لجريدة عمان:
2025-03-04@18:21:38 GMT

محركات تعقيد المشكلات الاجتماعية

تاريخ النشر: 4th, May 2024 GMT

في أي مجتمع إنساني هناك درجة تعقيد لكل مشكلة اجتماعية يواجهها، تحتكم هذه الدرجة إلى مساحة تأثير تلك المشكلة، والاعتراف الاجتماعي بإقرار وجودها، ودرجة استشعار المؤسسات الاجتماعية لضرورة التحرك للعمل عليها، وتوفر البيانات اللازمة التي تسمح بمراقبة المشكلة وتطوراتها، وتفعيل الحوار الاجتماعي حول المشكلة.

هذه العوامل تحدد مستوى تعقيد أية مشكلة اجتماعية؛ فعلى سبيل المثال إن عدم وجود اعتراف اجتماعي بمشكلة اجتماعية معينة يؤدي إلى إهمال أفراد المجتمع والمؤسسات الاجتماعية تلك المشكلة؛ فتتراكم عوامل الخطر، وتتسع رقعة التأثير، وتتشعب المشكلات الصغرى الناشئة عن المشكلة الاجتماعية الأكبر، وتخرج خارج إطار التسيير الاجتماعي المرغوب.

في سياق مجتمعاتنا الخليجية عمومًا بما فيها المجتمع العُماني نرى أن هناك ثلاث قضايا أساسية يجب التنبه إليها في هذه اللحظة من سيرورة هذه المجتمعات؛ وهي: قيم الحوار، قيم العمل، الفجوة بين الأجيال. تحمل كل قضية من هذه القضايا الثلاث احتمالية واسعة لنشوء مجموعة من المشكلات الاجتماعية، أو تعقيدها وتضاعفها، ومتى ما كان هناك تعامل اجتماعي مباشرة مع تلك القضية واهتمام اجتماعي موسع بها؛ كلما كان احتمال نشوء وتعقيد المشكلات الاجتماعية الناتجة منها محدودًا ومسيطرًا عليه في السياق الاجتماعي. قيم الحوار على سبيل المثال، والتي تتمثل في الانفتاح على الآخر، والقدرة على تفهم وجهات النظر، ومحاولة استيعاب المعطيات الغائبة عن المنظور، والتسامح مع وجهة النظر الأخرى، والصدق والشفافية والوضوح. كلها تمثل ركنًا مهمًا إما في حلحلة الكثير من المشكلات الاجتماعية أو تعميق وتعقيد المشكلات الاجتماعية، سواء تلك المشكلات الجزئية التي تنشأ بين الأفراد أنفسهم، وداخل الأسر، أو المشكلات التي قد تنشأ على مستوى الجماعات الاجتماعية وعلى مستوى تعامل المؤسسات الاجتماعية مع المجتمع. وتشكل قيم العمل محركًا مهمًا ليس فقط لإنتاجية الفرد ومساهمته الاقتصادية، بل لحفظ الدور المركزي للفرد ككائن اجتماعي، سواء تلك القيم المرتبطة بالالتزام والقدرة على المساءلة وتحمل المسؤولية، إلى قيم تحقيق التوازن بين المهنة والأسرة والحياة العامة، إلى قيم النزاهة، هذه أمثلة لتلك القيم التي نقصدها، نجد اليوم الكثير من المشكلات الاجتماعية المرتبطة تحديدًا بالجوانب الأسرية هي ناتجة عن غياب واحدة من أهم قيم العمل التي يجب أن تكتسب وتُعلم، وهي قيمة تحقيق التوازن بين المهنة (العمل) والأسرة (الحياة الشخصية). فمع غياب هذه القيمة قد تختل منظومات التربية العامة، وقد تنشأ المشكلات المرتبطة بالانحراف السلوكي للأبناء، أو ضعف التوافق والتفاهم في السياقات الأسرية بين الأزواج، أو تعريض الأبناء لمؤثرات التربية الخارجية واكتسابهم موجهات ثقافية ومعرفية وقيمية من خارج السياق المخطط للأسرة. وإن لم يتم تأسيس الأفراد على قيم النزاهة كمكون تربوي ومكون معرفي داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية فإن الضرر اللاحق يكمن في تعقيد المشكلات الاجتماعية الناجمة عن غياب هذه القيمة وأهمها استسهال الفساد، والتعامل مع المخالفات الواقعة كونها فعلًا اجتماعيًا معتادًا، وتغييب منظومة الحفاظ على الصالح العام، سواء كان هذا الصالح ماديًا أو معنويًا.

