سواليف:
2025-02-12@08:46:14 GMT

علّمونا أَنَّ ما فاتَ مات…

تاريخ النشر: 5th, May 2024 GMT

علّمونا أَنَّ ما فاتَ مات…

#سناء_جبر

تعود بي الذاكرةُ أدراجها إلى الوراء مسافاتٍ شاسعةً وأنا أحاول أن أضعَ يدي على الروزنامةِ؛ لأحدِّدَ متى كانت آخرَ مرة خَطَطَتُ فيها حبرًا على ورقٍ، علقتُ هناك بعيدًا جدًا وتذكّرت تلك المحاولة اليائسة عندما هممت أن أكتبَ فخانتني الكلماتُ وانكسرَ القلم معلنًا العزاء والفقدان، مذعنًا للصَّمتَ والانكفاء خلفَ عودٍ أعوجَ أبى إلا الاختباء، فدسَّ رأسَه في التُّراب كالنّعامة، نعم تشبهنا هذا إذا لم تكن هي التي تشبهنا؛ حيث ضربنا المثلَ بالانزياحِ جانبًا تجنبًا للمواجهةِ وإيثارًا للسلامة.


تعبنا، وأنهكتنا الهزائمُ والانتكاساتُ أمام عظمةِ ما نرى من شعوبٍ حيَّةٍ تضحّي وتبذل وتنذر أحباءها وفلذات أكبادها فدًى للكرامةِ، أما نحنُ فلا حيلةَ لنا سوى الدّهشة والاستغراب والتّعجُّب من قوّتهم وصمودهم وطاقتهم على التّحمُّل وإيمانهم اللامتناهي وفلسفتهم، وبالمقابلِ نلوذ بصمتٍ موجِعٍ بائس يائس من احتمالٍ ولو ضئيل بأن نستيقظ من غفلةٍ طمست مبادئنا فغرقت في الوحلِ والطين، تلك الصّحوة المشتهاةُ باتت حلمًا وأمنية لا نعرف لها طريقًا. حياتنا على الصّامت، نبكي بصمت، ونعتذر بصمت، ونفرحُ بصمت، ونخذل بصمت وقهر وذلٍّ معًا، وأكبرُ همومنا أن نركضَ ساعينَ وراء لقمة العيشِ المستكين، وقد نظفرُ بها وقد لا نفعل.
تملَّكتني الجرأة بعد محاولاتٍ كثيرةٍ لأسجِّل نزرًا يسيرًا مما يخطر في البال، لعلّني أنفض عن صدري بعضًا من غيومٍ وهمومٍ عجَّ بها وفاض، لست أتحدث عن (هم) الغائبين وأستمرُّ في النقدِ والتَّنظير فأنا منهم إن لم أتصدَّر القائمةَ وأكن على رأس القافلة، لكن أن تعترف بخطئك فهو فضيلة وأن تقومَ بتصويبِ خطئك فهو أمرٌ يتجاوز الفضيلة تلك بدرجات.
(ما فات مات) هكذا تعلَّمنا في الكتب، وأنَّ عليك أن تنظر قدمًا إلى الأمام، وتتبرأ من كلِّ ماضٍ أحدث وجعًا أو رسم نقاطًا سوداءَ في سجلِّك أو عشتَ من خلالِه مشاعرَ سلبيةً شكّلت أذًى نفسيًا أو أصابتكَ بمقتلٍ. علّمونا أنَّك يجب أن تكون قويًّا بدرجة كافية لتنهض من كبوتِك وتعرجَ على طريق التفاؤل بمستقبلٍ أفضلَ، صحيح أنك ستتألم لكن لا عليك، فالدّرب طويل لكنه يبدأ بخطوة، كلُّها شعارات برّاقة خدّاعة تعمي البصائر فنميل عن الطريقِ ولا نهتدي السبيل.
قل لي بالله عليك: كيف سيموت الأثرُ الجارحُ لصديقٍ طعنكَ في الظهرِ فنزَّ قهرًا وعذابًا؟ كيف ستموتُ ذكرى استغفالٍ وقعتَ فيها لا لشيءٍ إلَّا لأنك صادق؟ فالصادق في شرعة اليوم خاسرٌ لا محالة والكذب وسيلة النجاح المزيف والتسلق والنفاق والوصول على أكتاف المستحقين…
قل لي: كيف ستخبو ذكريات هزائمَ عشتها وحدك مع وحدك لأن هناك من تخلى عنك وبقيت فردًا في مواجهة الضواري والذئاب، بعدما شرّعت له صدركَ وقبلته وآويته ووثقت به أخًا لأخٍ؟
أفكر مليًّا: كيف ستلتئم جروح أهلنا في غزة الحبيبة وقد غاب عنهم أحباؤهم في غمضة عينٍ، كيف ستبرأ الجروح وتندمل بعد قصفٍ وانتهاكاتٍ وتعذيبٍ وإذلالٍ ممُضٍّ على مرأًى من العالمِ ومَسمعٍ دون حراكٍ، كيف سيستأنف ذلك النّاجي الوحيد في عائلته مبتور القدمين واليدين يومه الذي يصحو فيه على صوت القصف والعنف والقتل والبكاء والأنين، كيف سيواجه مرَّ الحياةِ وقسوة الظلم، كيف له أن ينسى أو أن يتناسى؟ وتلك الأم التي ركضت خارجَ البيت تبحث لابنها لصغير عن طعامٍ تسدّث به لسعة جوعه، وأغلقت الباب خلفه خوفًا عليه، فلما قفلت عائدة لم تجد الباب ولا الدّوار، انتهى كل شيء وبات في عالم الماضي، حيث كان هناك بيت وابن ووطن… لم تحملها قدماها من هول ما رأت، ولم تجد للصدق طريقًا والامل يحدوها برؤيته بين المصابين في المستشفى لا بين جثامين الشهداء، لكن أبت إرادة الحياة إلا أن تتحقق ويخبر صبرها في ولدها فقد ارتقى شهيدًا بنور وضّاء يشعُّ في محيّاه…
كيف ستنطفئ تلك النِّيرانُ المتأجّجة في القلوب والصدور والعقول؟ جيلٌ كاملٌ سيشق طريقه إلى المستقبلِ يتيمًا خاليَ الوفاض إلا من أسًى وألمٍ وجوعٍ وقهرٍ ووجعٍ وصرخاتٍ تقضُّ المضاجع في الليل غن كان هناك نوم أصلًا، وأولئك الأطباء والمسعفون والمتطوّعون والصّحفيّون الذي غادروا بلادهم وعائلاتهم وعادوا ليدافعوا عن تراب مقدس وكرامة انتقصت، ارتقوا فكانوا صقورًا يربطون الأرض والوطن المقدس بالسماء، ماذا سنقول لأبنائهم؟ كيف سنواجههم؟ كيف سنرفع عيوننا في عيونهم؟
أبناؤنا في غزة، ومنذ السابع من أكتوبر يدفعون ضريبة العزة والكرامة والأنفة غاليًا غاليًا، نجدهم حتى اللّحظة ما يئسوا بل تزيدهم التضحيات عنفوانًا وإصرارًا على قهر الاحتلالِ وردِّه خائبًا. من كان يظن أن شعب غزة سيصمد طوال تلك الفترة؟ من كان يتوقع أن تلك الحرب ستدوم في حدها الأقصى أكثر من شهر؟ لا أحد، لكن شعب غزة حيٌّ معتدٌّ بأرضه ووطنه وكرامته، ولن يذلَ… وبعد، كيف تتوقع منا أن ننسى حجم الضّرباتِ والقذائف والقنابل والصواريخ التي تلقّوها ونحنُ نيام، هل ننسى؟ وإن ننس فالتاريخُ لن يفعل، سيكتب بمدادٍ من نورٍ صمودَ شعبٍ أعزلَ قهر أسطورة الاحتلال وهزّ أركانهم ودعائمهم، لكننا كنا نيام، وندعو الله أن يمنَّ علينا بيقظة وصحوة وانتباهةٍ من غفلتنا المَعيبة.
وبعد، فما فات لم يمت ولن يموت، بل سيبقى مطبوعًا وأثره مخلَّدًا مدى الأدهارِ والحقبِ، وتلك الجروح التي تركت خلفها ندباتٍ تذكّرنا إن غفلنا أو سهَونا، تلك النّدباتُ عنوانُ الوجع والقهر والخيبة والانكسار والهزائم، وقد آن الأوان لتتحوّل إلى انتصاراتٍ مجبولة بالعزَّةِ والرِّفعة والكبرياءِ.

