د. صالح الفهدي
في موقفٍ أُعْجِب به من حَضَر، وأشادُوا بفكرته، حَضَر مديرُ مدرسة بلال بن رباح بولاية سمائل للمُشاركة في مناسبة عزاء، وبمعيته مجموعة من الطلبة اختارهم ليمثلوا زملاءَهم يتقدَّمهم أحدُ مُعلميهم، وكما أثار هذا الموقف إعجاب وإشادة من حَضَر، فإنه أثار إعجابي أيضًا فلم أشَأ أن أعامله كأيِّ خبر يُسمع فيُنسى، ويُذكر فيتَلاشَى، وإنما أردتُ أن أتوقَّف عنده مُثنيًا، ومُؤكِّدا على مضامينه التربوية القِيَمِيَّة التي سيكون لها أثر في شخصيات الطلبة في مستقبل أعمارهم وأيامهم، بل وعلى المجتمع أجمع.
لقد سَبقتْ التربيةُ التعليمَ؛ فالتربية قاعدة، والتعليم بناءٌ قائمٌ عليها؛ إذ لا بناء بلا قاعدة، وبهذا تؤسس التربية التعليم بأساس رصين من القيم والمثل والمبادئ التي تتعهَّد ببناء شخصية سديدة القرار، وجيهة المبادئ، علية الأهداف، ثم يأتي التعليم فيفتح للشخصية أبوابَ الطموحات، ويوجِّهها لأفضل الخيارات، ويُعينها على أنسب القرارات، وبهذا تكتملُ عناصر الشخصية الإنسانية بين تربية مكينة، وتعليم رفيع.
والتربية أعظم ما تكون بالقدوة؛ لأنَّ الإنسان يتعلم أعظم ما يتعلم بأنموذج حي، يماثله في جنسه البشري، ويُشاكِلُه في طبيعته الآدمية، لهذا قال الله سبحانه وتعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" (الأحزاب:21)؛ فتأثيرُ القدوة على المُقتَدِي تأثيرٌ فاعلٌ؛ لأنه يتمثل السلوكيات والأقوال كما يراها تتجسد في شخصية المُقتدَى به، فيكون السلوك أعمق أثرًا، وأجلى رسمًا، ولكل واحد منا قدوة في جوانب متعددة، تُشكِّل بالنسبة له نورا يستضيء به عند سيره، كما تستهدي السُّفن في البحر بالمنارات التي ترشدها في إبحارها، وبحسب ما تكون هذه القدوة يكون مسارها، وتكون عواقبه.
لقد كان فِعْلُ مدير المدرسة نابعا من إيمانه بالتربية على أثر القدوة، وعلى عظيم القيم المحصلة منها، فوضع نفسه موضع الأب عند أبنائه، وهو كذلك؛ فالمعلم أب ثانٍ للطلبة؛ فهم في عُهْدَة ما يُربِّيهم عليه من قيم، فحمَّلته الأمانة أن يُربيهم على القيم الاجتماعية السامية التي هي جوهر الهُوية العُمانية.
وحفاظًا على صيانة الهُوية الوطنيَّة وتماسكها، فقد عرف المجتمع العماني بأنه مُربٍّ؛ أي أن كل فرد ناضج راشد فيه يربي أبناء المجتمع، وهكذا كانت نظرة مدير المدرسة الذي لم يقصر واجبه على أسوار المدرسة ومحيطها الداخلي، فيستكفي بذلك الواجب الذي يقوم به في مساحة محددة من الأرض، ولا هو اكتفى أن يذهب للتعزية بنفسه، فيُعْزَى إليه وحده الواجب، إنما أراد أن يمتد هذا الواجب من المحيط التعليمي النظري إلى الفضاء الاجتماعي التطبيقي. أراد أن يفعل القيم المضمنة في الكتب نثرًا وشعرًا في الواقع بما فيه من واجبات، ومجاملات، وأخلاقيات. أراد أن يغرس في نفوس طلبته أنهم رُسُل المجتمع يحملون على عواتقهم القيم التي ورثوها عن آبائهم، والعادات التي تعوَّدوا عليها في مجتمعهم، والمبادئ التي ترعرعوا عليها. أراد أن يعلمهم بأنهم جزء من المجتمع يفرحوا لفرحه، ويأسوا لأساه. أراد أن يقول لهم مقالة ضمنية "أنتم مُرتبطون بمجتمعكم مصيرًا ووجودًا". أراد أن يعزِّز قيم طلبته بتقدير الواجب الإنساني، والإحساس بالمسؤولية نحو الترابط والتكافل والتعاضد الاجتماعي. أراد أن يوطِّد فيهم الثقة بالنفس وأنهم وإن كانوا صغارًا في أعمارهم فهم كبار في شعورهم بأمانة الواجب الإنساني تجاه مجتمعهم.
