الوطن:
2025-03-03@17:06:57 GMT

البابا تواضروس الثاني يكتب: قوة محبة المسيح

تاريخ النشر: 4th, May 2024 GMT

البابا تواضروس الثاني يكتب: قوة محبة المسيح

نحتفل هذا العام بعيد قيامة السيد المسيح، فى وسط عالم ملىء بالحروب والصراعات، عالم يبحث عن مصالحه الشخصية، ولا يبحث عن الآخر، عالم فرغ قلبه من الحب ويتباهى بالقوة.

«القوة» من الكلمات المبهرة فى الحياة الإنسانية، وهى كلمة واسعة المعانى وعديدة الأبعاد والمجالات.. فهناك قوة العلم والمعرفة والمعلومات.. وهناك قوة المال والثروة والكنوز.

. وهناك قوة البدن والصحة والعضلات.. وهناك قوة الفكر والأدب والفلسفات.. وهناك قوة النسك والزهد والتقشف.. وهناك قوة السيطرة والاستحواذ والتحكم.. وغير ذلك كثير ونوعيات.. ربما يصعب حصرها..

وذات يوم تساءلت:

ما هى أعظم قوة فى حياة الفرد؟!

أو حياة المجتمع؟!

أو حياة الشعوب؟!

وشغلنى السؤال وأنا أقرأ فى كتب التاريخ وقصص الزمان، ووجدت أن كل أنواع «القوة» تظهر على مسرح الزمان وتستمر وقتاً ثم تنتهى. وهكذا كانت الممالك والإمبراطوريات الكبيرة والجيوش العتيدة.. وهكذا كان الملوك والأباطرة والطغاة، ومن كان دكتاتوراً فى زمنه وانقضى ومن كان متميزاً ومشهوراً فى جيله وانتهى.. ومن صار علامة فى حياة البشر إيجاباً أو سلباً.. حتى إن سليمان الحكيم يقول فى سفر الجامعة: «بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، الْكُلُّ بَاطِلٌ.. مَا الْفَائِدَةُ لِلإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ تَعَبِهِ الَّذِى يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ؟» (1: 2، 3).

ويظل التساؤل: ما هى أعظم قوة فى حياة الإنسان؟ وما هى هذه القوة التى تحمى الإنسان من السقوط فى الخطأ؟!

إنها قوة المحبة التى يسكبها الله على الإنسان فى صورة الغفران من الخطايا والذنوب، ويأخذها الإنسان ليقدمها إلى أخيه الإنسان فى صورة التسامح، والمسامحة، أمام الإساءات والتعديات الكثيرة.

وقبيل صعود السيد المسيح إلى السماء بعد قيامته ظل أربعين يوماً يظهر لتلاميذه قائلاً: «هكَذَا كَانَ يَنْبَغِى أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ..». (لو 24: 46، 47).

أمام الخطايا يظهر إله الغفران المحب: «إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِىءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ وَلكِنَّهُ لَنْ يُبْرِئَ إِبْرَاءً» حتى إن موسى النبى يصلى ويقول: «إِنَّهُ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةُ وَاغْفِرْ إِثْمَنَا وَخَطِيَّتَنَا وَاتَّخِذْنَا مُلْكاً» (خروج 34: 6-9).

إن الإنسان يعيش فى عالم ملىء بالجروح والمشاعر السلبية والإساءات التى تصيبه من الآخرين، وتكون النتيجة هى إصابته بمشاعر المرارة والغضب والقلق والخوف والظلم والاكتئاب والانتقام وكل هذه الجروح والمواقف تسبب له حالة إحباط نفسى يختلف من وقت لآخر.

وهذا يؤثر على جسده ونفسه وروحه وبالتالى على سلوكياته وتصرفاته سواء فى البيت أو الكنيسة أو المجتمع وتنشأ عنده حالات الكراهية واليأس والانطواء وغياب الفرح مع أعراض أخرى مدمرة قاسية.. ولا يجدى مع ذلك النسيان أو الإنكار أو الابتعاد.. ويقف الإنسان حائراً ماذا يفعل؟!

