كراهية وخطاب
أمير بابكر عبد الله
لم يكن خطاب الكراهية غائباَ عن فضاء السودان، مثلما ظل منتشراَ في كثير من بقاع العالم، وإن بدا متفاوتاَ في درجة انتشاره وتأثيره حسب السياقات التي تنتجه والبيئة التي تحتضنه. فقد شهد السودان تصاعد هذا الخطاب في منعطفات تاريخية وكانت من أبرز تداعياته إنقسام السودان إلى دولتين، ولعل الحرب الدائرة الآن تمثل أعلى تجلياته.
بتفكيك مفهوم “خطاب الكراهية” نجده مركب من مفردتين لا بد وأن تجتمعا معاً لتشكلا وحدة يمكن التعامل والتعاطي مع إفرازاتها وتداعياتها. فالكراهية هي مشاعر معبرة عن حالتين متناقضتين في السياق الذي نتناولها فيه، هما الإحساس بالاستعلاء أو الإحساس بالدونية؛ وهو إحساس مرتبط بإمتلاك خصائص وامتيازات فعلية أو متوهمة يُخشى عليها من الفقدان أو التلاشي والذوبان، أو على النقيض من ذلك فيكون ناتجاً عن فقدان تلك الخصائص والامتيازات التي يراها، حامله، حقاً أصيلاً، أو متوهماً، من حقوقه حُرم منها قسراً.
وهي مشاعر تنتشر وتتعاظم في ظل المجتمعات والدول التي تَغيب أو تُغيَّب فيها العدالة والقانون ومؤسساته، ويحكم نظامها الاجتماعي القهر والتسلط، وتتجلَّى في مظاهر الازدراء والعداوة والبغضاء تجاه الآخر. وتكون مثل هذه المشاعر أكثر وضوحاً في الدول والمجتمعات ذات الطبيعة التعددية التي تنفشل أتظمتها، بطبيعة توجهاتها، في إدارة الاختلاف والتنوع بين مكوناتها.
المفردة الثانية، وهي الخطاب، فهي كيفية التعبير عن تلك المشاعر من إزدراء وعداوة وبغضاء. ويمكن ان يتخذ التعبير أشكالاَ مختلفة ابتداء من اللفظ إلى الكتابة واستخدام كل الفنون التعبيرية لتوصيل الرسالة المعنية، ويبلغ التعبير أعلى درجاته باستخدام العنف إلى مرحلة الحرب الفعلية.
تحديات كثيرة تواجه حملات مواجهة تفشي خطاب الكراهية في حالة السودان الراهنة، وهي حالة زرع بذرتها تراكم ذلك الخطاب على مدى سنوات وليس وليد لحظة الحرب. وتبرز الصعوبات في غياب المنظومات التي لها القدرة على السيطرة خاصة مع سيولة الدولة واجهزتها.
يواجه العمل على محاصرة ذلك الخطاب الانتشار الواسع للمنصات التي يتم استخدامها في بثه، إلى جانب استمرار الحرب التي تتغذى من مثل هذا الخطاب لدى طرفيها، وبالتالي يُفرد له ما يكفي من المساحات لكيما ينتشر. لذلك يتطلب العمل على مسارات متعددة على جبهة إيقاف الحرب لاستعادة ضبط مصنع الخطابات المواجهة للكراهية. ففي ظل استمرار الحرب وسيولة الدولة وأجهزتها، يكون الحديث عن فعالية تلك الخطابات وقدرتها على التأثير محدوداً.
ولعل أبرز المعوقات هو عدم القدرة على بث تلك الخطابات وسط القطاعات المتضررة المستهدفة إلا في نطاق ضيق بسبب مشكلات حقيقية تواجهها شبكات الاتصال والتواصل. فإذا كانت شبكة الانترنت ومنصات التواصل الاجتماعي هي الأكثر فعالية في نشر خطاب الكراهية، فذلك يأتي في سياق الحشد والحشد المضاد وارتفاع صوت الرصاص المرافق له، في مقابل غياب أو ضعف الفعاليات والحشد المناويء للحرب والداعي للسلام وذلك لأسباب موضوعية يتمثل بعضها في حالة النزوح وعدم الاستقرار التي خلقتها الحرب، إلى جانب فرض الحرب نفسها لشروطها على الأرض والتي يحتاج تجاوزها لوقت إلى جانب فعل مستمر يتخطى واقع الصدمة التي سببتها.
