محركات تعقيد المشكلات الاجتماعية
تاريخ النشر: 4th, May 2024 GMT
في أي مجتمع إنساني هناك درجة تعقيد لكل مشكلة اجتماعية يواجهها، تحتكم هذه الدرجة إلى مساحة تأثير تلك المشكلة، والاعتراف الاجتماعي بإقرار وجودها، ودرجة استشعار المؤسسات الاجتماعية لضرورة التحرك للعمل عليها، وتوفر البيانات اللازمة التي تسمح بمراقبة المشكلة وتطوراتها، وتفعيل الحوار الاجتماعي حول المشكلة.
في سياق مجتمعاتنا الخليجية عمومًا بما فيها المجتمع العُماني نرى أن هناك ثلاث قضايا أساسية يجب التنبه إليها في هذه اللحظة من سيرورة هذه المجتمعات؛ وهي: قيم الحوار، قيم العمل، الفجوة بين الأجيال. تحمل كل قضية من هذه القضايا الثلاث احتمالية واسعة لنشوء مجموعة من المشكلات الاجتماعية، أو تعقيدها وتضاعفها، ومتى ما كان هناك تعامل اجتماعي مباشرة مع تلك القضية واهتمام اجتماعي موسع بها؛ كلما كان احتمال نشوء وتعقيد المشكلات الاجتماعية الناتجة منها محدودًا ومسيطرًا عليه في السياق الاجتماعي. قيم الحوار على سبيل المثال، والتي تتمثل في الانفتاح على الآخر، والقدرة على تفهم وجهات النظر، ومحاولة استيعاب المعطيات الغائبة عن المنظور، والتسامح مع وجهة النظر الأخرى، والصدق والشفافية والوضوح. كلها تمثل ركنًا مهمًا إما في حلحلة الكثير من المشكلات الاجتماعية أو تعميق وتعقيد المشكلات الاجتماعية، سواء تلك المشكلات الجزئية التي تنشأ بين الأفراد أنفسهم، وداخل الأسر، أو المشكلات التي قد تنشأ على مستوى الجماعات الاجتماعية وعلى مستوى تعامل المؤسسات الاجتماعية مع المجتمع. وتشكل قيم العمل محركًا مهمًا ليس فقط لإنتاجية الفرد ومساهمته الاقتصادية، بل لحفظ الدور المركزي للفرد ككائن اجتماعي، سواء تلك القيم المرتبطة بالالتزام والقدرة على المساءلة وتحمل المسؤولية، إلى قيم تحقيق التوازن بين المهنة والأسرة والحياة العامة، إلى قيم النزاهة، هذه أمثلة لتلك القيم التي نقصدها، نجد اليوم الكثير من المشكلات الاجتماعية المرتبطة تحديدًا بالجوانب الأسرية هي ناتجة عن غياب واحدة من أهم قيم العمل التي يجب أن تكتسب وتُعلم، وهي قيمة تحقيق التوازن بين المهنة (العمل) والأسرة (الحياة الشخصية). فمع غياب هذه القيمة قد تختل منظومات التربية العامة، وقد تنشأ المشكلات المرتبطة بالانحراف السلوكي للأبناء، أو ضعف التوافق والتفاهم في السياقات الأسرية بين الأزواج، أو تعريض الأبناء لمؤثرات التربية الخارجية واكتسابهم موجهات ثقافية ومعرفية وقيمية من خارج السياق المخطط للأسرة. وإن لم يتم تأسيس الأفراد على قيم النزاهة كمكون تربوي ومكون معرفي داخل مؤسسات التنشئة الاجتماعية فإن الضرر اللاحق يكمن في تعقيد المشكلات الاجتماعية الناجمة عن غياب هذه القيمة وأهمها استسهال الفساد، والتعامل مع المخالفات الواقعة كونها فعلًا اجتماعيًا معتادًا، وتغييب منظومة الحفاظ على الصالح العام، سواء كان هذا الصالح ماديًا أو معنويًا.
