تعد الاضطرابات الداخلية والأزمات السياسية أو الأمنية حدثا طبيعيا في تاريخ الدول والشعوب، ويعود ذلك إلى التغييرات التي تطرأ على بناها الاجتماعية والسياسية، وازدياد حدة التنافس والتنازع في المصالح بين مختلف فاعليها، وفي الدول التي استقرت فيها الممارسة الديمقراطية وتتوفر على آليات دستورية وسياسية لإدارة الخلافات وحلها سرعان ما يتم احتواء هذه الاضطرابات، مما يحد من مخاطرها على الدولة.

أما في الدول التي ما زالت تحتكم فيها الجماعة إلى القوة في تنظيم المجتمع وممارسة السلطة فإن القواعد الدستورية القائمة هي شكلية لدرجة أنها ستكون عاجزة عن تسوية أي صراع سياسي، وستتحول هذه الخلافات إلى شكل أكثر حدة كحدوث انقلابات عسكرية متكررة، أو نشوب نزاع داخلي مسلح يهدد وحدة الدولة ووجودها.

وتعد الاضطرابات التي تعصف بالنظام الدستوري سمة مميزة لدول قارة أفريقيا، خصوصا تلك الواقعة غربها، إذ تتكرر الانقلابات العسكرية في فترات زمنية قصيرة حتى في الدولة الواحدة، بل إن الانقلاب العسكري يكاد يكون في الوسيلة الطبيعية التي يتم بها تداول السلطة، وغالبا ما يكون الدستور الضحية الأولى لهذه الانقلابات.

كما تشهد هذه المنطقة عددا من النزاعات المسلحة التي اندلعت لأسباب مختلفة، وقد أدت هذه النزاعات إلى تعطيل الدستور واستمرار النظام الدستوري، لكن تقدّم منطقة غرب أفريقيا في الوقت نفسه مثالا ناجحا للدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمات الإقليمية كالمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس) في تسوية النزاعات الداخلية، وإطلاق مسار دستوري انتقالي ينهي حالات الاضطراب والنزاع المستعصية.

يحاول هذا المقال تحليل أثر الاضطرابات الداخلية على الدستور في دول غرب أفريقيا، وكيف يمكن أن يكون المسار الدستوري في المقابل أحد مسارات تسوية الاضطرابات العصية على الحسم عبر استعراض تجربة مجموعة إيكواس في دعم محاولات استعادة النظام الدستوري في المنطقة.


الدستور ضحية للاضطرابات الداخلية

تنبع أهمية الدستور في كونه أداة لضبط التنازع السياسي يتفق عليها الفاعلون السياسيون ويرتضونها حكما عند الاختلاف، ولذا فإن الاضطرابات الداخلية تهدد الدستور لأنها تشكل محاولة لتولي السلطة بخلاف ما ينص عليه، ولذلك فإن هذه الاضطرابات تؤدي إلى تجاهل هذه الوظيفة للدستور، لأنها تؤدي إلى تعطيله أو إلغائه عبر البحث عن أدوات أخرى لحسم الخلاف السياسي.

يجادل كثير من الباحثين في علم القانون الدستوري بأن الانقلاب العسكري ظاهرة غير قانونية ولا يمكن دراستها ضمن إطار الظواهر الدستورية والقانونية لأنها تمثل استيلاء على السلطة بخلاف الطريقة الدستورية المحددة سلفا، فهي بذلك انقلاب على الدستور، ولذلك لا توفر مراجع القانون الدستوري أي تعريف للانقلاب لكنها تجمع على وصفه بأنه تصرف غير دستوري.

تشيع ظاهرة الانقلابات العسكرية في أفريقيا بشكل متكرر لدرجة أنها أصبحت حالة نموذجية مميزة للقارة، وقد شهدت منطقة دول غرب أفريقيا فقط في السنتين الأخيرتين أكثر من 10 انقلابات كان آخرها انقلاب النيجر في 27 يوليو/تموز الجاري، وتكفي الإشارة إلى أنه في مالي وغينيا بيساو مثلا لم يستطع سوى رئيس واحد إكمال عهدته الرئاسية دون أن يتم الانقلاب عليه.

