تفسير القرآن في مصر الحديثة
تاريخ النشر: 4th, May 2024 GMT
د. هيثم مزاحم*
يُعد المستشرق المجري إناس غولدزيهر (توفي عام 1921) أول مستشرق حاول رصد محاولات التجديد في تفسير القرآن في العصر الحديث، في كتابه "مذاهب التفسير الإسلامي" الذي نشره عام 1913.
أما المحاولة الثانية فكانت للمستشرق الهولندي يوهانس باليون في كتابه "تفسير القرآن في العصر الحديث 1880- 1960"، الذي رصد فيه علاقة القرآن بالأزمنة الحديثة من خلال متابعة أسلوب ومنهج بعض المفسرين في الهند ومصر بخاصة، ومحاولة معرفة مدى تأثير الأبعاد العلمية والعملية والسياسية والاجتماعية الحديثة في نتاجهم.
أما المحاولة الثالثة فكانت على يد الباحث الهولندي يوهانس يانسن الذي خصص أطروحته للدكتوراه لدراسة وتحليل اتجاهات التفسير في مصر الحديثة، ونشرها في كتاب بعنوان "تفسير القرآن في مصر الحديثة" عام 1973 نقله إلى العربية حازم محي الدين ونشرته قبل سنوات "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث".
يقول يانسن إن الكتابين الأكثر أهمية اللذين تناولا التفاسير القرآنية الحديثة هما كتاب جاك جومييه، "تفسير المنار للقرآن"، وكتاب يوهانس باليون، "تفسير القرآن في العصر الحديث". فالأول يدرس بشكل حصري تفسير المنار الذي أسهم فيه الشيخان محمد عبده ومحمد رشيد رضا. وهو يقدم عرضًا موجزًا لكل القضايا الرئيسة التي تطرق إليها هذان المصلحان في تفسيرهما، لكنه رجع إلى عدد آخر من كتب التفسير الحديثة.
أما كتاب باليون، فقد امتاز بدراسة ومناقشة كتب التفسير المكتوبة باللغة الأوردية، فضلًا عن التفاسير المكتوبة بالعربية.
ويرى يانسن أن كلا الكتابين كان لهما هدفان تقريبًا فقد قدّما صورة عن الإسلام الحديث كما يُرى من خلال التفاسير القرآنية الحديثة. وكذلك قدّما للقارىء الغربي فكرة عن هذه التفاسير. وبسبب تركيزهما على الإسلام أكثر من التفاسير بحد ذاتها، فلم يولّيا اهتمامًا كافيًا بالمناهج، التي استخدمها المفسرون المعاصرون.
ويذهب يانسن إلى أن التفاسير الحديثة المكتوبة لجمهور مختلف عن الجمهور الذي تلقى التفاسير الكلاسيكية، لا تزال تقليدية جدًا من حيث المحتوى والشكل. فكتب التفسير التي ظهرت في مصر في العصر الحديث ليست مخصصة لنوع واحد من الاتجاهات، فهي تتضمن آراء تتعلق بلغة وبيان القرآن، وبالجانب العلمي من القرآن، وحول الكيفية التي ينبغي أن يتصرف وفقها المسلمون في هذا العالم.
ويلاحظ الباحث أن الإمام محمد عبده قد مارس تأثيرًا كبيرًا على كل المفسّرين في الجامع الأزهر، ولم يصبح مألوفًا أن نرى المسلمين يؤلفون كتبًا مستقلة حول تاريخ التفسير إلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين. ويعتبر أن الكتاب الوحيد المهم في التراث الإسلامي الذي اهتم بالتأريخ للتفسير هو كتاب السيوطي، "طبقات المفسرين".
يركز يانسن في كتابه على دراسة التفسير العصري. ويدعو القارىء إلى تخيّل مفسّري القرآن في مصر في العصر الحديث وكأنهم يعملون معًا في غرفة مستديرة كبيرة في مكان ما في وسط القاهرة. ويضع في باله أن هؤلاء المفسرين ينظرون إلى القرآن ومقتضيات تفسيره من ثلاث زوايا مختلفة: العلوم الكونية، اللغة والبيان، والشؤون اليومية والعملية للمسلمين في هذا العالم.