والإجابة هى بتقديم المحبة للكل ومسامحة الكل. إن قوة المحبة من خلال التسامح هى المنقذ الوحيد للخروج من هذه المشاعر السلبية، التى شعرت فيها النفس بالإيذاء العميق.

ومعروف أن الشريعة فى العهد القديم لا تقتصر على وضع حد للانتقام «عَيْناً بِعَيْنٍ» (خروج 21: 23) ولكنها أيضاً تنهى عن بغض الأخ لأخيه، كما تحرم الانتقام والحقد نحو القريب (لاويين 19: 17-18).

وقد تأمل ابن سيراخ الحكيم فى هذه التشريعات واكتشف الرابطة التى تربط بين غفران الإنسان لأخيه وبين الغفران الذى يلتمسه الإنسان من الله: «.. اِغْفِرْ لِقَرِيبِكَ ظُلْمَهُ لَكَ فَإِذَا تَضَرَّعْتَ تُمْحَى خَطَايَاكَ..» (سيراخ 28: 2).

والقاعدة واضحة جداً أمام الإنسان؛ أن الله لا يمكن أن يغفر لمن لا يغفر لأخيه.

ومن أهمية ذلك أن السيد المسيح وضع هذه القاعدة فى الصلاة الربانية التى نرددها كل يوم حتى لا ننساها.. إن مسامحة أخيك شرط طلب الغفران الإلهى (لوقا 11: 4؛ متى 18: 23).

ولذا نجد السيد المسيح يفرض على بطرس الرسول ألا يمل من الغفران (متى 18)، ونقرأ أن استفانوس الشماس الأول مات وهو يغفر لراجميه (أعمال 7: 10) لأن الذى «يحب» عليه أن يعى أن هناك فعلين يعملهما: أن يسامح وأن ينسى أية إساءة.

إن الإنسان المسيحى يجب أن يغفر دائماً ويغفر بدافع المحبة أسوة بالمسيح (كولوسى 3: 13) ولا يقاوم الشر إلا بالخير (رومية 12: 21). إن السيد المسيح لم يدعُ الخطاة إلى التوبة والإيمان فقط، بل أعلن أنه لم يأتِ إلا ليشفى ويغفر.

وهو ما ظهر جلياً وقت الصلب وهو أصعب لحظات حياة السيد المسيح على الأرض، فقد قدم لنا قوة محبته التى جاء ليظهرها لكل الإنسانية، تجلت من خلال غفرانه للكل، لقد ظهرت فى الجسد واهناً ضعيفاً مرذولاً، ولكنه كان أقوى من جميع البشر حين قال «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو23: 34)، لقد كان قصد السيد المسيح الأول هو إظهار محبة الله للبشر وقد ظهرت من خلال الصليب المقدس.

إن مقابلة الخير بالخير هو عمل إنسانى، ومقابلة الخير بالشر هو عمل شيطانى، أما مقابلة الشر بالخير فهو عمل إلهى. فالغفران عمل صعب على البشر لأنه ليس من طبيعتهم، ولكنه يحتاج قوة إلهية خاصة نابعة من المحبة التى سكبها الله فى قلب الإنسان المسيحى (رومية 5: 5)، وبها يغفر ويسامح ويغسل قلبه ونفسه من الإساءة ومن المرارة، ولذا نصلى يومياً: «قَلْباً نَقِياً اخْلُقْ فِىّ يَا اَللهُ، وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِى أحْشَائِى» (مزمور 50).

لقد قدم السيد المسيح غفرانه للجميع، أفراداً كانوا أو حشوداً من الجماهير.