مقالات ذات صلة طوفان الوعي العالمي 2024/05/03

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: ما فات

إقرأ أيضاً:

الخارجية الأردنية: هناك خطة عربية مصرية فلسطينية لإعادة بناء غزة

أكد وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، اليوم الثلاثاء، أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني شدد بشكل حاسم على رفض الأردن القاطع لأي محاولات لتهجير الفلسطينيين إلى أراضي المملكة. 

وأوضح الوزير، أن الملك عبد الله الثاني أكد أهمية حماية الحقوق الفلسطينية في وطنهم دون المساس بمصير الشعب الفلسطيني.

وأضاف الوزير أن العاهل الأردني طرح أفكارا عملية لإعادة إعمار قطاع غزة، مشيراً إلى أن هذه الأفكار تتضمن إعادة البناء دون تهجير أهل غزة، وأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كان إيجابياً تجاه هذه الأفكار.

كما أكد وزير الخارجية الأردني أن هناك خطة عربية مصرية فلسطينية مشتركة تهدف إلى إعادة بناء غزة دون تهجير سكانها، مشيراً إلى أن الأردن قدم موقفه بشكل واضح إلى ترامب.

وأشار إلى ضرورة العمل من أجل السلام العادل والشامل، مع التأكيد على أن فلسطين هي للفلسطينيين والأردن للأردنيين.

ونوه الوزير بأن بلاده تؤمن بإمكانية إعمار غزة دون تهجير أهلها، وأن هذا الأمر يشكل محوراً رئيسياً في رؤية الأردن، في إطار الجهود العربية المتواصلة، لإيجاد حل شامل للقضية الفلسطينية.

 وأكد أن السلام الشامل لن يتحقق إلا بتطبيق حل الدولتين، وأن أولويات المملكة تظل دائماً حماية الأردن والأردنيين.

مقالات مشابهة

  • هل هناك مفاوضات سرية؟
  • الخارجية الأردنية: هناك خطة عربية مصرية فلسطينية لإعادة بناء غزة
  • أحمد موسى: لن يكون هناك أمان لإسرائيل إلا بوجود دولة فلسطينية
  • ترامب: سنتوصل إلى اتفاق مع مصر.. والملك عبدالله: هناك رد عربي على خطة غزة
  • ألمانيا: لا يجوز أن يكون هناك تهجير من غزة
  • أمير هشام: هناك خطوات جادة لإنشاء محطة إذاعية للنادي الأهلي
  • عمرو موسى: هناك فرصة لإلغاء فكرة التهجير بالكامل
  • قاض سابق في المحكمة العليا البريطانية يرى أن ‏هناك إبادة جماعية في غزة
  • أحمد مبارك: هناك تنسيق بين تنظيم الإخوان والصهيونية ويحركهما الموساد
  • بعد الإدارة الجديدة.. هل هناك تواجد لحماس في سوريا؟