ويعود تكرار هذه الانقلابات إلى أن النظام السياسي في هذه الدول قائم أساسا على القوة بوصفها مصدرا لمشروعية السلطة، ولذلك فغالبا ما يتم الانقلاب على سلطة هي أصلا جاءت عن طريق انقلاب، وهكذا فإنه بدلا من الانتخابات الدورية المنتظمة فإن المنطقة استقرت في ما يبدو على الانقلابات العسكرية الدورية المنتظمة.

وتدل التجربة في منطقة غرب أفريقيا على أن الدستور هو الضحية الأولى لأي انقلاب عسكري، إذ يفسر هذا الانقلاب بأنه تعطيل ضمني للدستور القائم حيث لم يصرح المنقلبون بذلك، وفي غياب الدستور بوصفه مصدرا لشرعية السلطة، فإن القوة ستكون مصدر مشروعية الحكم والإخضاع رغم محاولة المنقلبين ترويج التبريرات التقليدية من قبيل حماية المصلحة العليا للوطن وإنقاذ الدولة، وسوء الإدارة الاقتصادية، والفشل في مواجهة التهديدات الأمنية.

ومن المهم الإشارة إلى أن عددا من الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه المنطقة كان هدفها إسقاط نظام استبدادي تمسك به رئيس الدولة بالسلطة لمدة غير محدودة، فهي كانت محاولة لمنع الرؤساء من تمديد ولايتهم التي انتهت بنص الدستور، وغالبا ما يلجأ هؤلاء إلى تعديل الدستور قبيل انتهاء عهدتهم لإعادتها إلى الصفر حتى يبدؤوا ولاية جديدة بموجب النص الدستوري، وهذا ما حدث مثلا في غينيا عندما أقدم الرئيس ألفا كوندي على تعديل الدستور في مارس/آذار 2020 حتى يمكنه الترشح لولاية ثالثة، إذ كان الدستور يمنعه قبل تعديله، وفاز كوندي بها في انتخابات أجريت في أكتوبر/تشرين الأول 2020، لكنه ما لبث إلى أن انقلبت عليه وحدة من القوات الخاصة في سبتمبر/أيلول2021.

ولكن ثمة ملاحظة نموذجية مشتركة في كل الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه المنطقة، وهي اللجوء مباشرة إلى تعطيل الدستور، وحل كل المؤسسات الدستورية القائمة، ففي الانقلاب الذي شهدته بوركينا فاسو في سبتمبر/أيلول من العام الماضي أعلن زعيم الانقلاب إبراهيم تراوري أنه أطاح بالزعيم العسكري بول هنري داميبا وحلَ الحكومة، وعلق العمل بالدستور، وسارع المجلس العسكري إلى عقد مؤتمر وطني وإعداد ميثاق انتقالي لتنظيم المرحلة الانتقالية، وتولى تراوري رئاسة البلاد خلال هذه المرحلة.

وفي غينيا -التي شهدت انقلابا عسكريا في سبتمبر/أيلول 2021- أعلن أحد قادة الانقلاب أنه اتخذ القرار بالقبض على الرئيس وتعطيل الدستور، والسيناريو نفسه اعتمده المنقلبون في النيجر مؤخرا.

وعادة ما يشرع المنقلبون في اتخاذ ترتيبات تنظيمية لمرحلة انتقالية يديرها مجلس انتقالي يرأسه أحد قادة الانقلاب الذي يعلن التزامه بالعودة إلى النظام الدستوري سريعا، لكنه قد يتماطل في ذلك.