قدم محبته للخطاة:

خلال مدة خدمة السيد المسيح على الأرض قابل خطاة لم يحبهم أحد وكانوا عطاشى إلى المحبة، منهم المرأة الزانية التى أحضرها إليه اليهود «فقَدَّمَ إِلَيْهِ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ امْرَأَةً أُمْسِكَتْ فِى زِناً»، وقالوا له إن موسى أمر برجم الزوانى (تث 17: 5، 6)، فماذا يقول هو. «قَالُوا هذَا لِيُجَرِّبُوهُ، لِكَىْ يَكُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ».

أما السيد المسيح فقد تجاهلهم وبدأ يكتب على الأرض بإصبعه، وعندما ألحّوا عليه قال لهم: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ»، فبكتتهم ضمائرهم وابتدأوا ينسحبون الواحد وراء الآخر، وهنا نظر إليها السيد المسيح قائلاً «يَا امْرَأَةُ، أَيْنَ هُمْ أُولئِكَ الْمُشْتَكُونَ عَلَيْكِ؟ أَمَا دَانَكِ أَحَدٌ؟»، فأجابته بالنفى، «وَلاَ أَنَا أَدِينُكِ. اذْهَبِى وَلاَ تُخْطِئِى أَيْضاً» (يو 8: 7).

قدم تسامحاً مع عشار:

إذ كانت فئة العشارين الذين يحصلون الضرائب من الشعب، فئة مكروهة من الجميع، وكان زكا رئيس العشارين يطلب أن يرى السيد المسيح، وعندما علم أنه مجتاز من أريحا، ذهب إلى الطريق ولكن لقصر قامته لم يستطع بسبب الازدحام الشديد، «فَرَكَضَ مُتَقَدِّماً وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَىْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِى أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِى بَيْتِكَ» وأمام هذه المحبة، وَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِى نِصْفَ أَمْوَالِى لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ» وبهذه المحبة قدم الله غفراناً لزكا. (لو19).

قدم غفراناً لجموع هتفت «اصلبه اصلبه»:

كانت الجموع وقبل الصلب بأيام قليلة وعند دخوله أورشليم تهتف له أوصنا لابن داود مبارك الآتى باسم الرب، متوهمة أنه ملك أرضى، سوف ينقذهم من الرومان، الذين كانوا حكامهم فى ذلك الزمان، ولكن حينما اكتشفوا أنه لن يحكم بلادهم، لكنه يريد توبة ويملك غفراناً، ولن يجزل المال لهم، تغيرت المشاعر ونفس الجموع وأمام بيلاطس البنطى صرخوا اصلبه اصلبه دمه علينا وعلى أولادنا، أما هو فقد قدم ذاته على الصليب فداء عن هؤلاء الذين أرادوا قتله.

كما قدم أيضاً غفراناً لأفراد.. منهم تلميذ أنكر:

ففى أثناء القبض على السيد المسيح فى بستان جثيمانى، هرب تلاميذه، لكن تبعه إلى دار الولاية يوحنا وبطرس الرسولان، أما بطرس قد كان ينظر من بعيد، ولأنه جليلى ولغته مختلفة عن سكان أورشليم عرفه الخدم من لغته وأشارت جارية عليه قائلة: «وَأَنْتَ كُنْتَ مَعَ يَسُوعَ الْجَلِيلِيِّ!» فَأَنْكَرَ قُدَّامَ الْجَمِيعِ قَائِلاً: «لَسْتُ أَدْرِى مَا تَقُولِينَ!» ثُمَّ إِذْ خَرَجَ إِلَى الدِّهْلِيزِ رَأَتْهُ أُخْرَى، فَقَالَتْ لِلَّذِينَ هُنَاكَ: «وَهذَا كَانَ مَعَ يَسُوعَ النَّاصِرِىِّ!» فَأَنْكَرَ أَيْضاً بِقَسَمٍ: «إِنِّى لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» (مت 26: 73)، لكنه بعد القيامة وحين قابله سأله سؤالاً واحداً وكرره ثلاث مرات «أتحبنى؟» وأجاب بطرس فى خجل نعم يا رب أنت تعلم أنى أحبك، وهنا لم يعاتب السيد المسيح عما مضى بل قال له غافراً كل ما صنعه «ارعَ خرافى».