يشير الباحث إلى أن هؤلاء المفسرين المصريين يستخدمون مصادر تفسير واحدة، حيث يستخدم الجميع تفسير الطبري (ت 310ه)، وتفسير الزمخشري (ت538ه)، وتفسير ابن كثير (ت774ه)، وتفسير محمد عبده (ت 1905م). ويقتبس كل منهم من هذه المصادر بحرية واسعة، من دون أن يشيروا، في الغالب، إلى أسمائهم في كتبهم. ويستخدمون معاجم لغوية لإبن منظور، والجوهري، والفيروزآبادي، وكتابين من كتب علوم القرآن هما: "أسباب النزول" للواحدي، وكتاب "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي.
وجميع هؤلاء المفسرين يستخدمون النص القرآني نفسه الذي نشرته لجنة مصرية ملكية من الخبراء في عام 1924. وينفرد كل مفسر باستخدام كتب أخرى، ككتب تفسير أو كتب علمية عن الكون، أو كتب في الفقه الإسلامي أو في فقه اللغة والبيان أو في الإسلام السياسي.
وهناك مجموعة منهم تركز على أن العلوم الحديثة لا تتناقض مع القرآن بل يمكن أن نستنبطها منه. وهناك مجموعة منهم تركز على البيان اللغوي والأدبي للقرآن لفهم معانيه كما فهمها الصحابة أيام نزول الوحي.
وكانت مجموعة ثالثة تتخذ من القضايا اليومية والاجتماعية للمسلمين في هذا العالم بؤرة تتجمع حولها جهودهم، حيث يتساءلون عن مدى تأثير القرآن في واقع المسلمين وحياتهم الاجتماعية. ولذلك هم يرون ضرورة نشر رسالة القرآن في المجتمع المصري من خلال الخطب والدروس في المساجد والصحافة.
ويلاحظ يانسن أن المفسرين المصريين لا يكتفون باقتباس أفكار بعضهم بعضًا فحسب، بل إن الأمر قد يصل أحيانًا إلى وجود صفحات كاملة متطابقة في كتبهم.
وقد شهدت مصر في ثلاثينيات القرن العشرين جدلًا حول جواز ترجمة القرآن حيث عارض بعض العلماء مشروع ترجمته، بينما قام العلماء في مصر بتحمل أعباء مقاومة مشروع ترجمة القرآن بعد أن تمكن النظام التركي بقيادة أتاتورك من التغلب على مقاومة إسلاميي تركيا لهذا المشروع.
وقد اتخذ رشيد رضا موقفًا متشددًا في الجدل فرفض أي شيء من شأنه أن يؤدي إلى إضعاف الوحدة الإسلامية، مثل إلغاء الخلافة، أو ترجمة القرآن إلى إحدى اللغات التي يتكلم بها المسلمون، كي لا يؤدي ذلك إلى تمزيق شمل المسلمين، باعتبار أن العربية هي اللغة الحقيقية الوحيدة في العالم الإسلامي، في نظره. ووصل النقاش حول ترجمة القرآن إلى نهاية منطقية عبّر عنها شيخ الأزهر، الشيخ محمود شلتوت (توفي 1963) حيث رأى أن ترجمة القرآن ضرب من ضروب تفسيره، وعليه لا يمكن أن يوجد أي مانع منها. وقد أجاز للمسلم غير العربي الذي لا يحسن العربية أن يستخدم القرآن المترجم في صلواته.
