علّمونا أَنَّ ما فاتَ مات…
#سناء_جبر
تعود بي الذاكرةُ أدراجها إلى الوراء مسافاتٍ شاسعةً وأنا أحاول أن أضعَ يدي على الروزنامةِ؛ لأحدِّدَ متى كانت آخرَ مرة خَطَطَتُ فيها حبرًا على ورقٍ، علقتُ هناك بعيدًا جدًا وتذكّرت تلك المحاولة اليائسة عندما هممت أن أكتبَ فخانتني الكلماتُ وانكسرَ القلم معلنًا العزاء والفقدان، مذعنًا للصَّمتَ والانكفاء خلفَ عودٍ أعوجَ أبى إلا الاختباء، فدسَّ رأسَه في التُّراب كالنّعامة، نعم تشبهنا هذا إذا لم تكن هي التي تشبهنا؛ حيث ضربنا المثلَ بالانزياحِ جانبًا تجنبًا للمواجهةِ وإيثارًا للسلامة.
تعبنا، وأنهكتنا الهزائمُ والانتكاساتُ أمام عظمةِ ما نرى من شعوبٍ حيَّةٍ تضحّي وتبذل وتنذر أحباءها وفلذات أكبادها فدًى للكرامةِ، أما نحنُ فلا حيلةَ لنا سوى الدّهشة والاستغراب والتّعجُّب من قوّتهم وصمودهم وطاقتهم على التّحمُّل وإيمانهم اللامتناهي وفلسفتهم، وبالمقابلِ نلوذ بصمتٍ موجِعٍ بائس يائس من احتمالٍ ولو ضئيل بأن نستيقظ من غفلةٍ طمست مبادئنا فغرقت في الوحلِ والطين، تلك الصّحوة المشتهاةُ باتت حلمًا وأمنية لا نعرف لها طريقًا. حياتنا على الصّامت، نبكي بصمت، ونعتذر بصمت، ونفرحُ بصمت، ونخذل بصمت وقهر وذلٍّ معًا، وأكبرُ همومنا أن نركضَ ساعينَ وراء لقمة العيشِ المستكين، وقد نظفرُ بها وقد لا نفعل.
تملَّكتني الجرأة بعد محاولاتٍ كثيرةٍ لأسجِّل نزرًا يسيرًا مما يخطر في البال، لعلّني أنفض عن صدري بعضًا من غيومٍ وهمومٍ عجَّ بها وفاض، لست أتحدث عن (هم) الغائبين وأستمرُّ في النقدِ والتَّنظير فأنا منهم إن لم أتصدَّر القائمةَ وأكن على رأس القافلة، لكن أن تعترف بخطئك فهو فضيلة وأن تقومَ بتصويبِ خطئك فهو أمرٌ يتجاوز الفضيلة تلك بدرجات.
(ما فات مات) هكذا تعلَّمنا في الكتب، وأنَّ عليك أن تنظر قدمًا إلى الأمام، وتتبرأ من كلِّ ماضٍ أحدث وجعًا أو رسم نقاطًا سوداءَ في سجلِّك أو عشتَ من خلالِه مشاعرَ سلبيةً شكّلت أذًى نفسيًا أو أصابتكَ بمقتلٍ. علّمونا أنَّك يجب أن تكون قويًّا بدرجة كافية لتنهض من كبوتِك وتعرجَ على طريق التفاؤل بمستقبلٍ أفضلَ، صحيح أنك ستتألم لكن لا عليك، فالدّرب طويل لكنه يبدأ بخطوة، كلُّها شعارات برّاقة خدّاعة تعمي البصائر فنميل عن الطريقِ ولا نهتدي السبيل.
