في رحاب الشعر الشعبي العربي الفسيح، خسرت الساحة الأدبية واحدًا من أبرز نجومها المتألقين، الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن «مهندس الكلمة»، ذلك المهندس البارع للكلمة المنقوشة. لقد كان معمارًا لمدرسة شعرية حداثية فريدة لا نظير لها في ربوع الجزيرة العربية، مدرسة تغوص في أعماق الكلمة وتنحت بدقة ما ينحته العصفور في تمرة العذق، عنوان ديوانه الشعري الأول الذي يجسد روح إبداعه الخالدة.

كان الأستاذ الكبير الذي استقى منه شعراء الشعر الشعبي في سلطنة عُمان وشعراء الوطن العربي بأسره، من معين نصوصه الغنية التي لا يضاهيها سوى بدر بن عبد المحسن نفسه، فقد كان الملهم والمعلم لتجربة فذة لا مثيل لها.

هنا أستذكر اللحظة التاريخية الخالدة التي حفرت في ذاكرتي، عندما التقيت لأول مرة بالأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن في مهرجان دبي الدولي للشعر عام 2009 بالمركز التجاري في دبي. في ذلك اليوم، بعد سلسلة من اللقاءات البعيدة مكانًا والقريبة زمانًا وروحًا عبر الكلمة المسموعة، المغناة، المكتوبة التي كنا نتلذذ بقراءتها دائما في كافة مجالات الشعر ذات الوهج والصيت آنذاك.

هأنذا في تلك اللحظة الحاسمة، ألتقي بدر بن عبدالمحسن وجهًا لوجه، وأستمع تلك النصوص الغنية، فقد كنت أنا والشعراء صالح الريسي ومحمد الصالحي وأحمد السعدي قد انطلقنا من سلطنة عُمان إلى دبي، حيث اجتمعنا بالشاعر جمال الشقصي هناك ورافقنا إلى موقع الأمسية.

في ذلك اليوم المنتظر، إضافة إلى شغفنا بلقاء الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن، كنا نترقب أيضا بحماس تلك اللحظة الأولى التي سيرى فيها الشاعر صالح الريسي بدر بن عبدالمحسن عينا بعين. ولماذا صالح الريسي بالذات؟ لقد عُرف «البدر العُماني» ليس فقط لكونه أحد أبرز شعراء سلطنة عُمان، ولا لبلوغه المستوى الرفيع الذي بلغه الأمير، بل لعلاقته العميقة التي أرساها تجاه بدر بن عبدالمحسن شاعرًا وإنسانًا، علاقة تشكلت منذ زمن بعيد. فعندما يُذكر بدر، يتبادر إلى الذهن صالح الريسي، وعندما يُذكر صالح، تتجسد كل نصوص بدر عبدالمحسن. حينما تنسى بيتا شعريا أو نصا من نصوص هذا الشاعر الراحل، فعليك بالبدر العُماني ليذكرك بالمفقود، وهذا ما حدث حتى مع بدر بن عبدالمحسن نفسه في تلك الأمسية التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر.

تبدأ الأمسية الشعرية في تمام الساعة السابعة، بينما نحن نصل في الخامسة، لكن للأسف القاعة مغلقة أبوابها ويمنع الدخول حتى قبل موعد الأمسية بنصف ساعة. فننتظر بلا ملل، لا نبرح المكان، نترقب إشارة الدخول بفارغ الصبر خارج البوابة. حينها انطلقنا جميعًا متسابقين إلى المسرح، خشية ألا نجد كرسيًّا واحدًا نتربع عليه خلال الأمسية، لكن لم يكن أحد قد سبقنا سوى مصوري بعض القنوات الفضائية، فاخترنا مكانًا جيدًّا في صالة المسرح. كنا ننظر إلى صالح الريسي وهو يبحث في الأماكن الأخرى بقلق، حتى طلب منا أن ننتقل إلى مكان آخر يواجه به بدر بن عبدالمحسن وجهًا لوجه. تمر اللحظات ببطء شديد على «الريسي»، وما هي إلا لحظات حتى امتلأت القاعة بالجمهور عن آخرها. نترقب بقلق وشغف، ماذا سيفعل صالح الريسي يا ترى حينما يدخل «البدر» إلى القاعة؟ إننا نعلم مقدار ذلك الحب وذلك الشغف وتلك الرغبة الجامحة ليقابل هذا الشاعر الكبير في عُمان ذاك الشاعر الكبير في المملكة العربية السعودية، بل في الوطن العربي الكبير.