وقدم غفراناً للص مصلوب عن يمينه:

حين قال له «اذكرنى يا رب متى جئت فى ملكوتك» وكانت إجابة السيد المسيح سريعة وفورية «اليوم تكون معى فى الفردوس» لقد غفر السيد المسيح للجميع، لمن جلده ومن اقتسم ثيابه، لمن صلبه ومن أمر بصلبه، غفر بقوة لكل من أساء إليه.

يا صديقى: أن تسامح الإنسان الآخر الذى أساء إليك هو قرارك بإرادتك ورغبتك واختيارك.. ولكن اعلم أن مكسبك كبير للغاية وهو الحصول على قدر أكبر من الرحمة الإلهية والشفاء الداخلى الذى تحتاجه فى حياتك الحاضرة والآتية أيضاً.

لتكن صلاتك: أعطنى يا رب طاقة تسامح وغفران لكل من أساء إلىَّ.. املأ قلبى بمحبتك فأستطيع أن أحب حتى الذين أساءوا إلىَّ فى مشوار حياتى. لا تدعنى أحمل ضغينة ضد أى أحد.. علمنى أن أسامح وأن أغفر وأن أحب رغم الضعف والفكر والميول القلبية الشريرة التى تحاربنى وتبعدنى عن طاعة وصيتك الغالية «اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ» (لوقا 6: 37).

وفى هذه المناسبة أهنئ كل الشعب المصرى بفترة الأعياد التى نمر بها الآن، كما أشكر فخامة السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى على تهنئته الرقيقة، وكذلك السيد المستشار رئيس مجلس النواب والسيد المستشار رئيس مجلس الشيوخ، والسيد الدكتور رئيس مجلس الوزراء، والسادة الوزراء والقوات المسلحة والشرطة الوطنية وجميع المسئولين الكرام على أرض مصر، الذين قدموا لنا التهنئة القلبية، ونصلى أن يديم الله المحبة، كما نرفع قلوبنا مع صلواتنا لكى يوقف الله كل صراع فى كل مكان فى العالم ويحل الهدوء والسلام على الأرض وفى القلوب، وكل قيامة وأنتم جميعاً بخير وفرح وسلام.

عيد القيامة المجيد 2024

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: عيد القيامة المجيد المسيح عليه السلام المحبة التسامح السید المسیح على الأرض

إقرأ أيضاً:

عودة: ندعم العهد الجديد وحكومته من أجل إعادة بناء وطننا

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة قداس الأحد الأخير من زمن التهيئة للصوم، في كاتدرائية القديس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين.

بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: "وصلنا إلى الأحد الأخير من زمن التهيئة للصوم الكبير، إلى أحد الغفران، أو ما يعرف بأحد مرفع الجبن. وابتداء من الغد ننقطع عن أكل اللحم والسمك وكل مشتقات الحليب، وننصرف إلى الصلاة والتأمل لنصل إلى تنقية القلب والتوبة والرجوع إلى الله. اليوم، تقرأ كنيستنا المقدسة المقطع الإنجيلي الذي يعلمنا أن نغفر زلات الآخرين لكي يغفر لنا أيضا أبونا السماوي زلاتنا التي لا تحصى. لهذا، درجت عادة منذ القديم، بين المسيحيين الأتقياء، أن يطلبوا الغفران في هذا اليوم كما في كل أيام أسبوع مرفع الجبن، بعضهم من بعض عما أخطأوا به. هذا ما نقوم به مساء اليوم في نهاية صلاة الغروب، حيث نطلب الغفران والمسامحة بعضنا من بعض، قبل الشروع في الصوم الأربعيني المقدس غدا. نقبل بعضنا بعضا قبلة مقدسة قائلين: «إغفر لي يا أخي أو يا أختي لأجل المسيح» فيما ترنم الجوقة ترانيم الفصح معلنة أن هدف رحلتنا الروحية في الصوم الكبير هو الوصول إلى القيامة المقدسة. ويوم الفصح نرتل: «اليوم يوم القيامة فسبيلنا أن نتلألأ بالموسم، ونصافح بعضنا بعضا... ولنصفح لمبغضينا» قبل أن ننشد المسيح قام".