وفي كل الأحوال فإن هذا الالتزام لا يعني السعي لكسب الشرعية الشعبية في الداخل بقدر ما يتعلق في ما يبدو بمحاولة استرضاء القوى الأجنبية والمنظمات الإقليمية، ولا سيما منظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) التي تسارع في كل مرة يحدث فيها انقلاب في المنطقة إلى إصدار بيانات رافضة له، إضافة إلى إقرار حزمة عقوبات عندما يماطل قادة الانقلاب في العودة إلى الحكم المدني كما حدث في مالي عندما قرر قادة المنظمة إغلاق حدود بلدانهم مع مالي وتجميد أرصدتها لدى المصارف ومنع التحويلات البنكية، وسحب الدبلوماسيين كافة من باماكو.

كما صدّقت المنظمة سنة 1999 على بروتوكول يتعلق بآليات الوقاية من النزاعات وإدارتها وحلها، وحفظ السلام والأمن في المنطقة وألحقته ببروتوكول إضافي بشأن الديمقراطية والحكم الراشد في 2001، وتضمن هذا البروتوكول مبادئ الحكم الراشد ومعايير إيكواس للانتخابات النزيهة والشفافة، إضافة إلى جملة العقوبات التي يمكن اتخاذها ضد الدولة المخالفة لهذه المبادئ، ولقد تزايد دور المنظمة وتصاعد تأثيرها الملحوظ في منع تكرار الانقلابات، ولجم المنقلبين عن المماطلة في العودة للنظام الدستوري، كما غدت بياناتها بمثابة مصدر للنصوص التي تصدرها السلطات الانقلابية لتنظيم المرحلة الانتقالية، وهذا ما يعكس حرص المنقلبين على "استرضاء" المنظمة وتجنب عقوباتها "القاسية" التي قد تكون فردية تستهدفهم وأسرهم والمقربين منهم.

وعلى خلاف الانقلاب العسكري فإن تعطيل الدستور عبر اللجوء إلى الأحكام الاستثنائية يكون بواسطة سلطة شرعية دستورية تتولى هذه الاختصاصات، وتفعل الحالة الاستثنائية بترخيص من الدستور القائم، لكن إشكالية الظروف الاستثنائية تكمن في التوسع في اتخاذ قرارات وتدابير قد تكون مخالفة لروح الدستور، وتنتهك مبادئه الأساسية كالحقوق والحريات، والفصل بين السلطات واستقلال القضاء.

وفي ظل غياب رقابة المحاكم الدستورية على ممارسة هذه الاختصاصات فإن السلطة الحاكمة تملك بشكل متحرر من كل قيد تقدير الموازنة بين درجة خطورة التهديدات والتدابير المناسبة لمواجهتها، وبين درجة التضحية الضرورية بمبادئ الدستور، والتي قد تصل عمليا إلى تعطيله بشكل كامل.

صارت الظروف الاستثنائية في دول غرب قارة أفريقيا هي الظرف العادي في البلد، في حين تكاد تكون فترات استقرار النظام الدستوري واستمراره هي الوضع الاستثنائي، وتكفي الإشارة مثلا إلى بوروندي التي شهدت نزاعا عرقيا دمويا بين الهوتو والتوتسي بداية من 1993 وإلى 2005، ولم تشهد البلاد خلالها انتظاما دستوريا بسبب تكرار حدوث الانقلابات العسكرية رغم اتفاقات السلام الموقعة.

وفي مالي فإن الحالة الاستثنائية معلنة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2015 على إثر الهجوم على فندق راديسون في باماكو، وهي تمدد في كل مرة إلى الآن لأسباب تتعلق بالتهديدات الأمنية في شمال البلاد، ومنذ ذلك الحين يمكن القول إن الدستور كان دائما معطلا.

