أثبت الرئيس التركيّ رجب طيب أردوغان بقرار تعليق النشاط التجاري لبلاده مع إسرائيل وتفضيله إظهار الدعم الصريح للفلسطينيين في هذه الحرب، على الحفاظ على العلاقات الجديدة مع تل أبيب، أنه لا يتردد في الوقوف إلى الجانب الصحيح من التاريخ، عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية تحديدًا، حتى لو كان ذلك مقابل تكاليف.

لكن حقيقة أنّ الخطوات التصعيدية، التي اتخذتها أنقرة مؤخرًا ضد تل أبيب، جاءت بعد مرور سبعة أشهر على الحرب، ولا تزال تبدو ضعيفة، بالمقارنة مع إدارتها موقفَها من القضية الفلسطينية خلال العقد الماضي، خصوصًا لجهة تجنّب اتخاذ خطوات على غرار تخفيض العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، كما جرى في عامي 2010 و2018، تُظهر نهجًا مختلفًا لأردوغان، مصممًا هذه المرة لجعل التكاليف مُنخفضة، إن على تركيا أو على علاقاتها بإسرائيل، وللحفاظ على هامش يُتيح للدبلوماسية التركية التحرك من أجل إنهاء الحرب على غزة، ومعالجة الكارثة الإنسانية الفظيعة في القطاع.

في الأزمات التي عصفت بالعلاقات التركية الإسرائيلية خلال العقد الماضي، كان أردوغان يولي أهمية قصوى لتعاطفه مع القضية الفلسطينية على أي شيء آخر. لكن الدروس المُستفادة من تلك التجربة كانت حاضرة بقوة في تشكيل السياسة التركية الحالية في الحرب

وفي الوقت الذي ألمح فيه أردوغان في خطاب ألقاه في 26 أبريل/ نيسان الماضي إلى احتمال تطور الموقف التركي ضد إسرائيل إلى ما هو أبعد من تعليق النشاط التجاري معها، تُظهر إستراتيجية "التصعيد التدريجي منخفض التكاليف" أنه لا يزال يولي أهمية لقياس الفوائد المرجوة لخطواته مع التكاليف المترتّبة عليها.

لا يحتاج الحذر التركي في تجنب انهيار جديد في العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، إلى كثير من التفسير. كانت تركيا قد أصلحت قبل فترة وجيزة من اندلاع حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب بعد سنوات من التوترات. وتجربة ما يزيد على عقد ونصف العقد من هذه التوترات، تجعل أردوغان أكثر واقعية في مقاربة مستقبل هذه العلاقات؛ لأن خطوة من قبيل قطعها أو تخفيضها تتطلب قرارًا سياسيًا في لحظة ما، لكنّ إعادة ترميمها ستستغرق سنوات، كما حصل منذ مطلع العقد الماضي.

كما أن الأهداف التي وضعتها تركيا لسياستها في الصراع الراهن وتتلخص في تعزيز الجهود الدبلوماسية؛ لإنهاء الحرب، وإنهاء الكارثة الإنسانية في غزة، ونقل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد انتهاء الحرب إلى مرحلة الحل العادل والشامل، سيُصبح تحقيقها أكثر صعوبة في حال وصلت التوترات الراهنة مع إسرائيل إلى نقطة اللاعودة.

علاوة على ذلك، تُظهر تركيا رغبتها في لعب دور أكثر نشاطًا في مجال الوساطة بين إسرائيل وحركة حماس. كما سبق أن أبدت استعداداتها للمشاركة في أي ترتيبات محتملة لمستقبل قطاع غزة بعد الحرب. ومن المؤكد أن تصعيدًا تركيًا أكبر في الموقف من إسرائيل سيزيد من العوائق التي تعترض تحقيق هذه الرغبة. كما أن أنقرة تأخذ في الحسبان عوامل أخرى مثل الآثار المستقبلية للأزمة مع إسرائيل على موقفها في المنافسة الجيوسياسية في شرق البحر المتوسط، وعلى مستقبل علاقاتها الجديدة مع الولايات المتحدة كذلك.