نتيجة اختلاف لغة القرآن المستخدمة في القرن السابع الميلادي، نسبيًا عن اللغة الفصحى المستعملة في مصر في العصر الحديث، أدى ذلك إلى ظهور تفاسير سعت إلى إعادة صياغة لغة القرآن باللغة العربية الحديثة، بحيث يمكن عدّها أشبه بالترجمة له. ولعل أهم هذه التفاسير كتاب "المنتخب في تفسير القرآن" الذي أصدرته لجنة حكومية مصرية هي المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
لم يحاول جميع المفسرين المصريين الذين بدأوا عملهم التفسيري بعد عام 1900 تصنيف تفاسير كاملة، وهو أمر مثير للاستغراب، لأن جميع التفاسير الكلاسيكية أنذاك كانت تفاسير كاملة، تُفسّر القرآن كلمة كلمة من أول سورة إلى آخر سورة، وتراعي الترتيب القرآني في تفسيرها. ووصل عدد التفاسير الحديثة الكاملة والمسلسلة إلى أكثر من 20 تفسيرًا بين عامي 1934 و1969.
ونجد عددًا لا يحصى من كتب التفسير الأقل حجمًا التي تتناول بالتفسير سورة واحدة أو مجموعة من السور. ويعدّ يانسن كتب التفسير التي كتبتها عائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطئ أكثر هذه الكتب أهمية. وهو يرى أن من المستحيل ومن غير الضروري وضع حد فاصل ودقيق بين التفاسير الموضوعية للقرآن والكتب التي تتناول القرآن أو الإسلام، وكذلك بين التفاسير الموضوعية والتفاسير الكلاسيكية. ولعل أشهر كتاب يمثّل الصيغة الوسيطة بين هذه القوالب التفسيرية هو كتاب "تفسير الأجزاء العشرة الأولى" للشيخ محمود شلتوت. فهو لم يتبع في تفسيره نص القرآن كلمة كلمة، ولكنه كتب بشكل موسّع حول المفاهيم المركزية في السور التي فسّرها.
وقد وصل في تحليله المقتضب هذا إلى النتيجة التالية: إنَّ معظم التفاسير التي ظهرت في مصر في العصر الحديث هي تفاسير تقليدية، وقد استدل على هذه النتيجة التي وصل إليها بالمحتوى التراثي لكل هذه التفاسير المعاصرة، حيث اكتفت هذه التفاسير بتغيير عناوينها فقط، في حين حافظت بشكل كامل تقريبًا على الإرث التفسيري السابق، وبشكل خاص تفسيرا الزمخشري والجلالين، من دون أية إضافة تجديدية معتبرة.
ويرى يانسن أن التجديدات الحقيقية في التفاسير المصرية نجدها فقط في مؤلفات محمد عبده وأمين الخولي. ويتناول جهود عبده في التفسير، باعتباره الشخصية العلمية الأكثر تجديدًا، وتأثيرًا في مجمل حركة التفسير في مصر الحديثة. فالتفسير قبله كان في معظمه "عملًا علميًا صرفًا يكتبه علماء لكي يقوم بقراءته علماء آخرون. وكان فهم كتاب في التفسير يتطلب معرفة مفصّلة بتقنيات ومصطلحات قواعد اللغة العربية، والفقه الإسلامي، والعقائد، والأحاديث النبوية، وآثار الصحابة، والسيرة النبوية".
يقول عبده: "إن الله تعالى لا يسألنا يوم القيامة عن أقوال الناس (أقوال المفسّرين)، وما فهموه (من القرآن)، وإنما يسألنا عن كتابه الذي أنزله لإرشادنا وهدايتنا". وقد قصد عبده أن يفسّر القرآن بطريقة عملية لجمهور عام دائرته أوسع من دائرة طلبة وأستاذة العلوم الدينية وبطريقة خالية من التعقيد العلمي. وهكذا، حاول دفع قرائه إلى إدراك محدودية أهمية التفاسير التراثية، لأنها لا تسهم في تقديم الحلول لمشاكل العصر وحاجاته. وقد سعى عبده إلى أن يقنع قراءه بأنه يجب عليهم أن يتركوا القرآن يتحدث عن نفسه، بعيدًا عن كل ما من شأنه أن يكون حجابًا على القرآن من الشروح والتعليقات البالغة التعقيد.