المسار الدستوري بوصفه إحدى آليات تسوية الاضطرابات الداخلية

لا تقدم منطقة غرب أفريقيا فقط الأمثلة على شيوع الاضطرابات والانقلابات العسكرية المتكررة، بل إنها تقدم أيضا أمثلة ناجحة على حالات كان فيها إطلاق مسار دستوري انتقالي أحد مسارات تسوية النزاعات الداخلية والتحول نحو أنظمة دستورية أكثر استقرارا، وتعد جمهورية بنين مثلا نموذجا ناجحا لهذا المسار، حيث استطاعت تجاوز أزماتها الحادة عبر تنظيم "الندوة الوطنية للقوى الحية"، وقد أعدت هذه الندوة التي عقدت في فبراير/شباط 1991 نصوصا تحضيرية أفضت إلى وضع دستور توافقي وتأسيس نظام أكثر ديمقراطية.

علاوة على ذلك، أخذت منظمة إيكواس تلعب دورا حاسما في دعم عمليات الانتقال والإصلاح الدستوري في المنطقة، وأصبحت آلية إقليمية ذات تأثير قوي بفعل قدرتها الاقتصادية وحتى العسكرية، ففي ليبيريا مثلا تدخلت الجماعة عسكريا عبر مجموعتها لمراقبة وقف إطلاق النار وطردت المعارضة المتمردة من العاصمة مونروفيا سنة 1990، كما دعمت التوصل إلى اتفاق أبوجا الذي أنهى الصراع المسلح سنة 1996، ومنح البلاد فرصة إقامة نظام دستوري مستقر.

وفي 19 يناير/كانون الثاني 2017 قادت إيكواس التدخل العسكري في غامبيا لإجبار الرئيس الغامبي يحيى جامع على ترك وتسليم السلطة للرئيس آداما بارو المنتخب إثر الانتخابات الرئاسية الغامبية سنة 2016.

ختاما، فإن من المؤكد أنه لا يمكن عزل الظاهرة الدستورية في منطقة غرب أفريقيا عن تأثير عوامل أخرى داخلية ترتبط بالبنى الاجتماعية وسيطرة العرقيات، وتدني مستوى التعليم والوعي، وعوامل خارجية أقوى تأثيرا، أهمها الصراع الدولي المحتدم بين قوى متراجعة تصارع لإبقاء نفوذها في المنطقة كفرنسا، وقوى قادمة من بعيد تسعى لالتهام ما بقي في هذه المنطقة الغنية بالثروات، لكن من المؤكد أن على دول المنطقة أن تدرك أهمية ترسيخ ثقافة الديمقراطية والدستور ودولة القانون كآليات تمكنها من تسوية أزماتها السياسية وتضمن لها التحول التدريجي من حسم الخلافات بالقوة إلى حسمها بالاحتكام إلى مبادئ وتقنيات الديمقراطية كالاستفتاء والانتخابات الدورية المنظمة، والجدال السياسي داخل البرلمان وعبر منظمات المجتمع المدني، وضمن إطار إعلام حر وحريات مدنية مصونة.

————

[1]  بوركينا فاسو.. المجلس العسكري الحاكم يعين تراوري رئيسا للبلاد وقائدا للجيش، الجزيرة نت، شوهد في 26/07/2023، في: https://cutt.us/BciAp

[1]  وسط تنديد دولي.. انقلاب في غينيا والقبض على الرئيس كوندي وتعطيل الدستور، الجزيرة نت، شوهد في 27/07/2023، في: https://cutt.us/c8wjP

[1] بسبب مماطلة العسكر في عودة الحكم المدني.. إيكواس تفرض عقوبات "قاسية" على مالي، الجزيرة نت، شوهد في 28/07/2023، في: https://cutt.us/jEAY1

[1] "إيكواس" فرضت عقوبات على مالي.. تعرف أكثر على المنظمة التي تقود غرب أفريقيا، الجزيرة نت، شوهد في 29/07/2023، في: https://cutt.us/OKaud

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الانقلابات العسکریة النظام الدستوری دول غرب أفریقیا هذه المنطقة فی المنطقة إلى تعطیل إلى أن