لقد كان هذا الموقف من المدير مَدْعَاة للثناء والإشادة من الحضور؛ ذلك لأنهم رأوا تطبيقا فعليا لدور المدرسة في المجتمع، وترجمة للتعليم على أرضية الواقع، وتمثلا لدور المعلم المربي خارج أسوار المدرسة، علاوة على أنهم -أي الحضور- قد سعدُوا واطمئنوا وهم يرون الجيل القادم في أبهى منظر، وأروع هيبة، يقتفون أثر القدوات الفاضلة في المجتمع في زمن يُرَاد للقدوات أن تُهمَّش وتتلاشى.
إنَّ العلم لا يكتمل دون أخلاق، والأخلاق مَيْدانُها المجتمع حتى تُجلَى صفحتها، وتَبِيْن ملامحها، ويُدرك أثرها، يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم:
والعلم إن لم تكتنفه شمائل
تُعليه كان مَطيَّة الإخفاق
لا تَحْسَبنَّ العلمَ ينفعُ وحده
ما لم يُتوَّج ربُّه بخلاق
... إنَّ ما فعله مدير المدرسة باصطحابه ثُلَّة من طلبته لأداء واجب العزاء، لا شك أنه أنموذج يُحتذى، بل ويتعدَّى نطاقه، ليكون كل فرد راشد غيور على مجتمعه صاحبَ مُبادرة، ونُصح، وتَوجيه فيه، من أجل أن يَسْتَعِيد المجتمع الدور التربوي الذي كان يقوم به في ماضيه.
إنَّنا اليوم بحاجة ماسة للتربية بالقدوات؛ لهذا فإنَّ أعظم نُصْحِي للمربين من الوالدين -إنْ كانوا من أهل الرُّشد والصلاح- أن يكونوا قدوات فاضلة لأبنائهم حتى يتأسوا بهم، ويسيروا على منهج سيرهم، يقول أحد الأبناء: "نشأت وأنا أقتدي بوالديْ، وأشهد بأم عيني ما يحصدانه من مكاسب معنوية بسبب قيمهما السامية، ومبادئهما الركينة، وبهذا فإنني لا أحتاج إلى كبير جهد، وطويل نظر، من أجل انتقاء طريقي الأنسب؛ فقد رأيتُ المنهجَ والنتيجة متمثلا في قُدواتي، فإنْ اقتديت بهما فإنني سأصل إلى الواقع الذي يعيشانه من رضا وسعادة وإنجاز".
هكذا نحتاج إلى القدوة في الوالدين، والمُعلِّمين، والعلماء، والمثقفين، والمصلحين الاجتماعيين، والموجهين الاجتماعيين، والخطباء، والرُّشداء، وأعيان المجتمع، وكل فرد فيه، حتى نصون هُويتنا الوطنية التي عمادها القيم المتوارثة، من الأفكار التي تتغولها، والدخائل التي تتقصَّدها.
تحيَّة لمدير المدرسة الأنموذج الجميل للمُربِّي الفاضل، والمعلم المحسن، وتحية للصديق الغيور، والشيخ الناصح الذي تذكَّرني في تلك المناسبة، فنقل إليَّ الموقف، وهو موقف -بلا شك- يحتاج تمجيدًا وتخليدًا.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
إفطارهم فى الجنة.. محمد جبر شهيد الواجب الذى لم يرحل
في قلب كرداسة، هناك شوارع لا تزال تحمل صدى ذكريات الشهيد محمد جبر، مأمور القسم الذي دفع حياته ثمناً لأداء واجبه، لم يكن مجرد ضابط شرطة، بل كان رجلاً من لحم ودم، حمل على كاهله أمانة الوطن وراحته، هكذا يصفه كل من عايشه، هكذا تتذكره أسرته، وكأن روحه لا تزال تُرفرف في كل زاوية من هذا المكان الذي شهد آخر لحظاته.
محمد جبر، ذلك الرجل الذي رسم صورة للمثابرة، كان دائمًا ما يردد بين زملائه: "كلنا في خدمة الوطن، وإذا كان هناك من يتوقع أنني سأخاف، فهو لا يعرفني". كان شامخًا، رغم كل التحديات، يتحمل مسؤولياته بكل شجاعة وهدوء، لم يكن يهاب الصعاب، بل كان يقف دائمًا في الصف الأول ليحمي وطنه وأهله، تمامًا كما تعلم في كلية الشرطة، أن أسمى رسالة هي حماية المجتمع بكل ما يملك.