في ضوء ذلك، تظهر الحسابات الدقيقة والمُعقدة للتكاليف والفوائد المحتملة من إستراتيجية التصعيد التدريجي، كأحد العناصر الرئيسية التي تُشكل تحركات أردوغان ضد إسرائيل. واقع أن الموازنة، التي سعت تركيا لتحقيقها منذ بداية الحرب بين إظهار الدعم القوي للفلسطينيين، وبين تجنب انهيار جديد في العلاقات مع إسرائيل، لم تجعلها طرفًا مؤثرًا في مجال الوساطة وجلبت تكاليف غير مُتوقعة على أردوغان في الداخل؛ لأنها كانت سببًا من أسباب خسارة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في الانتخابات المحلية الأخيرة، حيث كشف ذلك نقاط ضعف السياسة التركية في الصراع.

لقد نجحت أحزاب المعارضة التركية عمومًا وحزب "الرفاه الجديد" المحافظ على وجه الخصوص، في استثمار نقمة بعض المحافظين على سياسة أردوغان في الحرب؛ لتحقيق مكاسب سياسية داخلية في الانتخابات. وكان هذا الاستثمار مؤلمًا على وجه خاص لأردوغان؛ لأنّ تعاطفه القوي مع القضية الفلسطينية منذ أن تولى السلطة والسياسات القوية التي اتخذها ضد إسرائيل منذ أزمة أسطول الحرية في عام 2010، والتي جلبت تكاليف باهظة على أنقرة، لم تصمد في النهاية أمام حفلة المزايدات الداخلية، ولم تُقنع شريحة من الناخبين المحافظين بالاعتبارات المُعقدة التي شكلت السياسة التركية في الحرب الراهنة.

في الأزمات التي عصفت بالعلاقات التركية الإسرائيلية خلال العقد الماضي، كان أردوغان يولي أهمية قصوى لتعاطفه مع القضية الفلسطينية على أي شيء آخر. لكن الدروس المُستفادة من تلك التجربة كانت حاضرة بقوة في تشكيل السياسة التركية الحالية في الحرب، ومنها أن تركيا تفقد قدرتها على التأثير الإيجابي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كلما تراجعت علاقتها مع إسرائيل. قد لا تكون هذه الاعتبارات ذات أهمية بالنسبة للناخبين، الذين يُريدون إظهار الدعم للقضية الفلسطينية بأي ثمن، لكنّ حسابات السياسة تختلف تمامًا.

حتى مع أخذ ما يبدو أنه تلويح من أردوغان بقطع أو تخفيض العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل على محمل الجد، فإنه يبدو إلى جانب الخطوات الاقتصادية والقضائية مصممًا بدرجة أساسية لممارسة مزيد من الضغط على إسرائيل؛ للتعجيل بإنهاء الحرب، ولدفعها إلى التفكير في التكاليف الباهظة المترتبة على مواصلتها الحرب، وعلى رفضها أن يكون لتركيا دور فعال في مجال الوساطة، وفي مجال الجهود الإغاثية الإنسانية في غزة.

إن فرص تركيا للتأثير على مسار الحرب، تتمثل في انخراطها بشكل أكبر في الجهود الإقليمية؛ لإنهاء الصراع من بوابة تقديم إسهاماتها في مجال الوساطة، وتركيز الجهد الإقليمي على الحاجة لإطلاق عملية سلام بعد الحرب تؤدي إلى تحقيق حلّ الدولتين. ويُمكن لسياسة تُوازن بدقة بين الضغط التدريجي على إسرائيل، والحفاظ على هامش للمناورات السياسية أن تجعل دور تركيا في الصراع أكثر تأثيرًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات القضیة الفلسطینیة السیاسة الترکیة الدبلوماسیة مع العقد الماضی مع إسرائیل ضد إسرائیل فی الصراع فی الحرب

إقرأ أيضاً:

لشكر: خطاب القضية الفلسطينية يجب أن يكون عقلانيا وكفى من مخاطبة النخاع الشوكي بالحماس وباللاءات التي تسقط!

غير بعيد عن البقعة المشتعلة في الشرق الأوسط، وتحديدا عن جبهات القتال والحرب الضارية التي تضور رحاها جراء الاعتداءات الاسرائيلية ضد شعب غزة ولبنان، والتي لم تنته بعد، بالرغم من الاغتيال العسكري الذي أنهى حياة كلا  من إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية حماس، وحسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله في لبنان ( المقاومة الشيعية)، اختار إدريس لشكر،  الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أن يتحدث عن القضية الفلسطينية وحق شعبها في الخلاص من الاحتلال باسهاب، ليعلن من قلب قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، أن من يملك قضية عادلة، بات اليوم عاجز عن التسويق لها واقناع الآخرين بعدالة قضيته!!. قائلا : » كفى من مخاطبة النغاع الشوكي! » ولابد من خطاب العقلانية حول قضية فلسطين.

هنا يرى لشكر في كلمة له ألقاها في الجلسة الافتتاحية للمنتدى الديمقراطي الاجتماعي في العالم العربي بالقاهرة، أن على العاجز، أن يطرح السؤال على نفسه؟!.

قبل أن يستدرك الكاتب الأول لحزب بن بركة بوعبيد، بنبرة غضب.. » اعتقد كفى أن نخاطب النغاع الشوكي، ونتحدث بلغة الشعارات والحماس واللاءات.. وقد رأينا كيف سقطت كلها في العالم العربي! ».

بالنسبة للقيادي الاتحادي، « اليوم لابد من مخاطبة العقول، التي لاينبغي أن تخاطب فقط بلغة متطرفة » حول القضية الفلسطينية.

وفقا لتشخيص لشكر حول ما عليه الحالة العربية والإسلامية تجاه قضية فلسطين، بات « مطلوب منا أن نتحدث اليوم بواقعية، وهي واقعية  » تتطلب أن نؤكد أننا ضحية ولسنا منتصرين، ولا 7 أكتوبر في إشارة منه إلى عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية حماس، جاءت لنا بنتائج لايعلمها إلا الله ».

في الظرف الحالي يؤكد لشكر، بات « يجب أن نقر ونعترف، بأننا يجب أن  » نظل نطالب بأشياء يقبلها العقل » ونحن ندافع عن القضية الفلسطينية في المنظمات الدولية.

يشدد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية،   » حان الوقت أن نتوجه بخطاب عقلاني، نحن ذوي المرجعية الاشتراكية الديمقراطية، التي تتوخى العدالة والحرية وحقوق الانسان، حول القضية الفلسطينية « .

بالنسبة لزعيم الاتحاد الاشتراكي، ينبغي أن يكون على رأس أولويات الإنسانية اليوم من الشعوب المقهورة المظلومة،  وهو الشعب الفلسطيني الذي يجب أن تحل مشكلته، لذلك نطالب فقط يضيف لشكر أن توضع القضية الفلسطينية على  رأس أولويات جدول أعمال شعوب العالم، مستدلا بقوله: كيف يقبل أن تكون  : » قضية الشابة الإيرانية، في إشارة منه إلى « جينا مهسا أميني » التي تنتمي للأقلية الكردية وتوفيت أثناء احتجازها لدى شرطة الأخلاق في إيران،  ليكشف « عندما كنا نتوجه إلى المنتديات الدولية للحريات وحقوق الإنسان، كانت قضيتها تسجل في جدول الأعمال قبل قضية الشعب الفلسطينية على الرغم مما نراه من حجم الضحايا الذي قدم الشعب الفلسطيني.. ».

لذلك حان الوقت وفقا لما يراه لشكر من ضرورة إعمال مراجعات للخطاب حول قضية فلسطين، ينبغي  أن يتم جعل القضية.. قضية رأي عام دولي، بناء على خطاب مقنع سياسيا وليس فقط خطابا يدغدغ المشاعر ورفع لاآت تسقط بعد حين!!. وفق لتعبير الكاتب الأول للاتحاد.

 

كلمات دلالية ادريس لشكر القضية الفلسطينية خطاب عقلاني مراجعات

مقالات مشابهة

  • تراجع حزب الله يجعل تركيا في مواجهة إيران
  • أردوغان: إسرائيل ستوجه أنظارها إلى تركيا بعد فلسطين ولبنان.. إذا لم تُردع
  • القضية الفلسطينية.. بين هوية النضال ومخاطر الانسحاب
  • اللبنانيون يتوجهون إلى تركيا هربا من الحرب
  • أردوغان: تركيا أرسلت 30 طنا من المساعدات الإنسانية إلى بيروت
  • الصحة الفلسطينية: الحرب تفاقم معاناة مرضى السرطان في غزة
  • أردوغان يطالب الجمعية العامة للأمم المتحدة باستخدام القوة ضج إسرائيل
  • هل رفضت روسيا انضمام تركيا إلى مجموعة البريكس؟
  • لشكر: خطاب القضية الفلسطينية يجب أن يكون عقلانيا وكفى من مخاطبة النخاع الشوكي بالحماس وباللاءات التي تسقط!
  • الخارجية الكندية: متضامنون مع شعب لبنان المتضرر من هذا الصراع وملتزمون بتزويدهم بالمساعدة الإنسانية التي يحتاجون إليها