تأتي اللحظة الحاسمة فيدخل الأمير بدر بن عبدالمحسن الأمسية محيِّيا الجمهور يقف صالح الريسي منتصبا أمامه محتفيا بقامة شعرية لطالما كان يحلم أن يقف أمامها نقف جميعًا معه نحيي الشاعر الأمير نرفع أيدينا محيين له ومصفقين.. يجلس الجميع عدا «صالح» الذي وقف مشدوها للحظات وقد تحقق حلمه، بعد قليل نقنعه بالجلوس، وتبدأ الأمسية التي أكاد أجزم بأن كل نص قرأه الأمير بدر بن عبدالمحسن كان صالح الريسي يردد أبياته قبله لأنه أكثر حفظا من الأمير نفسه أو كما قال الأمير بنفسه عندما أراد أن يقرأ نصا وقال الأمير: «لا تسعفني الذاكرة» قفز حينها صالح الريسي (بهذه اللحظة التي تحيّنها) رفع يده واقفا ليقرأ النص على الأمير من أمام ذلك الجمع بين الجمهور.. صمت الأمير مركزا لما يقوله هذا «المعجب» حتى ابتسم الأمير وقال له: إنك أكثر حفظا مني، في لحظة الاتصال هذه بين الأمير بدر بن عبدالمحسن والشاعر صالح الريسي خارت قوى صالح الريسي وأدمعت عيناه وكنا نقنعه بالجلوس حتى نستمع إلى باقي النصوص.. يقرأ الأمير بدر بن عبدالمحسن نصه الشعري كاملا ويردد صالح النص كاملا وهو بين الجمهور، يقرأ مرة أخرى بدر بن عبدالمحسن نصًا آخر وينسى أحد أبياته يقفز صالح الريسي مجددا ليصحح للأمير النص الذي أخطأ فيه.. نقنع صالح الريسي مجددًا ألا يكرر كل بيت يقرأه الأمير وإن كان ولا بد فبسره ـ لكن دون جدوى ـ حتى شعرنا جميعًا أن الجمهور قد تضايق بالفعل وقال أحدهم: هل نستمع لبدر بن عبدالمحسن أو نستمع إليك؟ ـ مشيرا إلى «صالح»، لحظتها حاولنا وقد اختلطت المشاعر تجاه الموقف، حاولنا أن نقنعه بأن يجعلنا نركز في نصوص الأمسية وهذا ما كان بالفعل حتى انتهت الأمسية التي خرج منها صالح الريسي مسرعا من المسرح لعله يستطيع أن يصادف بدر بن عبدالمحسن خارج القاعة ولكن مع الأسف لم يتحقق ذلك.. لكن كل ذلك لم يقلل من الفرحة الكبيرة والأهمية العظيمة التي شعرنا بها بحضور أمسية شعرية فارقة لمبدع عربي فارق، للحظة وجدها صالح الريسي الأعظم في مشواره الذي تمناه وتحقق.

استذكر هذه اللحظات ونحن نودّع تجربة شعرية بطلها أحد أبرز روّاد الحداثة الشعرية في الجزيرة العربية، جمعت بين عذوبة الكلمة وعمق المعنى وحداثة الصورة، موهبة جمعت بين الشعر والتشكيل، أصدر 5 دواوين شعرية هي «هام السحب»، و«شهد الحروف»، و«رسالة من بدوي»، و«ما ينقش العصفور في تمرة العذق»، و«لوحة ربما قصيدة»، وبعد نصف قرن في ميدان الشعر صدرت أعماله الشعرية الكاملة تزامنا مع معرض الرياض الدولي للكتاب عام 2022م، وتم ترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية.

تغنى بقصائده العديد من كبار المطربين العرب أشهرهم طلال مداح ومحمد عبده وعبادي الجوهر وعبدالمجيد عبدالله وخالد عبدالرحمن وعبدالله الرويشد وكاظم الساهر وصابر الرباعي وراشد الماجد وغيرهم، ونال عدة تكريمات بما في ذلك وسام الملك عبدالعزيز عام 2019م، كما كرمته الهيئة العامة للترفيه عام 2019م في ليلة كان عنوانها (ليلة الأمير بدر بن عبدالمحسن: نصف قرن والبدر مكتمل). وقد سمي المسرح المبنيّ خصيصا لهذه المناسبة بمسرح الأمير بدر بن عبدالمحسن.

عمل على نشر الشعر والثقافة حيث تولى رئاسة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، وشغل منصب رئيس تنظيم الشعر بالسعودية، وكُلف بكتابة الأوبريتات الافتتاحية لعدة مهرجانات سعودية أبرزها مهرجان الجنادرية، وقد أسهم الأمير الراحل في الحراك الإبداعي السعودي لنحو نصف قرن حتى وفاته.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأمیر بدر بن عبدالمحسن

إقرأ أيضاً:

قناص القسام في غزة يقتبس أبياتا لشاعر سوداني.. تعرف عليه (شاهد)

بثت كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس، اليوم الثلاثاء، لقطات مثيرة، لعملية قنص نفذتها في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وبرز في المقطع المصور أبيات شعرية اقتبسها قناص القسام وعلّقها بجانب بندقية "الغول" المصنعة محليا.

وتعود الأبيات الشعرية للشاعر السوداني محمد عبد الباري، وكتب "قناص القسام" لوحة ورقية بجوار بندقيته، جاء فيها: "وسنبقى على جبل الرماة وخلفنا صوت النبي يردد: لا تبرحوا لا تبرحوا (..)، كتائب القسام- طوفان الأقصى- كتيبة الشجاعية".

"وسنبقى على جبل الرماة وخلفنا صوت النبي يردد.. لا تبرحوا، لا تبرحوا"..