ومن أهم القضايا التي يجب التوجه إلى مراجعتها كونتها تسبب اليوم عديد المشكلات الاجتماعية هي قضية توسع الفجوة بين الأجيال، تنشأ نتيجة هذه الفجوة استشكالات في الفهم بين الأجيال، واختلال في منظومات التوقعات الجيلية، إضافة إلى صدام القيم، فتكون القيم الاجتماعية نسبية المفهوم؛ بمعنى أن ما يعتقد (س) من الأجيال أن قيما صالحة للعصر ويجب أن تكون موجهة للفعل الاجتماعي، ليس بالضرورة أن يرعى الجيل (ص) ذلك. وتتعقد المشكلات الناتجة جراء ذلك من مشكلات (استنكار ووصم الجيل)، إلى المشكلات الأخلاقية الناتجة عن غياب التوجيه، إضافة إلى المشكلات المرتبطة بالاحترام والتقدير، ويصبح لاحقًا من الصعب بمكان ضبط منظومة التوجيه الأخلاقي والقيمي في المجتمع.

إزاء ذلك نعتقد أن هذه القضايا الثلاث يجب أن تكون محور الرصد الاجتماعي؛ ذلك لأن لها – حسب تقديرنا – الارتباط الأعمق بظهور مختلف المشكلات الاجتماعية التي يتحدث عنها المجتمع – وإن كان على شكل جزر متفرقة – سواء مشكلات الطلاق وغياب التوافق الزواجي، أو الإساءة للأبناء، أو مشكلات التنمر، وتبني التوجهات الدينية والأخلاقية غير المتوافقة مع النسق الثقافي للمجتمع وسواها. هناك دور مهم لمنظومة الرصد الاجتماعي؛ من خلال تمكين ودعم البحوث الموجهة لهذه القضايا، وأتحدث هنا عن البحوث الاستراتيجية والوطنية القادرة على تمثيل المجتمع، وليست الدراسات والبحوث المجتزأة. فعلى سبيل المثال ليس لدينا اليوم الرصيد المعرفي والبحثي (الكافي) الذي يستطيع أن يخبرنا ما هي توقعات الأجيال تجاه بعضها البعض. وتشيع اليوم في الكثير من الأدبيات تقسيمه متعارف عليها للأجيال أوّلها ما يُعرف بـ«الجيل الصامت»، المولود بين 1928 و1944 ثم «جيل الطفرة السكانية» المولود بين 1945 و1965. يلي ذلك جيل «X» المولود بين عامي 1965 و1979. بعدها الجيل «Y» أو «جيل الألفية» المولود بين 1980 و1995. وأخيرا الجيل «Z» المولود منذ عام 1995، و هو الجيل الذي لا يعرف العالم من دون تكنولوجيا. (نقلًا عن عرب بوست) بمعنى كيف يرى كل جيل الأخر؟ وماذا يتوقع منه؟ وما هو الحاصل فعليًا في سياق الاشتباك الاجتماعي اليومي والمعاش بين تلك الأجيال؟. يختلف كل مجتمع عن الآخر في توقعات الأجيال وفي الفجوة بينها – وإن كانت هناك سمات مشتركة عالمية لكل جيل يحركها ما يتعرض له من تقانة وعلوم وثقافة عالمية – ولكن يعنينا تحديدًا كيف تتحرك هذه الأجيال في منظومة الثقافة الاجتماعية وكيف تتعامل مع بعضها وما هي النقاط الحرجة التي يجب التنبه إليها والتي قد يمكن أن تكون مولدة لمشكلات اجتماعية محددة. هذا نموذج من مساحات الرصد الاجتماعية التي لا تزال بكرًا في تقديرنا وهناك العديد من فرص البحث والرصد في القضايا الثلاث التي أشرنا إليها. وهو ما يستوجب نظرًا أن يوازن بين الشمول والجزئية إلى وقائع الحياة الاجتماعية، لفهم مصادر المشكلات الاجتماعية، ومصادر تعقيدها، وآليات السيطرة عليها.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