إقرأ أيضاً:

محمد أحمد أبو رَنّات.. وقاضٍ في الانقلاب (1-3)

في إعادة النظر في عقيدة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان تسليماً من عبد الله خليل واستلاماً من الفريق عبود

محمد أحمد أبو رَنّات.. وقاضٍ في الانقلاب (1-3)
عبد الله علي إبراهيم

(أعيد هنا نشر ثلاثة فصول من كتابي ". . . ومنصور خالد" (2018) أعدت فيها النظر في ذائعة أن انقلاب 17 نوفمبر 1958 كان مجرد عملية "تسليم وتسلم" بين عبد الله خليل رئيس الوزراء (أو حزبه) للجيش. وهي ذائعة أفسدت ذوقنا في تحليل ذلك الانقلاب، بل تعدى ذلك إلى بؤس تحليلنا لما بعده من انقلابات. وساق هذا إلى نظريات في الانقلاب غاية في الكآبة و"قدر ظروفك". اطلعت في هذا النظر المجدد إلى أدبيات مجهولة أو مهملة. منها "تقرير لجنة تقصي الحقائق عن انقلاب 17 نوفمبر"، وكتابات الرفيقة روث فيرست عن ذلك الانقلاب في كتابها عن الانقلاب في أفريقيا، وكتاب ب بختولد في السياسة السودانية، وكتاب وليد الأعظمي عن الوثائق البريطانية عن السودان، وكتابات لجعفر حامد البشير قريب الصلة باللواء، وأخرى لمحمد أدروب وعصام ميرغني. وسعيت لدار الوثائق الأمريكية بماريلاند لأتحقق من ذائعة أن الأمريكان من كانوا من وراء الانقلاب التي هي رواية الشيوعيين).