لم تلقَ جهود عبده وتلميذه رشيد رضا في التفسير نجاحًا سريعًا، لكنها لقيت، في نهاية المطاف، نجاحًا كبيرًا وقد تم اقتباسها والاستشهاد بها كثيرًا من قبل المفسرين اللاحقين له.
ويختلف تفسير المنار، كما نشره تلميذه رشيد رضا، من بعض النواحي، عن التفسير الذي ألقاه عبده أول مرة في دروسه في الجامع الأزهر. فقد كان رضا يحضر هذه الدروس ويقوم بتدوين كل ما يسمعه من عبده، ثم يقوم بإدخال كثير من الإضافات عليها، ثم يعرضها على عبده، فيقرّ منها ويصحح ما يستحق التصحيح. هذا التفسير في قسمه الأول من الفاتحة إلى الآية 125 من سورة النساء كان ثمرة هذا التعاون بين عبده ورضا. أما بعد وفاة عبده، فقد أكمل رضا التفسير من الآية 125 من سورة النساء إلى الآية 107 من سورة يوسف.
وهكذا يقع تفسير المنار في اثني عشر مجلدًا، كل واحد منها يحتوي على تفسير جزء كامل من القرآن الكريم، أي على الأجزاء الـ12 الأولى من القرآن فقط.
*رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في بيروت
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
العوالم المتوازية بين الخيال العلمي ونظريات الفيزياء الحديثة
يأتي مصطلح «العوالم المتوازية» مشكلا أحد أكثر التصوّرات إثارةً للجدل العلمي؛ فمحاولتنا في فهم وجود واقعٍ آخر موازٍ لواقعنا يحتمل أن تحكمه نفس القوانين الفيزيائية أو تختلف عنها اختلافًا جذريًا، سيثير فضولَ الإنسان ويقدح شرارته الفلسفيّة والمعرفيّة، وهذا ما يتمثّل في جدلية ما يُعرف بـ«العوالم المتوازية» التي تجاوزت سردية الخيال العلمي لتكون من ضمن السردية العلمية؛ فمع تزايد التطوّرات العلمية والنظريات الحديثة، بدأت هذه الفكرة تخرج من حيّزها الأسطوري وسرديتها الأدبية العلميّة التخيّلية لتدخل حيّز النقاش الأكاديمي وجدله المستند إلى الرياضيات والفيزياء المتقدّمة. في هذا المقال، سنحاول الاقتراب من مفهوم العوالم المتوازية من جوانب عدّة: أولًا، سنمر على جذور هذه الفكرة في الخيال العلمي والفلسفي، وثانيًا، سنستعرض أهم النظريات التي طُرحت في الفيزياء الحديثة لتفسير إمكانية وجود عوالم موازية؛ وأخيرًا سنناقش آلية التوفيق بين ما يُثار في الأوساط العلمية وبين الأسئلة الوجودية والفلسفية التي تنبع من هذا التصوّر، وتحديات البحث العلمي المستقبلية.
السردية التاريخية والفلسفية لمفهوم العوالم المتوازية
شغلت فكرةُ الوجود المتعدد الذهنَ الإنساني منذ القدم؛ فتداولت الحضارات الشرقية القديمة أفكارا بشأن مستوياتٍ متعددة للوجود، بعضُها مرئيٌّ وبعضُها خفيٌّ -ميتافيزيقي. كذلك تصوّر الفلاسفة الإغريق، مثل أفلاطون وأرسطو فرضيات مختلفة بشأن «عوالم المُثُل» أو انفصال العالَم المحسوس عن عالم الماهيات والمُثل، وإنْ لم يكن أمثال هؤلاء يتحدثون حرفيًّا عن عوالمٍ موازية بالمفهوم الفيزيائي الحديث، إلا أنّ تأملاتهم المتعلقة بتعدديّة المستويات الوجودية وماهية الحقيقة شكّلت البِنية الأولى لمناقشاتٍ لاحقة في الفلسفة والعلوم.