الاستعلاء والذكاء الاجتماعي بين أمريكا وأوكرانيا

في عصرنا الراهن تزايد الحديث عن الذكاءات المختلفة، فمن الذكاء العاطفي الذي عرفه الدكتور دانييل جولمان عالِم النفس والصحفي المختص بالعلوم السلوكية، «Emotional intelligence» والمعروف اختصاراً بـ (EI) في كتابه «الذكاء العاطفي»، معرّفاً إيّاه: «هو قدرة الشخص على إدارة مشاعره، إذ يكون التعبير عن تلك المشاعر بشكلٍ مناسب وفعال» إلى الذكاء الاجتماعي المشير إلى مدى قدرة الشخص على امتلاك الوعي الذاتي، والتعايش مع الآخرين وفهمهم والتفاعل معهم، بالإضافة إلى امتلاك الكفاءات والسلوكيات الاجتماعية القوية، التي تؤثر على الآخرين لتشعرهم بالتقدير والثقة والاحترام، غالبًا ما يتصف الأشخاص الذين يتمتعون بدرجة عالية من الذكاء الاجتماعي بالود واللطف، والقدرة على التواصل والإقناع بشكل عام، يعرّف الذكاء الاجتماعي بأنهُ مزيج من الفهم الأساسي للآخرين، كما عرفه أستاذ عم النفس توني بوزان: «أن تكون قادرًا على الارتباط بالناس، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات صغيرة أو حتى في التجمعات الأكبر عددًا، فأنت مشترك في عملية تواصل بين العقول بعضها البعض» لا يمكن بلوغ الذكاء اللغوي والذكاء الدبلوماسي وحتى الذكاء الاصطناعي وكل تلك الذكاءات دون توافر مهارات وكفاءات تمكن وجودها وتحفز تفعيلها، لكن استحضار تلك الذكاءات في مقالة اليوم ما هو إلا تعبير عن استغراب غيابها في حوار رئاسي ساده الاحتقان المتراكم ولغة التفوق والاستعلاء.

حديث هذه المقالة عن لغة الحوار بين رئيسين في جلسة كانت معدة لتوقيع اتفاقية تعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوكرانيا، اللقاء الذي دار في البيت الأبيض متضمنا توترا حادا بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونائبه جيه دي فانس، من جهة، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من جهة أخرى، لقاء كان حديث وسائل الإعلام العالمية لأيام، خلال اللقاء قال دونالد ترامب لفولوديمير زيلينسكي إنه غير مستعد للسلام، وإن بلاده في ورطة وإنها لا تنتصر في الحرب، وإن عليه أن يكون ممتنا ويوافق على وقف لإطلاق النار، أما نائبه جيه دي فانس، فقد قال إن من قلة الاحترام أن يأتي زيلينسكي إلى البيت الأبيض ويجادل أمام وسائل الإعلام الأمريكية.

كان واضحا هدف الجانب الأمريكي من هذا الاجتماع المتمثل في اتفاقية كان مقررا أن يوقعها الرئيس الأمريكي، مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تمكّن الولايات المتحدة من اقتسام ثروة كييف من المعادن، وهي صفقة يعدها ترامب بمنزلة ردّ الجميل للمساعدات التي قدمها دافعو الضرائب الأمريكيون إلى الدولة التي مزقتها الحرب، ولم تتضمن مسودة الاتفاق، التي حصلت عليها صحيفة نيويورك تايمز، سوى إشارات غامضة إلى حماية أوكرانيا، وتنص مسودتها على دعم الولايات المتحدة جهود أوكرانيا «للحصول على ضمانات أمنية ضرورية لإرساء سلام دائم».