يأتي في مقام متوازٍ غياب أجهزة الدولة، وخاصة العدلية والنظامية. التشريعات القانونية أصلا ضعيفة في مواجهة خطاب الكراهية، ويأتي غياب الأجهزة العدلية في ظل الحرب ليضاعف من تأثير ذلك الخطاب. ويمكن اتخاذ لحديث مدير جهاز الأمن السابق بولاية كسلا عن قبيلتي البني عامر والحباب في “الإذاعة القومية” كنموذج لذلك الغياب، وأمثلة كثيرة كانت سبباً في انزلاق البلاد إلى هاوية الحرب.
ومن الأسباب الموضوعية، أيضاً، عدم القدرة على التحكم في مستخدمي تلك المنصات لبث خطاب الكراهية. فكثير منهم يقيم في دول غير السودان تختلف قوانينها في نظرتها لمثل هذا الخطاب وبالتالي يصعب إخضاعه لقوانين البلد إن وجدت، إلى جانب إستخدام كثير من الحسابات المزيفة في حملات خطاب الكراهية أو ما يعرف بالذباب الإلكتروني لصالح طرف من الأطراف.
لا يعني ذلك الوقوف مكتوفي الأيدي في مواجهة هذا الخطاب المدمر، بل وضع خطط استراتيجية قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى لمواجهته ومحاصرته. ياتي في المقام الأول مواصلة وزيادة الجهود من أجل وقف أصوات الرصاص والحرب، ودعم كل الجهود المحلية والإقليمية والدولية التي تقود إلى ذلك، مع الاستمرار في مواجهة خطاب الكراهية بكافة الوسائل المتاحة.
ما بعد إيقاف الحرب سيتضاعف الجهد أكثر بدءً من إعلاء قيمة الإختلاف والتعدد الذي تتميز به بلادنا، فنحن “لسنا واحد” وهي نعمة حولتها خطابات الكراهية إلى نقمة. كما أن تأثيرات خطاب الكراهية في مرحلة ما بعد الحرب ستستمر تداعياتاتها لفترات يجب العمل على قِصَرِها بالعمل المكثف والمستمر والضغط من أجل وضع التشريعات والقوانين التي تحاربه، وهذا يتطلب إصلاحات واسعة في القوانين والتشريعات إضافة إلى إصلاحات واسعة في أجهزة إنفاذ القانون.
كل ذلك لن يكون فاعلاً إذا لم تسفر الجهود التي تقود إلى إيقاف الحرب للاتفاق على حكم ديمقراطي مدني كامل الدسم محمي بجيش واحد وخروجه من المشهد السياسي إلى رحاب الدولة، ودستور قائم على التعدد والتنوع لديه من الآلايات القادرة على إدارة الاختلافات والحد من الخلافات.
#كلنا-واحد
الوسومالجيش السوداني الدعم السريع حرب السودان حملة كلنا واحد خطاب الكراهية
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجيش السوداني الدعم السريع حرب السودان خطاب الكراهية
إقرأ أيضاً:
عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (2)
1 في الحلقة الأولى من هذا المقال، أوضحنا لماذا لجأت الإمارات إلى خطة التطويق، وقلنا إن السبب هو فشل خطط الاستيلاء على الدولة السودانية عشية 15 أبريل 2023. وبعدها بدأ التخبط والانتقال من خطة فاشلة إلى أخرى أكثر فشلًا، إلى أن وصلنا إلى خطة التطويق الشامل. ما هي تلك الخطة؟ وماذا فعلت الإمارات مع دول الطوق؟ وكيف جرى استقطابها؟
2
تقضي خطة التطويق بأن يُحاط السودان بدول معادية تسهل تجنيد المرتزقة فيها أو تيسر تنقلهم عبرها، كما حدث في ليبيا حيث عبر الكولومبيون إلى السودان من ليبيا حفتر. وتتمثل مهمة الدول المستخدمة في تطويق السودان في أن تكون ممرًا لعبور الأسلحة إلى المليشيا في الداخل، وتوفير الإمدادات للقوات بكل ما تحتاجه. كما تعد هذه الدول ميدانًا خلفيًا لإخلاء الجرحى، وقد شهد بعضها إقامة مستشفيات (أم جرس/ أويل)، إضافة إلى إنشاء معسكرات للتدريب وقواعد لإطلاق المسيرات. فالمسيرات بعيدة المدى تُطلق الآن من داخل تشاد، وتحديدًا من أم جرس.!
كل ذلك يتم لدعم المجهود الحربي للمليشيا. ولإحكام الحصار على السودان، سارعت الإمارات إلى تمتين علاقاتها القائمة أصلًا مع دول الجوار (ليبيا حفتر، وإثيوبيا آبي أحمد)، ثم الإسراع في تأسيس علاقات جديدة مع الدول الحدودية أو القريبة من السودان مثل تشاد، وجنوب السودان، افريقيا الوسطى وكينيا، وأوغندا. لنرَى ماذا فعلت وتفعل الإمارات مع دول الطوق هذه.
3
إثيوبيا:
بدأت العلاقات الإماراتية الإثيوبية قبل سنوات كعلاقات تجارية، وتُعتبر إثيوبيا من أبرز الدول التي تستثمر فيها الإمارات، حيث بلغ إجمالي الاستثمارات الإماراتية فيها 2.9 مليار دولار حتى نهاية عام 2022. وتم تأسيس 113 مشروعًا استثماريًا إماراتيًا في إثيوبيا في مجالات مختلفة.
كما شهدت مرحلة حكم آبي أحمد محاولة من أبو ظبي لتحويل البلاد إلى منصة سياسية لنفوذها في القرن الإفريقي، فبعد رعاية اتفاق السلام بين أديس أبابا وأسمرة، وعدت الامارات بتخصيص 3 مليارات دولار للاستثمار والمساعدات، منها مليار دولار وُضع في بنك إثيوبيا الوطني، إلى جانب العديد من المشروعات الاستراتيجية، كإنشاء خط أنابيب نفط يربط ميناء عصب الإريتري بإثيوبيا.
4
شهد التحالف الإثيوبي – الإماراتي تطورًا استراتيجيًا بعد اندلاع الحرب بين الحكومة الإثيوبية مع جبهة التقراي، حيث كان تدخل الإمارات فيها حاسمًا، إذ حُسمت الحرب لصالح الحكومة الإثيوبية بفضل مسيرات “بيرقدار” التركية التي تكفلت بها الإمارات لدعم الجيش الإثيوبي. اضافة إلى مسيرات صينية. فقد أكد خبر منشور على موقع Military Africa، استنادًا إلى صور أقمار صناعية ملتقطة في أغسطس/آب 2018، وجود طائرة مسيرة صينية من طراز Wing Loong 2 في القاعدة، مضيفًا أن أبو ظبي اشترت عددًا غير معلوم من هذا الطراز من الشركة الصينية المصنعة عام 2022.
5
تحاول الإمارات الآن تزويد المليشيا بطائرات مسيرة طويلة المدى من طراز “بيرقدار” عبر شرائها من تركيا وتسليمها للمليشيا، حيث يتم تشغيلها من تشاد، بالإضافة إلى المسيرات الصينية Wing Loong 2 الموجودة بحوزة الإمارات. وقد استُخدمت هذه الطائرات في قصف معسكر “سركاب” بأم درمان قبل ثلاثة أشهر. أي أنه يتم استخدام نفس الأسلحة التي ساهمت في هزيمة التقراي، لعلها وعسى أن تنقذ المليشيا، رغم أنها تدرك أن انتصار المليشيا على الجيش السوداني مستحيل ولو حشدت كل أسلحة الأرض. لو كان السلاح يقاتل ويحقق الانتصارات لانتصرت إسرائيل التي توفرت لها مخازن أسلحة أمريكية وغربية مفتوحة على غزة وهى 365 كيلو مترا فقط.!!
6
نتج عن تلك العلاقات التجارية والدعم العسكري توسع النفوذ الإماراتي في إثيوبيا. ونتيجة لذلك، منذ اندلاع الحرب في السودان، تبنّت إثيوبيا الموقف الإماراتي الداعم للمليشيا، وأعلنت عدم شرعية الحكومة، ودعت إلى وقف الحرب وإيقاف سلاح الطيران. كما فتحت أراضيها لكل المعارضين السياسيين للحكومة السودانية لدعم المليشيا، واستضافت مؤتمرات المليشيا وكل أعداء السودان على أراضيها.
إضافة إلى ذلك، بدأت إثيوبيا في الاستجابة لطلبات الإمارات بإنشاء قاعدة عسكرية على أراضيها مع بداية الحرب، لولا التحذير الشديد اللهجة من السودان، خاصة أن الخرطوم كانت قد غضت الطرف عن شحنات سلاح عبرت من إثيوبيا إلى جنوب السودان، حيث تم تسليمها للمليشيا في الأشهر الأولى للحرب.
7
هكذا، تم تجيير الموقف الإثيوبي لصالح المليشيا، وكانت إثيوبيا هي المدماك الأول في الطوق الأول حول السودان، الذي بدأ يعمل بفعالية لإنفاذ خطة التطويق الشامل، ثم استمر بناء الطوق كما سنرى.
نواصل…
عادل الباز
إنضم لقناة النيلين على واتساب