غلب الرأي في فكرنا السياسي، أن الانقلاب عملٌ خاص إما لعبد الله خليل (البيه)، رئيس الوزراء من حزب الأمة على حكومة ائتلافية بين حزب الأمة وجزب الشعب الديمقراطي (الختمية)، أو لحزبه أو لدوائر متنفـِّذة فيه. وأن العساكر تسلموا أمراً بالقيام به من البِيْه، وزير الدفاع، فاستلموا الحكم امتثالاً لأمر عالٍ كما هي نظم الجيش. فمحمد عمر بشير يرى أنه كان حتى السيد عبد الرحمن ضَلَع في الانقلاب لإغراء البِيْه بتأمين رئاسة السودان له. وهو ما حلم به دائماً كما تواتر. وقال بذلك السيد محمد أحمد محجوب أيضاً. ولهذا قيل إن السيد سارع لتأييد الانقلاب يوم وقوعه. وقال اللواء أحمد عبد الوهاب، الرجل الثاني في الجيش، إنهم ربما وجدوا خطاب السيد بمباركة حركتهم حين التقوا به في يوم الانقلاب أو أنه أعده بعد خروجهم من داره مباشرة.
ربما لم يكن العساكر خلوّاً من السياسة حتى تقع لهم كتعليمات من البِيْه على حسب العبارة المشهورة "تسليم وتسلم". فقد صورنا الأمر كذلك ربما من باب الاستهانة بغريزة العسكر السياسية أو للكيد للبِّيْه وحزب الأمة. وقد استثمر العسكر نسبة انقلابهم إلى التسليم والتسلم استثماراً تنصلوا به عن مسؤولية الانقلاب يوم الحساب كما نجد ذلك في أقوالهم للجنة التي تشكلت بعد ثورة أكتوبر 1964 للتحقيق في الأسباب التي أدت إلى ذلك الانقلاب. فقد قال عبود أمام المحققين معه، بعد ما أطاحت به ثورة أكتوبر 1964، عن قيامه بالانقلاب خضوعاً لأمر عالٍ من وزير الدفاع، البِيْه:" لو عبد الله خليل قال بلاش الحكاية كنا في ثانية ألغينا كل شيء."
من جهة أخرى، ربما لم يكن البِيْه هو وحده الذي وسوس للعسكريين بالانقلاب، فقد اتفق للكثيرين، واليساريين منهم على وجه الخصوص، أن الأمريكان هم من أوحى بهذا الانقلاب للبِّيْه وللجيش معاً. وأفضل عرض لدور أمريكا في الانقلاب، هو ما جاء على لسان روث فيرست الشيوعية الجنوب أفريقية، التي اغتالها نظام بلدها العنصري، في عام1982. فقد رجَّحت أن أمريكا وبريطانيا باركتا تقحـُّم الجيش السوداني للحكم في 1958 بعد لأيٍّ لما ارتأيا أنه شرٌّ لابد منه، لاستقرار البلاد كما فهما ذلك. وقالت إنه بتاريخ 13 نوفمبر 1958 كان صُنّاع السياسة الأمريكية، قد اقتنعوا أن مصر ستنفِّذ انقلاباً في السودان بناءً على تصريح مختَــلَف عليه بأن حزبي الوطني الاتحادي والشعب الديمقراطي بصدد التحالف لإقصاء حزب الأمة من الحكم يوم افتتاح البرلمان في 17 نوفمبر 1958. وأضافت فيرست أن المقصود من التصريح كان تسريع خطوات تحالف حزبي الأمة والوطني الاتحادي. وقد رأينا في الفصل الفائت كيف سهرت بريطانيا، التي انطوت على شيء من الثقة بالوطني الاتحادي منذ اختار استقلال السودان على الوحدة مع مصر في 1956، لإنشاء هذا الحلف بين حزبي الأمة والاتحاديين بالوعد والوعيد. وقد تواثق الحزبان على هذا الحلف في اجتماع انعقد ليلة 17 نوفمبر. ومات الحلف في مهده بحركة الجيش في فجر تلك الليلة. ومن رأي فيرست أن ذلك التصريح، والمقصود منه التعجيل بتحالف الأمة والاتحادي، عاد بعكس مراده، فقد أسرع عبد الله خليل البِيْه، رئيس الوزراء من حزب الأمة، بزجِّ الجيش في الحكم.
ربما لم نجانب الصواب إن قلنا إن بريطانيا وأمريكا خاصة لم تكونا بعيدتين عن خطة الانقلاب وهما في غمرة سعيهما لتوفيق أوضاع السودان بما يلائم أغراضهما في إطار الشرعية الدستورية. ونحتاج لبيان دورهما في الانقلاب إلى نظرٍ أدق في وثائقهما الدبلوماسية. فسيكون مثيراً أن نعرف إن كان لسفارتي الدولتين صلة مباشرة بالجيش نفسه. فلو وُجدت هذه الصلة استوجب علينا أن نراجع العقيدة السائدة في أن الانقلاب لم يكن سوى "تسليم وتسلم" أمر به البِيْه وزير الدفاع، وأتّبَعه الجيش كأمرٍ صادر من الضابط الأعلى. فلو صح أن للدولتين سكة سالكة لقيادة الجيش لتعقد أمر منشأ الانقلاب.
ومما يغري بالكشف عن صلة مستقلة لقادة الجيش بالدبلوماسيين البريطانيين والأمريكان، عبارة غامضة قالها محمد أحمد أبو رنات، رئيس القضاء في عهد البِيْه وعبود، وأحد أعمدة الطاقم المدني في دولة نوفمبر لِــ " روث فيرست ". وسبب غموضها أنه بنى الفعل فيها للمجهول بدربته القانونية المعروفة حتى ضاع الأثر وغاب المذنب. فقد قال إنه قد اتفق ضمنياً للناس (من هم؟) في مناقشات استمرت لبضعة أسابيع صواب أن يتولى الجيش زمام الأمر. وقد كان أمر الجيش والحكم مما جرت الشورى حوله وتقليبه بين هؤلاء الناس. وقال القاضي إنه وضح من هذه المناقشات بين هؤلاء الناس أن حركة الجيش هذه ستكون موضع ترحيب ما. وليس واضحاً من عبارة أبي رنات طبيعة هذه الجماعة التي قَلَّبت أمر حركة الجيش، واستعدَّت لمباركتها متى وقعت.