مع بزوغ العصور الوسطى، انبثقت أفكارٌ ميتافيزيقية تُشير إلى تعددية الأبعاد والوجود، وفي بعض المفاهيم الصوفية والمعتقدات الروحية وتأويلاتها ثمّة عوالم أخرى موازية لعالمنا، ولكنّها عوالم غيبية، وأدخلت مثلُ هذه الأفكار -مع فقدانها للطابع العلمي- إلى الإنسان مفاهيم أوّليّة عن إمكانية وجود ماهيات أخرى للوجود وأبعاده سواءٌ كانت مادية أم روحانية. لكن بدأ التحول الجذري مع عصر النهضة العلميّة وتطوّر المنهج التجريبي.
فمع بروز نظريات الفلك والفيزياء، بدأ العلماء بتجاوز حدود التصوّرات التقليدية للعالم مثل مركزية الأرض؛ فأضحى الإنسان ينظر إلى الكون باعتباره فضاءً شاسعًا يحوي مليارات المجرّات، ورغم ذلك، ظلت فكرة العوالم المتعددة بعيدةً عن الزاوية العلميّة الصارمة لفترةٍ طويلة؛ واقتصرت سرديتها على الأدب الخيالي أو الفلسفة المثالية.
الخيال العلمي وصياغة المفاهيم المبكّرة للعوالم المتوازية
مع بدايات القرن العشرين، بدأت لدى كتّاب الخيال العلمي ملامح توظيف مفهوم «العوالم المتوازية» باعتباره عنصرًا مهما في أدب الخيال العلمي؛ فتصوّر كتّابٌ مثل «إتش. جي. ويلز» (H.G. Wells) و«إسحاق أسيموف» (Isaac Asimov)عوالمَ موازية يوصل إليها عبر ثقبٍ دوديّ (Wormhole) أو تغيّرٍ في النسيج الزمكاني. في تلك الفترة الزمنية. كانت تعتبر مثل هذه الأفكار محض تخمينات أدبيّة مشوّقةٍ لجذب القارئ، دون أن تستند إلى أيّ أساسٍ علمي فيزيائيّ أو تجريبيّ. مع تطوّر الخيال العلمي ونسيجه الكتابي تحديدا مع منتصف القرن العشرين الذي يعدّ حقبة زاوجت بين المعرفة العلميّة المتاحة والاستشرافات المستقبلية؛ فطفت على الساحة تأملاتٌ كثيرة في مفهوم الأكوان المتعددة أو العوالم المتوازية؛ فنلمح ترسيخا لأعمالٍ أدبية شهيرة أسست لأفكار علمية عميقة تفترض حدوث أحداثٍ وجودية يمكن أن تحدث بالتوازي في «خطوطٍ زمنيّةٍ» متعددة، وبقدر ما ساعد هذا الخيال العلمي على عبور مثل هذه الأفكار بين القرّاء؛ فإنّه أيضا مهّد الأرضية لنقل النقاش إلى أروقة البحث العلمي ومختبراته، خصوصًا مع تطوّر نظريات الفيزياء الحديثة مثل ميكانيكا الكوانتم والنظرية النسبية العامة.
النشأة العلمية للعوالم المتوازية
مع منتصف القرن العشرين، برزت تطوّراتٌ كبيرة في الفيزياء غيّرت نظرتنا إلى مفاهيم الزمن والمكان والجسيمات تحت الذرية، ويمكن أن نتأمل أهم ثلاث نظريات أو انبثاقات علمية في الفيزياء الحديثة تقترح إمكانيّة وجود عوالم موازية:
1.ميكانيكا الكوانتم وعلاقتها بفكرة العوالم المتوازية:
يتبنّى الفيزيائي «هيو إيفريت الثالث» (Hugh Everett III) عام 1957 تفسيرًا لميكانيكا الكوانتم يُشير إلى أن كل احتمالٍ كوانتمي يمكن أن يتحقّق في «عالمٍ» أو «فرع» مختلف من الكون. يأتي مثل هذا التفسير ليتجاوز إحدى أهم المشكلات الفيزيائية في عالم الكوانتم «انهيار دالة الموجة» (Wave Function Collapse)؛ فوفقَ منطلق «إيفريت» لا يحدث انهيار للدالة الموجية، ولكن يتشعّب الكون في كل مرةٍ لتجسيد كل احتمالٍ كوانتمي، ويفترض هذا التفسير وجود عددٍ لا نهائي من الأكوان يتفرع باستمرار؛ حيثُ توجد في كل منها نسخةٌ منا تقوم بخياراتٍ مختلفة. رغم ما يمكن لهذا التفسير أن يثيره من جدل، لكنه بمنزلة الشرارة العلمية الأولى للعوالم المتوازية؛ ليعاد طرحها بموضوعية علمية بواسطة كبار الفيزيائيين أمثال «جون ويلر» (John Wheeler) و«برايس ديويت» (Bryce DeWitt).