ومن أهم القضايا التي يجب التوجه إلى مراجعتها كونتها تسبب اليوم عديد المشكلات الاجتماعية هي قضية توسع الفجوة بين الأجيال، تنشأ نتيجة هذه الفجوة استشكالات في الفهم بين الأجيال، واختلال في منظومات التوقعات الجيلية، إضافة إلى صدام القيم، فتكون القيم الاجتماعية نسبية المفهوم؛ بمعنى أن ما يعتقد (س) من الأجيال أن قيما صالحة للعصر ويجب أن تكون موجهة للفعل الاجتماعي، ليس بالضرورة أن يرعى الجيل (ص) ذلك. وتتعقد المشكلات الناتجة جراء ذلك من مشكلات (استنكار ووصم الجيل)، إلى المشكلات الأخلاقية الناتجة عن غياب التوجيه، إضافة إلى المشكلات المرتبطة بالاحترام والتقدير، ويصبح لاحقًا من الصعب بمكان ضبط منظومة التوجيه الأخلاقي والقيمي في المجتمع.
إزاء ذلك نعتقد أن هذه القضايا الثلاث يجب أن تكون محور الرصد الاجتماعي؛ ذلك لأن لها – حسب تقديرنا – الارتباط الأعمق بظهور مختلف المشكلات الاجتماعية التي يتحدث عنها المجتمع – وإن كان على شكل جزر متفرقة – سواء مشكلات الطلاق وغياب التوافق الزواجي، أو الإساءة للأبناء، أو مشكلات التنمر، وتبني التوجهات الدينية والأخلاقية غير المتوافقة مع النسق الثقافي للمجتمع وسواها. هناك دور مهم لمنظومة الرصد الاجتماعي؛ من خلال تمكين ودعم البحوث الموجهة لهذه القضايا، وأتحدث هنا عن البحوث الاستراتيجية والوطنية القادرة على تمثيل المجتمع، وليست الدراسات والبحوث المجتزأة. فعلى سبيل المثال ليس لدينا اليوم الرصيد المعرفي والبحثي (الكافي) الذي يستطيع أن يخبرنا ما هي توقعات الأجيال تجاه بعضها البعض. وتشيع اليوم في الكثير من الأدبيات تقسيمه متعارف عليها للأجيال أوّلها ما يُعرف بـ«الجيل الصامت»، المولود بين 1928 و1944 ثم «جيل الطفرة السكانية» المولود بين 1945 و1965. يلي ذلك جيل «X» المولود بين عامي 1965 و1979. بعدها الجيل «Y» أو «جيل الألفية» المولود بين 1980 و1995. وأخيرا الجيل «Z» المولود منذ عام 1995، و هو الجيل الذي لا يعرف العالم من دون تكنولوجيا. (نقلًا عن عرب بوست) بمعنى كيف يرى كل جيل الأخر؟ وماذا يتوقع منه؟ وما هو الحاصل فعليًا في سياق الاشتباك الاجتماعي اليومي والمعاش بين تلك الأجيال؟. يختلف كل مجتمع عن الآخر في توقعات الأجيال وفي الفجوة بينها – وإن كانت هناك سمات مشتركة عالمية لكل جيل يحركها ما يتعرض له من تقانة وعلوم وثقافة عالمية – ولكن يعنينا تحديدًا كيف تتحرك هذه الأجيال في منظومة الثقافة الاجتماعية وكيف تتعامل مع بعضها وما هي النقاط الحرجة التي يجب التنبه إليها والتي قد يمكن أن تكون مولدة لمشكلات اجتماعية محددة. هذا نموذج من مساحات الرصد الاجتماعية التي لا تزال بكرًا في تقديرنا وهناك العديد من فرص البحث والرصد في القضايا الثلاث التي أشرنا إليها. وهو ما يستوجب نظرًا أن يوازن بين الشمول والجزئية إلى وقائع الحياة الاجتماعية، لفهم مصادر المشكلات الاجتماعية، ومصادر تعقيدها، وآليات السيطرة عليها.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
فيديو. لقجع: الدعم الإجتماعي المباشر أحد الركائز الأساسية لورش الحماية الاجتماعية
زنقة 20. الرباط