أضاف: "في أحد الفريسي والعشار يفتح المسيح أبواب التوبة فندخل الطريق المؤدي إلى الصوم، أي التواضع. وفي أحد الإبن الضال نثبت نظرنا نحو الآب، غاية الصوم. أما في أحد مرفع اللحم، المسمى أحد الدينونة فنعي أهمية القريب الذي معه تتم أعمال المحبة ومن خلاله ندخل الملكوت. اليوم، في أحد الغفران، نقبل القريب قبلة المحبة والمغفرة لندخل الصوم فرحين، متصالحين مع الله والقريب ومع ذواتنا.ما من أحد في الخليقة، مهما علا شأنه ومركزه ومقامه، لا يخطئ تجاه الله وتجاه قريبه ونفسه، قولا أو فكرا أو فعلا، لأننا جميعا عبيد بطالون مجبولون من تراب الأرض وإليها عائدون. وما على المؤمن إلا التحلي بالشجاعة ليطلب الغفران ويعترف بخطئه. طلب الغفران يثبت إيماننا بكلمة الله، ويعكس تواضعنا ووداعتنا ومحبتنا للسلام. في المقابل، عدم الرغبة في طلب الغفران من الذين أخطأنا بحقهم، يكشف في الإنسان رفض السلام، وقلة الإيمان، والكبرياء والغرور وتذكر الشر، وعصيان الوصايا الإلهية، ومقاومة الله والتوافق مع الشيطان".

وتابع: "إن قلب الإنسان غاية في الأنانية وغير صبور وعنيد وخبيث ويستحضر الشر. إنه مستعد لأن يغضب من قريبه لا بطريقة شريرة مباشرة وحسب، بل أيضا عبر مخيلته، وليس عبر كلمة مسيئة فقط، بل أيضا عبر كلمة مزعجة أو قاسية، أو عبر نظرة شريرة أو غامضة أو خبيثة أو متعجرفة، ويكاد يغضب حتى من أفكار الآخرين التي يتخيلها حوله. لقد قال الرب الفاحص القلوب عن قلب الإنسان: «لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة» (مر7: 21-22).   إن التفكير بالشر هو أبشع أنواع الرذيلة، وبقدر ما هو بغيض عند الله هو مؤذ للمجتمع. نحن مخلوقون على صورة الله ومثاله وينبغي أن تكون الوداعة من صفاتنا الثابتة. الله يعاملنا حسب رحمته وطول أناته، ويغفر لنا من دون حساب. لكن علينا نحن أولا أن نغفر لمن يسيء إلينا. علمنا الرب أن نصلي الصلاة الربانية التي غالبا ما نتلوها ببغائيا ولا نتعمق في معانيها. قال الرب إذا صليتم، فصلوا هكذا: «أبانا الذي في السماوات...» إلى أن نقول «... واترك (واغفر) لنا ما علينا كما نترك (نغفر) نحن لمن لنا عليه...». يقول أحد الآباء القديسين أن الرب يدعونا في هذه الصلاة كي نصفح عن ذنوب الآخرين، إذ إنه يريدنا أن نكون رحماء، لنبعد البؤس. حقا، إننا لا نصلي في أية طلبة أخرى أن نعاهد الرب على أن يغفر لنا كما نغفر نحن. إذا نقضنا هذا الميثاق، تكون الصلاة كلها غير مثمرة".