الرئيس الأوكراني المنهك من الحالة غير المستقرة لبلاده لم يقبل اللغة الاستعلائية لأمريكا، خصوصا مع إصرار ممثليها على تذكيره بضعف موقفه وحاجته لهم لتحقيق السلام، لكن هذا السلام المؤمل لن يأتي دون ضريبة والضريبة هي حصة كبيرة من ثروة أوكرانيا من المعادن، ولعل الأمر على تعقيده من جهة وارتفاع قيمة جزائه من جهة أخرى كان لينتهي بتوقيع الاتفاق خاصة مع محدودية البدائل لدى أوكرانيا المستنزفة المنهكة عسكريا وأمنيا، إلا أن لغة الحوار من الجانب الأمريكي التي لم تقترب من الذكاء الاجتماعي إلا إن تخيلنا أن «الاستغلال الواضح» هو ذكاء اجتماعي بمعنى فرض الرأي الواحد على الأضعف مواردَ وقوة استراتيجية، ولكان الأمر هيّنا لو تم بعيدا عن وسائل الإعلام، أما أن يؤتى بالرجل لاستعراض ضعفه ثم إهانته بتكرار ضرورة الامتنان وشكر أمريكا وكأن المقصد أن جئنا بك لتهذيبك ثم لتوقيعك صاغرا لبلاد ستنقذك من أزماتك، ولا يوجد لهذه الإنقاذ المؤمل أي ضمانات بعد توقيع اتفاقية مشاركة المعادن.

ليست المرة الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البعد عن لغة الدبلوماسية وأقنعة الساسة في بلوغ مآربهم، فطالما عبّر مباشرة عن خططه لاستنزاف ثروات الدول مقابل حلم تحالفها مع أمريكا بأسلوب لا يمكن إلا أن يوصف بالمتعالي الفظ، وهو تحديدا ما استنفر الكثير من المسؤولين الأوروبيين لدعم موقف الرئيس الأوكراني الذي وافق رغم كل شيء على توقيع الاتفاقية، لكنه يطلب ضمانات أمنية بعد إعلان وقف إطلاق النار مع روسيا.

ختاما: اجترار الحديث عن اللغة الدبلوماسية والذكاء الاجتماعي في الاجتماعات الرئاسية للقوى العظمى، لن يجعل اجتماع البيت الأبيض بالرئيس الأوكراني أحد أمثلتها العملية يقينا، حتى وإن تحققت نتائجه المتمثلة في توقيع اتفاقية لمصلحة أمريكا، وكان الأجدى تفعيل لغة الحوار العاطفية والذكاء الاجتماعي لتحقيق ذات النتيجة بأسلوب حضاري يتناسب ومعطيات المرحلة.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية

مقالات مشابهة

  • التسول الإلكتروني عبر مواقع التواصل الاجتماعي
  • كيف يعيش الأقباط روحانية الصوم الكبير؟ طقوس وعادات متوارثة عبر الأجيال
  • مركز الإعلام الرقمي يرصد إقبالاً عراقياً على تطبيقات في التواصل الاجتماعي وتراجعاً لأخرى
  • مجلس السبيعي الرمضاني: منبر للتواصل ونقل الخبرات بين الأجيال
  • كيف ندمن وسائل التواصل الاجتماعي؟ السر في الهرمونات والإجهاد
  • ملف النازحين السوريين محور لقاء بين البيسري ووزيرة الشؤون الاجتماعية
  • الاستعلاء والذكاء الاجتماعي بين أمريكا وأوكرانيا
  • “الشبة الرمضانية” في الحدود الشمالية.. دفء التقاليد وجسر التواصل بين الأجيال
  • “الشبة الرمضانية” في الحدود الشمالية .. دفء التقاليد وجسر التواصل بين الأجيال
  • الرافدين: إطلاق رواتب المشمولين ضمن شبكة الحماية الاجتماعية