كان يومًا عاديًا، لم تتوقع أسرة الشهيد محمد جبر أنه سيكون آخر يوم في حياة ابنهم، لكن عندما جاء الصباح، جاء معه خبر الفاجعة، استشهد محمد جبر أثناء دفاعه عن مركز شرطة كرداسة، تلك المنطقة التي شهدت تطورات أمنية خطيرة. وعندما انتقل إلى جوار ربه، كانت الدموع في عيون الجميع، ولكن بقيت هناك ابتسامة حزينة على وجهه، ابتسامة تطمئنهم أنه كان قد أتم مهمته على أكمل وجه. "لم يكن يُخشى عليه، فقد كان البطل الذي يعرف كيف يحمي وطنه بروح عالية".
قالت أسرته في تصريحات سابقة لليوم السابع، بصوت يكاد يخبئه الحزن: "كان محمد هو الحلم الذي لم يكتمل، كان أبًا يُحيي الأمل في قلوب أولاده، وكان زوجًا يعكس أسمى معاني الوفاء. والآن، كلما نظرت إلى أبنائنا، أرى فيهما ملامحه وابتسامته التي لا تموت". لا تستطيع أن تمسك دموعها، لكن في قلبها تنبض مشاعر الفخر بما قدمه زوجها من تضحيات.
لا تكاد الذاكرة البصرية تخلو من صورة محمد جبر، التي تملأ غرفته في منزله ،صورة تعكس شجاعة وقوة رجل لا يعرف الخوف، فقد كانت الخدمة في شرطة كرداسة، في تلك الأيام العصيبة، رحلة محفوفة بالمخاطر. "هو في قلوبنا لا يموت"، هكذا يقول محبيه وهم يعانقون صوره، كانت الكلمات تتردد في حديثهم "محمد لم يكن مجرد اسم، بل كان عنوانًا للشجاعة والصدق، ومع كل فجر جديد، نقول له: أنت في القلب دائمًا".
وبينما يمر الوقت وتظل حكايات الأبطال تتوارث من جيل إلى جيل، يبقى الشهيد محمد جبر رمزًا للصمود والشجاعة. لم يكن مجرد ضابط شرطة، بل كان رمزًا للمسؤولية وحب الوطن. يبقى اسمه في قلب كل من يعرفه، وسيظل ضوءًا يضيء سماء كرداسة وكل مصر، يذكرنا بأن العطاء لا يُقاس بمدة، بل بنبل الهدف والشرف الذي خلفه.
في كل زقاق، وفي كل شارع، تحيا ذكرى محمد جبر، وتبقى قصته شاهدة على أن الشهداء لا يموتون، بل يتجددون في قلوبنا، ويتسابقون مع الزمن ليجعلونا نرفع رؤوسنا بكل فخر.
في قلب هذا الوطن الذي لا ينسى أبنائه، يظل شهداء الشرطة رمزًا للتضحية والفداء، ويختصرون في أرواحهم أسمى معاني البذل والإيثار، رغم غيابهم عن أحضان أسرهم في شهر رمضان، يبقى عطاؤهم حاضرًا في قلوب المصريين، فالوطن لا ينسى من بذل روحه في سبيل أمنه واستقراره.
هم الذين أفنوا حياتهم في حماية الشعب، وسطروا بدمائهم صفحات من الشجاعة والإصرار على مواجهة الإرهاب، هم الذين لم يترددوا لحظة في الوقوف أمام كل من يهدد وطنهم، وواجهوا الموت بابتسامة، مع العلم أن حياتهم ليست سوى جزء صغير من معركة أكبر ضد الظلام.
في رمضان، حين يلتف الجميع حول موائد الإفطار في دفء الأسرة، كان شهداء الشرطة يجلسون في مكان أسمى، مكان لا تدركه أعيننا، ولكنه مكان لا يعادل في قيمته كل الدنيا؛ فإفطارهم اليوم سيكون مع النبين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
مع غيابهم عن المائدة الرمضانية في بيوتهم، يظل الشعب المصري يذكرهم في صلواته ودعواته، تظل أسماؤهم محفورة في ذاكرة الوطن، وتظل أرواحهم تسكن بيننا، تعطينا الأمل والقوة لنستمر في مواجهة التحديات.
إن الشهداء هم الذين حفظوا لنا الأمان في عز الشدائد، وهم الذين سيظلون نجومًا مضيئة في سماء وطننا، فلهم منا الدعاء في كل لحظة، وأن يظل الوطن في حفظ الله وأمانه.
مشاركة