غير أننا ربما لن نشتطّ إن قلنا إن القاضي ربما كان طرفاً في هذه الجماعة التي تدبر شراً للدستور الذي أقسم أن يصونه. فقد وجده زعيم من حزب الأمة مختلياً بالبِيْه ظهيرة اليوم الذي سبق الانقلاب. وتكرر ذكر اسم القاضي في روايات وشهادات عن الانقلاب وجده أهلها في مواقع للشبهة. فقد ورد أنه أوصل بعربته المرحوم اللواء حسن بشير، الرجل القوي في دولة نوفمبر، إلى منزل المرحوم أحمد خير في السابعة والنصف من صباح الانقلاب. وكان اللواء جاء لأحمد خير ليعرض عليه أن يكون مستشاراً قانونياً للانقلابيين. وقد تقدّم أبو رنات اللواء داخل المنزل. وألمح لأحمد خير بسبب الزيارة. لهذا لم يكن أحمد خير خالي ذهن عن عرض اللواء. وسمى أحمد خير هذا التلميح بالإنجليزية (hint). ورجَّح أحمد خير، أمام لجنة التحقيق الرسمية في دواعي الانقلاب، أن مجيء القاضي له صباح الانقلاب، كان ليدل اللواء على منزله. وهذا بمثابة تغطية لرئيس القضاء من تُهمة التآمر لخرق الدستور. ثم واصل أحمد خير، نفي الشبهة عن أبي رنات، رفيق سلاحه في نظام عبود، قائلاً إنه لا يعتقد أنه ممَّن علم بجذور الانقلاب، ولكنه كان مع ذلك، وثيق الصلة بعبود وحسن بشير. وأضاف أن هذه صلات قد تجعله أقدر منه ليدرك علم نفس الموقف السياسي وأغراضه آنذاك. وفي سياق هذه التبرئة لأبي رنات من وِزر التآمر للانقضاض على الدستور قال حسن بشير في أقواله للمحققين إنه جاء وحده لأحمد خير. ولكنه عاد ليقول للمحققين إنه وجد أبا رنات مع أحمد خير حين ذهب لعرض منصب المستشار القانوني عليه بأمر من عبود. وظل اسم القاضي يرد في أقوال الآخرين كلاعب ذي وزن في الانقلاب. فقال الدرديري محمد نقد للمحققين أن أحمد خير صَبِح ليلة الانقلاب مع العسكريين وقد صاغ لهم كل بياناتهم. وأضاف أن القاضي هو الذي زكَّى أحمد خير للعسكريين حين طلبوا منه أن يكون مستشاراً تقية منه حتى لا يُشاهد رجل في منصبه والتزاماته يُظاهِر على خرق الدستور.
جاء عند فيرست ما قد يضع النقاط على حروف أبي رنات المواربة عن أولئك الناس الذين تواثقوا على فكرة قلب نظام الحكم. فمن رأيها أن بريطانيا وأمريكا مالتا لفكرة الانقلاب في الدقائق الأخيرة لأن احتمالات استحواذ مصر على السودان بانقلاب يقوم به صغار الضباط، أو بتحالف الاتحادي مع حزب الشعب، وكليهما مصري الهوى، كانت تتزايد يوماً بعد يوم. وجاءت فيرست بما يشير إلى صلة واصلة بين الدبلوماسية الغربية والانقلابيين. فقد قالت: "ولما بلغ الأمر هذا الحد، لم يعد لبريطانيا وأمريكا وجه اعتراض على تدخل الجيش، فهما إما أصبحتا على الحياد بشأن تدخل الجيش، مما اعترضتا عليه قبلاً، طلباً لاستقرار الوضع السياسي، أو قد هجرتا بحماس موقفهما بشأن الانقلاب لاحتواء مطامع مصر وحِيَلها الحقيقية أو المتوهمة حيال السودان. وقد طمأنا الانقلابيين أنهما قد تبديان عدم ارتياح للانقلاب في الظاهر إلا أنهما راضيتان بقيام الانقلاب وما يعقبه".
وعليه ليس صعباً الاستنتاج هنا أن هناك أكثر من جهة أوحت للجيش بالانقلاب. بل ربما كان الجيش هو من أوحى لنفسه بخرق الدستور واعتلاء سدة الحكم. فقال ف. بختولد، الذي كتب كتاباً حسناً عن السياسة السودانية، إن الجيش ربما استوحى الانقلابات الناجحة من حوله في مصر والعراق والباكستان. وزاد بأن الضباط السودانيين كانوا عقدوا أواصر مع باكستان في عهد أيوب خان. وربما أغرتهم هذه الأواصر للتحرك لأخذ الحكم عنوةً. بل قال اللواء أحمد عبد الوهاب إن أول أسبابهم للانقلاب كان هو "إحباط محاولات الضباط الصغار، الذين كانوا على وشك إحداث انقلاب قد يعود بنتائج سيئة". وقال اللواء حسين على كرار أيضاً إنهم كانوا في سباق مع صغار الضباط " لأنه إذا لم يعملوها، فلا بد أن الصغار سيعملوها". وكان أخشى ما يخشاه هؤلاء الضباط الكبار أن يكون انقلاب الصغار لصالح مصر التي قال اللواء محمد أحمد التيجاني إن زيارات مسؤوليها للسودان قد تواترت. وتبقى شيء في نفس هؤلاء الضباط العظام من تهور صغارهم حتى بعد الانقلاب. فلما انقلب المرحوم المقدم على حامد ورفاقه على النظام في 1959 كان عبود، شديد الاقتناع بضرورة إعدامهم منعاً للفتنة. وقال للصحفي جعفر حامد البشير أنهم جاؤوا إلى الحكم وهم على أبواب المعاش وقد أسلس قياد الناس لهم بالنظر إلى خبرتهم الطويلة في أصقاع البلد، ومعرفتهم بطبائع الناس. وسأل جعفر: “فكيف بمصير البلاد الآن إذا وقع حكمها في أيدي شبان مغامرين، حديثي السن والتجربة والمسؤولية، لا يزيد بعضهم على رتبة الرائد؟".

