أبو بكر عزت، نوال أبو الفتوح، مديحة كامل، ميمي شكيب، وثلاثي أضواء المسرح سمير غانم وجورج سيدهم والضيف أحمد، والعمل من إخراج نيازي مصطفى، «حكاية بنت اسمها محمود»، «سفاح النساء»، «البحث عن فضيحة»، «رضا بوند» و«السكرية»، حيث برع في تقديم الأدوار التي جمعت بين الفكاهة والدراما، كما أبدع على خشبة المسرح في أعمال مثل «زقاق المدق» التي خلدت صورة الممثل الماهر والمرح.
اشتهر محمد رضا بأداء شخصية «المعلم» في العديد من الأفلام والمسرحيات، حتى أصبحت أيقونة راسخة في ذاكرة الجمهور، فلم يكن مجرد ممثل كوميدي، بل امتلك قدرة على تقديم الكوميديا الراقية الممزوجة بالعمق الإنساني، ما جعله واحدًا من أكثر الممثلين شعبية في السينما المصرية.
لم يكن محمد رضا فقط فنانًا على الشاشة، بل كان شخصية ذات حضور كاريزمي استثنائي، فقد امتلك حسًا فكاهيًا يعتمد على السخرية الراقية والذكاء في المواقف، مما جعله محبوبًا من قبل جماهير واسعة، إضافة إلى قدرته على التفاعل مع المواقف الاجتماعية والسياسية في عصره، دون المساس بجوهر الكوميديا، أكسبته احترام وإعجاب مختلف فئات المجتمع، فكان يتميز بإيماءاته المميزة، وتوقيته الكوميدي الذي خلق له مكانة خاصة بين زملائه وفي قلوب محبيه.
فيلم البحث عن فضيحةتجاوز تقدير محمد رضا كونه مجرد ممثل، فقد أصبح رمزًا ثقافيًا يمثل روح الدعابة المصرية وقدرتها على تخطي صعوبات الحياة بابتسامة، وقد عبر الكثير من الفنانين والمثقفين عن امتنانهم لمساهماته التي فتحت آفاقًا جديدة في تقديم الفن الكوميدي بطريقة راقية وإنسانية، فكانت لمساته الفنية تعكس حالة اجتماعية واجتماعية مر عليها المجتمع المصري، مما جعل أعماله وثائق ثقافية تعبر عن روح عصرها.
على الرغم من رحيل الفنان محمد رضا في 21 فبراير عام 1995، إلا أن إرثه الفني لا يزال حيًا، فقد ترك خلفه مجموعة ضخمة من الأعمال التي تدرس في معاهد الفنون ويستشهد بها في حلقات النقاش السينمائي، لذا يعد دوره في تشكيل الوجدان الجماهيري وابتكار صيغة الكوميديا المصرية من العوامل التي أسهمت في استمرار تأثيره على الأجيال الجديدة، وتعاد عرض أعماله القديمة في قنوات التلفزيون السينمائي والمهرجانات الفنية، ما يؤكد مكانته كواحد من أعمدة الكوميديا في مصر والعالم العربي.