2. نظرية الأكوان التضخمية المتعدّدة:
قدّم الفيزيائيّ «آلان غوث» (Alan Guth) في أوائل الثمانينيات نظرية «التضخم الكوني» (Inflation Theory)؛ لتحدث ثورة جديدة في علم الكون الحديث، وتتلخص النظرية في مفهوم يُشير إلى حدوث توسع هائل للكون في لحظةٍ مبكّرة من زمن تشكّله، وافترضت المستجدات العلمية التي تعلقت بالنظرية -في وقت لاحق- بأنّ هذا التضخم ليس حالةً مؤقتة، ولكن توسّعه مستمر؛ فينشأ عن كلّ «فقّاعة تضخّم» كونٌ منفصلٌ بقوانينه ومتغيراته الفيزيائية الخاصة. وفقَ هذا الافتراض، يكون «المتعدد الكوني» (Multiverse) أشبه برغوة كونيّة تتولّد فيها أكوانٌ بشكل مستمر، وأن بعضها يحتمل أن يشبه كوننا الذي نعيش عليه، وبعضها يختلف جذريًّا، ورغم أنّ هذا الطرح لا يزال في حيّز الجدل العلمي، لكنه يحظى بدعم بعض النماذج الرياضية، مثل نموذج «التضخّم الأبدي» (Eternal Inflation).
3. نظرية الأوتار الفائقة والأبعاد الإضافيّة:
تهدف نظريّة الأوتار الفائقة إلى توحيد قوى الكون الطبيعية الرئيسة: (الجاذبية، والكهرومغناطيسية، والقوى النووية) في إطارٍ رياضي واحد، ولهذا يراها بعضُ العلماء بأنها من النظريات العلمية المؤهلة في توحيد النظريات الكونية في نظرية واحدة تعرف بـ«نظرية كل شيء». تقترح النظرية أنّ الجسيمات الأساسيّة ليست نقاطًا بل أوتارًا متناهية الصغر تهتزّ بترددات مختلفة، وتستدعي هذه النظرية ضرورة وجود أبعادٍ إضافيّة تتجاوز الأبعاد الأربعة (ثلاثة للمكان وواحد للزمن) الشائعة في الفيزياء الكلاسيكيّة، ولهذا من الممكن أن يصل عدد الأبعاد في بعض نماذج نظرية الأوتار إلى عشرة أو أحد عشر بُعدًا، وفي بعض صيغ هذه النظرية، تُطرَح احتماليّة تفرّع عوالم أو أكوان موازية موجودة في هذه الأبعاد الإضافية، ولا يمكن رصدها مباشرةً بسبب محدوديّة حواسّنا وأدواتنا الحالية، ورغم بقاء نظريّة الأوتار في حيّز الدراسات النظريّة دون تأكيدٍ تجريبيّ حاسم، لكنها تطرح تساؤلات مشروعة عن وجود واقعٍ أعمّ وأشمل من النمط التقليديّ.