وقال: "سمعنا قول الرب في إنجيل اليوم: «إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أبوكم السماوي أيضا، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم فأبوكم أيضا لا يغفر لكم زلاتكم». أحد الغفران هو يوم فحص الذات الدقيق، يوم نتفحص فيه مدى نضجنا الروحي، إن كنا قادرين على اتباع المسيح وطاعة كل وصاياه. لا يمكننا أن نصوم إن لم نبدأ بالغفران للقريب. قد يكون سهلا أن نساعد فقيرا ونحسن إلى إنسان غريب، لكن الأصعب أن نسامح الإنسان القريب. المصالحة هي المحبة التي تفوق محبة الذات. إنها البرهان على أننا وضعنا القريب، أي الآخر، فوق اهتماماتنا وفوق كرامتنا. ليس الصوم فترة تعذيب للذات، ولا فترة معاقبة لها، أو إيفاء ديون لله. إنه الفترة التي تسودها المحبة الأخوية والشعور بمحبة الله وعطفه. الصوم انقطاع عن بعض الأطعمة، إنما أيضا سعي لكي يصبح طعام الملائكة خبزنا الجوهري، أي التسبيح وإطعام الإخوة أي المحبة. لذا، دعوتنا اليوم، في هذا الوقت الحسن القبول، في أوان التوبة، أن نطلب الغفران ونمنحه، حتى نصل إلى بر القيامة يدا بيد، مستحقين أن نصرخ بفرح وسلام حقيقيين: «المسيح قام، حقا قام».

أضاف: "مر وطننا في ظروف صعبة ساد خلالها الخلاف والحقد والتجاوزات وتبادل التهم والشتائم، وأحيانا اللجوء إلى السلاح والقتل، ما خلف جراحا في النفوس وانهيارا في البلد. وقد مرت خمسون سنة على ما سمي الحرب الأهلية أو حروب الآخرين على أرض لبنان، بأدوات لبنانية ودماء لبنانية. يقول بولس الرسول: «الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله». أملنا وصلاتنا أن تطوى هذه الصفحة إلى غير رجعة، وأن تسود المحبة عوض البغض، والوئام والسلام عوض العنف والقتل، وأن نبدأ حقبة جديدة مبنية على الإعتراف بالخطأ، وعلى الغفران الذي تعلمنا إياه أدياننا، وعلى المحبة التي نحن مدعوون إلى اعتناقها سلوكا دائما، فنتكاتف من أجل الخير العام، وندعم العهد الجديد وحكومته، التي نهنئها على نيلها ثقة معظم البرلمانيين، من أجل إعادة بناء وطننا على أسس متينة تقاوم كل الرياح المؤذية. يقول لنا الرسول بولس: «قد تناهى الليل واقترب النهار، فلندع عنا أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور. لنسلكن سلوكا لائقا».

وختم: "كما سمعنا في إنجيل اليوم: «لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض... لكن اكنزوا لكم كنوزا في السماء... لأنه حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم» و«أبوك الذي يرى في الخفية يجازيك علانية». فليكن كلام الرب، في بداية هذا الموسم الصيامي، نبراسا لنا وهاديا طريقنا إلى الملكوت السماوي".

مقالات مشابهة

  • تخريج الدفعة الثانية من برنامج لوجوس للقيادة بحضور البابا تواضروس
  • شارك في القداس.. استمرار استقرار الحالة الصحية لقداسة البابا فرنسيس
  • البابا تواضروس الثاني يشهد تخريج الدفعة الثانية من برنامج لوجوس للقيادة
  • البابا تواضروس الثاني يلتقي محاضري ومدربي L.L.P
  • البابا تواضروس يشهد مناقشة مشاريع تخرج الدفعة الثانية من برنامج لوجوس للقيادة
  • عالم أزهري: أداء الفرائض والاجتهاد في النوافل خلال رمضان فرصة لنيل محبة الله ورعايته
  • عودة: ندعم العهد الجديد وحكومته من أجل إعادة بناء وطننا
  • قداس ذكرى المتنيح الأنبا بيسنتي بإيبارشية حلوان .. صور
  • محمد غنيم يكتب: مع الشيخ محمد رفعت
  • (نص + فيديو) كلمة السيد القائد في استقبال رمضان 1446هـ