مولانا أبو رنات رئيس القضاء قبل وخلال فترة إبراهيم عبود

ibrahima@missouri.edu  

مقالات مشابهة

  • سلطنة عُمان تُشارك في الاجتماع الـ 41 لوزراء الداخلية بدول مجلس التعاون
  • وزراء الداخلية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية يعقدون اجتماعهم الحادي والأربعين في الدوحة
  • بحضور الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف.. وزراء الداخلية بدول مجلس التعاون يعقدون اجتماعهم الـ41 بقطر
  • سيف بن زايد يصل الدوحة للمشاركة في اجتماع وزراء الداخلية بدول «التعاون»
  • أردوغان: سنواصل النضال ضد الفوضى التي تثيرها سياسات الاحتلال
  • قاض سابق يدعو إلى الطعن الدستوري في قانون "المسطرة المدنية" استنادا إلى نظرية معدومية القرارات الإدارية
  • ”عبر أعينهم“.. يناقش الاضطرابات النفسية لدى الأطفال ضحايا الاعتداء الجنسي
  • الوضع الدستوري للشركة المتحدة!
  • محمد أحمد أبو رَنّات.. وقاضٍ في الانقلاب (1-3)
  • حزب الله والمسوّدة الأميركية: تناغم بين الميدان والمسار الديبلوماسي