الأدلة الرصدية والاختبارات التجريبيّة
بجانب ما تحويه فرضية العوالم المتوازية من دهشة جاذبة، يتوّلد سؤال صعب مفاده: ما مدى قدرة العلم على برهنة وجود العوالم المتوازية بصورةٍ تجريبية تقطع الشك باليقين؟ ولنجيب على هذا السؤال علينا أن نفطن إلى حقيقة مفادها أنّ كثيرًا من نماذج الأكوان المتعددة -حال افترضنا وجودها- يصعب اختبارها مباشرةً؛ لانفصالنا عنها بشكلٍ يجعل رصدها مستحيلًا بالتقنيات الحالية رغم ما تشير إليه بعض الدلائل غير المباشرة إلى أنّ الكون الذي نعرفه يحتمل ألا يكون وحيدًا، ومن هذه الاستدلالات:
• قياسات إشعاع الخلفيّة الكونيّة الميكرويّة: رصد العلماء عبر استعمال القمر الصناعي بلانك (Planck Satellite) وWMAP تبايناتٍ دقيقةً في إشعاع الخلفيّة الكونيّة؛ فثمّة نماذج نظريّة تفسّر بعض خصائص هذه التباينات على أنّها آثار تصادمات أو تداخلات محتملة بين كوننا وفقاعاتٍ أخرى في المتعدد الكوني.
• البحث عن تسريبات الجسيمات أو الطاقة: في حال وجود أبعادٍ أخرى؛ فمن الممكن ظهور مؤشرات في مصادم الهادرونات الكبير (LHC “Large Hadron Collider”) عبر رصد اختفاء طاقةٍ أو جسيماتٍ بطريقةٍ لا يمكن تفسيرها بالفيزياء وأدواتها الحالية، وهذا ما يشي بتسرّبها إلى عوالم متوازية، ولكن حتى زمننا الحاضر لم تُرصد إشاراتٌ تؤكد مثل هذا التسريب.
• الدراسات الرياضية الخاصة بالثوابت الكونية: تلمح بعضُ الحسابات الرياضية إلى حال حدوث اختلافات بسيطة في ثوابتنا الفيزيائية مثل: كتلة الإلكترون وشحنة البروتون لما أمكن تشكّل الحياة أو المجرّات؛ ليطرق باب نظرية «الضبط الدقيق» (Fine Tuning)، والتي يمكن أن تُدعم بفرضية الأكوان المتعدّدة؛ حيث تتغيّر القيم في كلّ كون، ونحن حينها في أحد الأكوان القابلة لدعم الحياة.
تظل مثل هذه الاستدلالات في محل ظنٍ لا يمكن أن يُبنى عليها دليلٌ علميٌ قاطع.
الإشكاليات الفلسفية والمعرفية
حال ثبوت وجود العوالم المتوازية؛ فإنها لن تعتبر امتدادا جغرافيا أو مكانا إضافيًّا، ولكنها تحمل تبعاتٍ وجودية ومعرفية عميقة؛ فتطرح إشكاليةً تتعلق بمفهوم الحقيقة: أنأخذ الحقيقة بصفتها النسبية أم المطلقة؟ وهل الحقيقة سلسلةٌ من حقائق متزامنة نتلقّى منها حزمات منتقاة محدودة؟ كذلك يمتد التساؤل عن الهُويّة الشخصيّة والذات الإنسانيّة؛ فإذا كانت هناك نسخٌ أخرى من كلٍّ منّا في أكوانٍ مختلفة؛ فكيف نحدد مفهوم الأنا ووحدتها والأنا الآخر؟ وهل يكون للقرارات إرادة حرة سواء بنسبية أو بشكل مطلق حال افتراض كلّ احتمالٍ يتحقّق في فرعٍ منفصل من هذه الأكوان؟
وفقَ المنظور المعرفيّ (الأبستمولوجيا)، تنطلق تساؤلات كثيرة تتعلق بوجود عوالم متوازية خصوصا فيما يتعلق بقدرة العلم على الإحاطة بالواقع كلّه، وإمكانية التحقّق التجريبيّ؛ فتُحصر بعض الفرضيات العلمية في دائرة «اللامفند» (Non-Falsifiable)، لتظلّ خارج نطاق الدليل أو الدحض؛ فتتحوّل إلى قضايا أقرب للطرح الميتافيزيقي منها إلى العلم التجريبي. لكن لا يمكن أن نغفل عبر تاريخ العلم أن أفكارا ولدت بصورة غير قابلة للتحقق والوجود؛ لتصبح بعد فترة زمنية واقعا علميا نتيجة تطور أدوات العلم القادرة على تجاوز الحاجز التجريبي للفكرة، ولنا -مثلا وليس حصرا- في نظرية النسبية والكوانتم مثالا على ذلك.