عــاجــل | كتائب القسام تنشر مشاهد لقنص جندي صهيوني في الشجاعية شرق مدينة غزة.#طوفان_الأقصى pic.twitter.com/dzGgPjyxNs

— رضوان الأخرس (@rdooan) July 2, 2024
والشاعر عبد الباري من مواليد 1985، ومختص بمجالات الفلسفة والفكر على وجه التحديد، ويعتبر في طليعة الموجة الراهنة من مجددي القصيدة العربية، وتعود أصوله إلى مدينة المناقل بولاية الجزيرة ثاني كبرى ولايات السودان من حيث كثافة السكان

ونشأ عبد الباري وترعرع وأكمل تعليمه في العاصمة السعودية الرياض، وذلك بعد أن انتقلت عائلته إليها في السنة الأولى من عمره، وأتم جميع مراحل تعليمه من المرحلة الابتدائية إلى مرحلة البكالوريوس في الرياض، وبعد أن حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها انتقل إلى الأردن، وحصل على الماجستير من الجامعة الأردنية بعمان.




حاز على عدة جوائز في مجال الشعر العربي، منها: جائزة الأمير عبد الله الفيصل العالمية عام 2019، وجائزة الشباب العربي الأفريقي عام 2016، وجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2013.

وله العديد من القصائد الشعرية، منها: ما لم تقله زرقاء اليمامة، والأصدقاء، وانتظار، وتوقيعات على جدار الثورة، والحمامة، وهي القصيدة الشعرية التي اقتبس منها "قناص القسام" الأبيات الشعرية.



وتفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع هذه الأبيات الشعرية، وعلقوا: "هذه رسالة لأمتنا الإسلامية أن معركتنا معركة دين وعقيدة، وأن من يتقدمون الصفوف اليوم للدفاع عن أمتنا هم رجال امتلأت قلوبهم فهما وحكمة وإيمان. ولذلك رغم الإبادة الجماعية تراهم لا يبرحون ثغورهم مقبلين على الله غير مدبرين".

وقال مغرد آخر: "قديما كان يحق للشاعر ما لا يحق لغيره. اليوم يحق للمقاوم ما لا يحق لغيره، بما في ذلك تعديل نصوص الشعراء"، مشيرا إلى أن البيت في فيديو القسام هو خاتمة قصيدة "الحمامة" للشاعر محمد عبد الباري.


قديماً كان يحق للشاعر ما لا يحق لغيره.
اليوم يحق للمقاوم ما لا يحق لغيره،
بما في ذلك تعديل نصوص الشعراء.
البيت خاتمة قصيدة "#الحمامة" للشاعر #محمد_عبدالباري الذي بدا له سهم هناك في #غزة.

سنظل في جبل الرماة، فخلفنا
صوت النبي يهزنا: لا تبرحوا. pic.twitter.com/U8av5x7rhP

— سعيدالحاج said elhaj (@saidelhaj) July 2, 2024

أهم ما في فيديو القنص الذي بثته #كتائب_القسام قبل قليل لإحدى عملياتها في حي الشجاعية هي تلك الكلمات الظاهرة في الفيديو..

"وسنبقى على جبل الرماة وخلفنا صوت النبي يردد.. لا تبرحوا، لا تبرحوا"..

هذه رسالة لأمّتنا الإسلامية أن معركتنا معركة دين وعقيدة، وأن من يتقدمون الصفوف اليوم… pic.twitter.com/rD7HsLTZd9

— أدهم أبو سلمية ???????? Adham Abu Selmiya (@adham922) July 2, 2024

???? وسنبقى على جبل الرماة
وخلفنا صوت النبي يردد
لا تبرحوا لا تبرحوا.

كتائب القسام- كتيبة الشجاعية. pic.twitter.com/GKvgUo4q5k

— صلاح الدين (@SalahAl95291460) July 2, 2024

مقالات مشابهة

  • بعد خمس سنوات من العطاء.. اللواء طارق الفقي يودع مكتب محافظة سوهاج
  • الأنشطة الثقافية البيئة بصندوق التنمية فى رسالة دكتوراه للباحثة فاطمة صبحي
  • قناص القسام في غزة يقتبس أبيات شاعر سوداني.. تعرف عليه (شاهد)
  • قناص القسام في غزة يقتبس أبياتا لشاعر سوداني.. تعرف عليه (شاهد)
  • جامعة عين شمس تناقش رسالة دكتوراة عن مراكز الإبداع الفني بوزارة الثقافة
  • شبيبة السويداء تنظم المسابقة الشعرية على مستوى المحافظة
  • “غرفة المدينة المنورة” تنظم لقاء “أساسيات DevOps نحو عملية تطوير مستدامة”
  • الميليشيا رغم وضاعتها إلا أنها تحتاج من يشرعن ويعقلن ما تقوم به من جرائم
  • الاحتفاء بـ"أصدقاء الطبيعة الجبلية" في العوابي
  • أمسيات ثقافية وفعالية في خدير وحيفان بتعز احتفاءً بذكرى الولاية