قل لي بالله عليك: كيف سيموت الأثرُ الجارحُ لصديقٍ طعنكَ في الظهرِ فنزَّ قهرًا وعذابًا؟ كيف ستموتُ ذكرى استغفالٍ وقعتَ فيها لا لشيءٍ إلَّا لأنك صادق؟ فالصادق في شرعة اليوم خاسرٌ لا محالة والكذب وسيلة النجاح المزيف والتسلق والنفاق والوصول على أكتاف المستحقين…
قل لي: كيف ستخبو ذكريات هزائمَ عشتها وحدك مع وحدك لأن هناك من تخلى عنك وبقيت فردًا في مواجهة الضواري والذئاب، بعدما شرّعت له صدركَ وقبلته وآويته ووثقت به أخًا لأخٍ؟
أفكر مليًّا: كيف ستلتئم جروح أهلنا في غزة الحبيبة وقد غاب عنهم أحباؤهم في غمضة عينٍ، كيف ستبرأ الجروح وتندمل بعد قصفٍ وانتهاكاتٍ وتعذيبٍ وإذلالٍ ممُضٍّ على مرأًى من العالمِ ومَسمعٍ دون حراكٍ، كيف سيستأنف ذلك النّاجي الوحيد في عائلته مبتور القدمين واليدين يومه الذي يصحو فيه على صوت القصف والعنف والقتل والبكاء والأنين، كيف سيواجه مرَّ الحياةِ وقسوة الظلم، كيف له أن ينسى أو أن يتناسى؟ وتلك الأم التي ركضت خارجَ البيت تبحث لابنها لصغير عن طعامٍ تسدّث به لسعة جوعه، وأغلقت الباب خلفه خوفًا عليه، فلما قفلت عائدة لم تجد الباب ولا الدّوار، انتهى كل شيء وبات في عالم الماضي، حيث كان هناك بيت وابن ووطن… لم تحملها قدماها من هول ما رأت، ولم تجد للصدق طريقًا والامل يحدوها برؤيته بين المصابين في المستشفى لا بين جثامين الشهداء، لكن أبت إرادة الحياة إلا أن تتحقق ويخبر صبرها في ولدها فقد ارتقى شهيدًا بنور وضّاء يشعُّ في محيّاه…
كيف ستنطفئ تلك النِّيرانُ المتأجّجة في القلوب والصدور والعقول؟ جيلٌ كاملٌ سيشق طريقه إلى المستقبلِ يتيمًا خاليَ الوفاض إلا من أسًى وألمٍ وجوعٍ وقهرٍ ووجعٍ وصرخاتٍ تقضُّ المضاجع في الليل غن كان هناك نوم أصلًا، وأولئك الأطباء والمسعفون والمتطوّعون والصّحفيّون الذي غادروا بلادهم وعائلاتهم وعادوا ليدافعوا عن تراب مقدس وكرامة انتقصت، ارتقوا فكانوا صقورًا يربطون الأرض والوطن المقدس بالسماء، ماذا سنقول لأبنائهم؟ كيف سنواجههم؟ كيف سنرفع عيوننا في عيونهم؟
أبناؤنا في غزة، ومنذ السابع من أكتوبر يدفعون ضريبة العزة والكرامة والأنفة غاليًا غاليًا، نجدهم حتى اللّحظة ما يئسوا بل تزيدهم التضحيات عنفوانًا وإصرارًا على قهر الاحتلالِ وردِّه خائبًا. من كان يظن أن شعب غزة سيصمد طوال تلك الفترة؟ من كان يتوقع أن تلك الحرب ستدوم في حدها الأقصى أكثر من شهر؟ لا أحد، لكن شعب غزة حيٌّ معتدٌّ بأرضه ووطنه وكرامته، ولن يذلَ… وبعد، كيف تتوقع منا أن ننسى حجم الضّرباتِ والقذائف والقنابل والصواريخ التي تلقّوها ونحنُ نيام، هل ننسى؟ وإن ننس فالتاريخُ لن يفعل، سيكتب بمدادٍ من نورٍ صمودَ شعبٍ أعزلَ قهر أسطورة الاحتلال وهزّ أركانهم ودعائمهم، لكننا كنا نيام، وندعو الله أن يمنَّ علينا بيقظة وصحوة وانتباهةٍ من غفلتنا المَعيبة.
وبعد، فما فات لم يمت ولن يموت، بل سيبقى مطبوعًا وأثره مخلَّدًا مدى الأدهارِ والحقبِ، وتلك الجروح التي تركت خلفها ندباتٍ تذكّرنا إن غفلنا أو سهَونا، تلك النّدباتُ عنوانُ الوجع والقهر والخيبة والانكسار والهزائم، وقد آن الأوان لتتحوّل إلى انتصاراتٍ مجبولة بالعزَّةِ والرِّفعة والكبرياءِ. مقالات ذات صلة طوفان الوعي العالمي 2024/05/03
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: ما فات
إقرأ أيضاً:
هل هناك علاقة وثيقة بين الصوم والزهد؟.. مفتي الجمهورية يجيب| فيديو
أكد الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن الصيام يمثل مدرسة عظيمة للزهد، حيث يعلم الإنسان كيف يترفع عن شهوات الدنيا ويزهد فيما لا ينفعه، مشيرًا إلى أن هناك علاقة وثيقة بين الصوم والزهد، فكلاهما عبادة قلبية تقوم على الامتناع عن المحظورات والتقرب إلى الله.
وخلال لقائه الرمضاني اليومي مع الإعلامي حمدي رزق في برنامج "اسأل المفتي" على قناة "صدى البلد"، أوضح المفتي أن الصيام إمساك عن أمور محددة، وكذلك الزهد الذي لا يقتصر على ترك المباحات، بل يشمل أيضًا الزهد في المحرمات، مشددًا على أن هذه العبادات القلبية تظهر آثارها في علاقة الإنسان بربه وبالناس من حوله، بل وبالكون كله.
واستشهد المفتي بقول الله- تعالى-: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، موضحًا أن التقوى تمثل حاجزًا يمنع الإنسان من الوقوع في المعاصي، كما أنها في الوقت نفسه دافعا للارتقاء الروحي والسعي لمرضاة الله، وهو ما يتحقق عبر التخلق بالزهد والابتعاد عن التعلق بالدنيا والانشغال بما في أيدي الناس.