منظور بعض كبار علماء الفيزياء
شهدت العقود الأخيرة جهودًا بحثيّة موسّعة، يشارك فيها باحثون معروفون مثل «ماكس تيغمارك» (Max Tegmark) الذي قدّم تصنيفًا لأنواعٍ مختلفة من الأكوان المتعدّدة (من المستوى الأوّل حتى المستوى الرابع)؛ فيفترض «تيغمارك» أنّ ما نعتبره «قوانين رياضيّة» يمكن أن يكون وصفًا دقيقًا لكل نماذج الواقع؛ ليسوق الذهن إلى فكرة أن الكون ليس إلا بنيةً رياضيةً دقيقة، ويقترح الفيزيائي «شون كارول» (Sean Carroll) في دراساته إمكانية تفاعل التفسيرات المختلفة لميكانيكا الكوانتم؛ فيتصور فرضية العوالم المتعددة باعتبارها حلا معقولا لألغازٍ عدة في فيزياء الكوانتم. في المقابل، ثمّة أصواتٌ فيزيائية كبيرة تحذّر من مخاطر ما يمكن أن نسميه بـ«الهروب المفرط» نحو نماذج العوالم المتعددة، في ظل عدم امتلاكنا أدوات تجريبية رصينة؛ فيلتزم هؤلاء بالحفاظ على المنهج العلمي الصارم الذي يجعل أيّ فرضيةٍ عُرضةً للتفنيد أو التصحيح عبر التجربة والرصد، وألا تتحوّل الأفكار الفيزيائية الطموحة إلى نوعٍ من «الميتافيزيقا» المتستّرة بالمظهر العلمي «الزائف».
تحدّيات البحث العلمي مستقبلا
رغم عدم تحقق الإجماع الكافي بين علماء الفيزياء بشأن صحة وجود عوالم متوازية، لكن يظهر الإجماع النسبي في أنّ النماذج الرياضيّة والنظريّات الحديثة تدفع نحو معقولية هذه الفرضية بجدّية متصاعدة، ويكمن التحدّي الأكبر في استحداث طرق جديدة للتجربة والقياس يمكن أن تسمح برصد أدلّة مباشرة أو غير مباشرة؛ إذ يحتمل أن يأتي الدليل العلمي من معالجةٍ ذكيّة للبيانات الكونيّة أو من ظواهر الكوانتم حين تجتمع مع فيزياء الجاذبية في «الجاذبية الكوانتمية» التي أيضا لا تزال لغزًا غير واضح المعالم.
لكن في ظل التقدّم العلمي المتسارع خصوصا في عالم الثورة الرقمية الذكية؛ فإننا نرى مستقبلا واعدا يبشّر بحل هذه الألغاز نفيا أو تأكيدا؛ حيث يمكن للحواسيب فائقة السرعة والقدرة محاكاة ظواهر كوانتمية معقّدة التي تتضمّن تشعّبات العوالم بطريقةٍ رياضيّة، وكذلك توجد محاولات مختبرية حثيثة لرصد موجات الجاذبية (Gravitational Waves) الناجمة عن أحداثٍ كونيّة فائقة الطاقة (مثل اندماج الثقوب السوداء والنجوم النيوترونيّة)؛ فيحتمل أن تسهم دراسات التشوّهات الضئيلة في هذه الموجات إلى فهمٍ أفضل لبنية الزمكان وأبعاده التي يمكن أن تفتح لنا نافذة علميّة لمفهوم العوالم المتوازية.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني