تؤدّي الحركات الاجتماعية دورها وتذهب إلى ذمّة التاريخ. تبدو دومًا أشبه بذكَر النحل الذي يُلقح الملكة ثم يموت، أو هي "رفة الفراشة" التي تنتهي إلى عاصفة تكنس أمامها كثيرًا من الأشياء. هذه قاعدة متعارف عليها في علم الاجتماع السياسي، وطالما فصَّل فيها أكاديميون أميركيون، من المؤكد أنهم الآن يعرفون جيدًا ما ستُحدثه حركة الطلاب – الرافضين إبادةَ أهل غزة – في المستقبل.

هنا يثار التساؤل: هل اعتصام الطلاب الأميركيين يشكل حركة اجتماعية، أم هو مجرد تعبير عن موقف سياسي عابر؟ الحقيقة أن "الإبادة الجماعية" في غزة إن كانت قد حرّكت ضمائر عامرة بالإنسانية، بل زلزلتها، فهذا انتقل، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني، من مجرّد الأسى والحسرة النفسية الشخصية، التي تجعل كل فرد متعاطفٍ مع فلسطين أو رافضٍ سلوكَ إسرائيل يتوجّع وحيدًا، إلى فعل جماعي، لا يقتصر على طلاب كل جامعة على حدة، إنما يتم تشبيك مختلف الجامعات في هذا الاتجاه، بل تعدّى الأمر حدود الجامعات، ليجذب قطاعات من المجتمع، حتى خارج أسر الطلاب وذويهم.

قاعدة اجتماعية سائدة

لكل هذا، ليس من المستبعد أن يسعى الطلاب الذين قمعتهم الشرطة، وفضّت اعتصامهم عَنْوة، إلى التواصل بطرق أخرى، لاسيما إن استمرّت إسرائيل في إبادة أهل غزة، وتشكيل حركات اجتماعية خارج الجامعة، تضمّ أيضًا كل مَن يؤمن بموقف الطلاب وأفكارهم من بين الأميركيين. وهنا أتوقع أن ينطلق الأمر من مناصرة فلسطين إلى مناقشة ما آلت إليه حالة الحرية في أميركا، ومستقبل الديمقراطية، وأضرار النزعة الاستعماريّة للولايات المتحدة.

سيقول قائل؛ إن المعتصمين في حرم الجامعات؛ رفضًا للإبادة، كانوا قلة، قياسًا بعدد طلاب كل جامعة، وبالتالي فإنهم إن انفتحوا على المجتمع على العام، فلن يخرجوا عن هذه القلة، بينما أغلبية الشعب الأميركي غير مشغولة بهموم الطلاب المحتجين، ولا بما يجري في العالم.

بالطبع، هذه حقيقة لا مراء فيها، لكنها تحسب الأثر بالعدد، وتغفل السياق، وتتناسى عدد المتعاطفين ممن لا جسارة لهم كي ينضموا للاعتصامات، كما تهمل قاعدة اجتماعية سائدة تبين أن الثورة أو الانتفاضة أو حتى الفورة الغاضبة والتحولات الإستراتيجية في دولة ما لا يصنعها كل أفراد المجتمع، بل هؤلاء يكونون دومًا القلة في وجه الكثرة الراضخة والمنكسرة واللامبالية، ومع هذا تستطيع تلك القلة أن تُغير دفة الأحداث، وتُعيد ترتيبها، فالتاريخ يصنعه الصائتون لا الصامتون، إن لم يكن صمتهم ناجمًا عن وعي بميزان القوى، ويكون أشبه بترقب الواعين الذين يحسنون اختيار اللحظة المناسبة للفعل الإيجابي الجهور.

كما ينسى من يهوّنون مما فعله الطلاب، أن لهؤلاء دوائر عدة من الرأي العام المتعاطف معهم، ولهم همزات وصل بكثير من زملائهم الراضين عن الغضب والاحتجاج والاعتصام، لكنهم مُحجمون عن القيام بفعل إيجابي الآن لحسابات شخصية بحتة، لا يوجد ما يمنع من تغيّرها جذريًا في المستقبل، لنجد الدوائر الاجتماعية تتسع في كل الاتجاهات.

المسمار الأخير

لقد واجهت السلطات الأميركية، في كل ولاية، وعلى المستوى الفدرالي، اعتصام الطلاب بقسوة، لم يسبق لها مثيل منذ أن رفعت الولايات المتحدة شعارَ قيادة العالم الحرّ في وجه الاستبداد الشيوعيّ وحتى الآن. ومثل هذا التصرف يمكنه أن ينهي اعتصامًا في مكان ما، لكن ليس بوسعه أن يخلع مبدأ يؤمن به معتصم، أو ينسيه موقفًا اتخذه، وكان لديه استعداد ليضحّي من أجله بالكثير.

إن هناك قاعدة تعلمناها من أحداث التاريخ، تقول: إذا أردت لشيء أن يكبر ويسمو وتتعاظم حجته ومشروعية خطابه واجهه بالعنف المفرط. من المرشح أن يحدث هذا في قابل الأيام بعد فضّ اعتصام طلاب الجامعات في الولايات المتحدة، فالطلاب لم يأتوا للاعتصام من فراغ، بل من مجتمع يتحوّل في اتجاه رفض "الإبادة الجماعية" أمدَّ بعضه اعتصام الطلاب بالمؤن، وتعاطف معهم في الإعلام.

اليوم ستكبر مظلومية الطلاب، ويصل خطابهم مصاحبًا لصور العنف ضدهم إلى كل المجتمع الأميركي، فيكبر معه السؤال عن الحقيقة، التي يلتزم كل من يعرفها بمناصرة الشعب الفلسطيني، إن كان متسقًا مع ذاته. وهو إن لم يجاهر بهذا، فسيكون قلبه مطمئنًا إلى أن التصورات القديمة حول إسرائيل في حاجة إلى مراجعة جذرية.

إن يوم فضّ اعتصام الطلبة، يبدو فارقًا في عمر الإمبراطورية المتغطرسة، فالتاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات حين تفقد كل عقلها، ولا تعبأ بصورتها، وتتصرف عكس ما تقوله دومًا، تدقّ المسمار الأخير في نعشها، أو على الأقل يكون نجمها آخذًا في الأفول.

فهل يمكن لأميركا بعد اليوم أن تحدّث العالم عن "الحرية" المزعومة؟ وهل يمكن أن تخفي وجهها الاستعماري المغلف بمساحيق تجميل تحملها عبارات وشعارات سياسية تم تسويقها على مدار العقود الماضية، من قبيل "العالم الحر" و"إعلاء مبدأ المواطنة" و"نصرة حقوق الإنسان" و"احترام حرية التعبير"؟

عبء ثقيل

إن أغلب الشعب الأميركي عاش طوال حياته غير منشغل بما يجري خارج حدود بلاده، ولا يهتم من الداخل بأية مسألة عامة أبعد من الضرائب والتأمينات والصحة وحركة توزيع السلع والاستثمارات، حتى إن استطلاع رأي جرى داخل الولايات المتحدة في الثمانينيات من القرن العشرين كشف أن ثلثي الأميركيين لا يعرفون اسم الدولة التي تنافس بلادهم في الساحة الدولية، وبينهما "حرب باردة"، وهي الاتحاد السوفياتي.

لم يمنع هذا استيقاظ قطاع عريض من الشعب على فجيعة حرب فيتنام، فيعود من غفلته ليضغط على إدارة بلاده كي تنهي الحرب. وهو أمر تكرّر اليوم، بادئًا بمجتمع ضيق يمثل طلاب الجامعات، وعلى نطاق خاص بالقضية الفلسطينية، ثم سيذهب لاحقًا إلى نقاش حول مختلف القضايا والأوضاع داخل الولايات المتحدة، بما قد يسهم في هندسة علاقاتها الدولية فيما بعد.

إن النقاش الدائر الآن، الذي يصف في ركابه البعض بأن إسرائيل صارت عبئًا ثقيلًا على الولايات المتحدة، امتدّ إلى التنافس الحادّ بين الجمهوريين والديمقراطيين. فالجمهوريون يقولون؛ إن الوضع تحت قيادة جو بايدن يخرج عن السيطرة، والديمقراطيون، وضمن حسابات الانتخابات الرئاسية المقبلة، يحاولون ألا يكون موقفهم من العدوان الإسرائيلي على غزّة نقطة ضعف في موقفهم الانتخابي المقبل، وهو موقف محير ومربك لهم على كل حال.

واتكاءً على ما جرى في الانتخابات الرئاسية السابقة من المحتمل أن يتحوّل الاختلاف إلى خلاف، وربما شقاق وصراع حادّ، في الانتخابات المقبلة، وسيكون وقتها للحركة الطلابية موقعها فيه، متجاوزة نُصرة القضية الفلسطينية إلى مساءلة النخبة الأميركية كلها، من الديمقراطيين والجمهوريين، عن حال الديمقراطية والتنمية ووضع المشروع الاستعماري المتواري حول أردية من الدعايات والمجازات، بعد أن انكشف كل هذا بسبب ما جرى لغزة.

ليس هناك ما يمنع ذهاب أميركا إلى اضطراب. قد يكون هذا آتيًا لا محالة، إن لم يكن اليوم، فمع انتخابات الرئاسة، ووقتها ستحضر القضية الفلسطينية قوية ضمن قضايا أخرى، أهمها: أية رسالة بقيت لأميركا في العالم؟ وهل بدأت الامبراطورية المتسيّدة الآن رحلة التراجع نحو النهاية؟ ووقتها قد يقول المؤرخون: كانت غزة هي البداية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الولایات المتحدة اعتصام ا

إقرأ أيضاً:

الاتحاد المصري لطلاب كلية الصيدلة يتأهب لانطلاق النسخة الرابعة EPSF Conference

حيث يلعب الاتحاد المصري لطلبة الصيدلة (EPSF)منذ تأسيسه عام 1982، دورًا محوريًا في دعم طلاب الصيدلة وتطوير مهاراتهم العلمية والمهنية.

ومنذ ثلاث سنوات، أطلق الاتحاد مؤتمر EPSF Conference، الذي أصبح منصة تجمع بين الطلاب، الخبراء، والشركات الصيدلانية الكبرى، لتقديم تجربة تثري معارف الطلاب وتساعدهم في بناء مستقبلهم المهني.

واليوم، يستعد الاتحاد لإطلاق النسخة الرابعة من المؤتمر، والتي تأتي هذا العام بتجربة متجددة، تهدف إلى تقديم محتوى أكثر شمولًا وتأثيرًا في مسيرة طلاب الصيدلة.

ويشارك في المؤتمر هذا العام ممثلون عن منظمة الصحة العالمية (WHO)، منظمة اليونيسيف (UNICEF)، وزارة الصحة المصرية، الهيئة المصرية للدواء، إلى جانب شخصيات مؤثرة في مجالات الصيدلة، التسويق وريادة الأعمال.

كما يشهد المؤتمر حضورًا واسعًا من كبرى الشركات الدوائية والمؤسسات الرائدة في صناعة الأدوية، والتي ستقدم ورش عمل تدريبية متخصصة، تتيح للطلاب فرصة لاكتساب خبرة عملية مباشرة تؤهلهم لمتطلبات سوق العمل المتطورة.

وقد شهدت النسخ السابقة حضور نخبة من الخبراء مثل الدكتور محمد عثمان، الدكتور محمد أيمن، الدكتور حاتم ستين، الدكتور عمرو عطا الله، الدكتورة دعاء كامل، الدكتور حازم طارق، والدكتور معاذ عارف، بالإضافة إلى عمداء كليات الصيدلة في مختلف الجامعات المصرية. كما حظي المؤتمر بدعم قوي من هيئة الدواء المصرية ووزارة الصحة ونقابة الصيادلة.

ويهدف المؤتمر إلى تزويد طلاب الصيدلة بفرصة متميزة للاستفادة من الجلسات العلمية وورش العمل التدريبية، التي تساعدهم على اكتساب المعرفة والخبرة في مختلف المجالات الصيدلانية. كما يسلط الضوء على إنجازات الاتحاد خلال العام، ويتيح للطلاب الاطلاع على أحدث التطورات في القطاع الصيدلاني والتفاعل مع الخبراء والمتخصصين في المجال. وبالإضافة إلى ذلك، يمثل المؤتمر فرصة لتعزيز التواصل بين الطلاب وسوق العمل، حيث يوفر بيئة تفاعلية تجمع بين الطلاب وأصحاب الخبرات لمناقشة التحديات والفرص المستقبلية.

كونوا على استعداد للقاء القادة والخبراء في النسخة الرابعة من EPSF Conference، وذلك يوم الثلاثين من شهر أبريل القادم، في فندق Triumph Plaza Hotel بمصر الجديدة. ترقبوا المزيد من التفاصيل حول هذا الحدث الذي يعد بتجربة تثري معارف طلاب الصيدلة وتفتح لهم آفاقًا واسعة نحو مستقبل مهني مشرق.

مقالات مشابهة

  • الأكاديمية المصرية للطيران تستقبل طلاب دفعة 59C
  • واشنطن تواصل إلغاء تأشيرات طلاب متضامنين مع فلسطين.. وصلت إلى 500 تأشيرة
  • الاتحاد المصري لطلاب كلية الصيدلة يتأهب لانطلاق النسخة الرابعة EPSF Conference
  • نحو ألفي طالب يتقدمون لامتحان العمارة الموحد
  • إعلام الغردقة يحذر طلاب الثانوي من خطر الشائعات ويوضح سُبل المواجهة
  • طلاب اليمن في الخارج يطلقون حملة للمطالبة بصرف مستحقاتهم المتأخرة
  • احتجاجات طلابية تعلق الدراسة بشكل كامل في جامعة عدن
  • طلاب وطالبات جامعة حضرموت ينفذون وقفات احتجاجية تضامنًا مع الشعب الفلسطيني
  • استمرار إلغاء تأشيرات طلاب متضامنين مع فلسطين بأميركا
  • الولايات المتحدة تواصل إلغاء تأشيرات طلاب متضامنين مع فلسطين