بينما أتطلع لأحد المنشورات الذي يستعرض أيام الأعياد والاحتفالات في أراضي مصر البهية المليئة بالمبهجات، تذكرت جملة عباس أبو الحسن الشهيرة في فيلم “مافيا” عجيب أمركم أيها المصريون، بالفعل أمرنا عجيب لكنه بهيج.. فبين العيد والعيد لدينا عيد، وهذا ليس إلا بأمر بديع، لا تشهده أعظم دول العالم تقدماً ولا أكثرها انفتاحاً وتحضراً، فمصر أرض الكوزموبوليتان وحاضنة الأديان، مسلم أو مسيحي كلنا يوم العيد مصريون نمارس طقوس العيد ونبتهج ونقضي وقت سعيد، نبتهل ونتضرع ونحن محملون بأمنيات الأعياد فمحمد عليه الصلاة والسلام وعيسى وموسى عليهما السلام كلهم أنبياء، نذهب للصلاة كل في درب ويوحدنا الدعاء الذي يتردد في كل قلب، فكلنا في الأصل من ذات الشجرة وأبناء نفس الجذر ومن رَحِم تلك البذرة، وهي حضارتنا المصرية القديمة التي كان أول فرع منها هي القبطية الأصيلة.
كل سنة وكلنا طيبون ولعل في كل الأيام الغالية المباركة التي مرت علينا وستمر بنا، من عيد الميلاد المجيد ورمضان وعيد الفطر وعيد القيامة وعيد الاضحى وما بينهما من أيام مباركات لذكرى أيام شهدت الرحمات والمعجزات، سنظل نطلب فيها ونلح الدعاء أن يرزقنا الله راحة بال وهدوء حال، ويقرب بيننا وبين كل ما ظنناه يوماً مستحيلاً ويجعل لنا من دعواتنا نصيب وفي أقدارنا ما يداوي به جراح عجز عن مداواتها أمهر الأطباء وهو الزمان.. الذي كان في ذاته أكبر عدو لأحلامنا.
والآن ونحن نقترب من نهاية أسبوع الآلام فهل ستنتهي الآلام! هل سننعم بالحب والأمان! هل سنكون على موعد مع السلام! متى سيشق قلوبنا ضوء النهار! متى نتوضأ من نبع الحياة دون أن نصارع التيار! هل سينصف الأخيار! أسيهتدي الأشرار! هل ستصبح الأرض واحة للأبرار! أيحمل لنا الغد براح وسنتوقف عن البكاء عما راح! هل سترد المظالم ويعتذر الظالم! ولو استحالت الأرض جَنة هل نحن قادرون على نسيان ما أصابنا عليها من جُنة! هل لازالت أمنياتنا نابضة وأحلامنا طازجة وضحكاتنا شهية وإرادتنا أبية! هل نحن على استعداد أن نتصالح مع الحياة ونغفر للموت ونغض البصر عن الذكريات الراقدة كجثث صامدة بين أضلعنا من سنوات العمر المارقة!
صدقاً كلنا نمتلك الإجابة، وهو ليس جواب واحد ولكنهما جوابان متناقضان ولا تربط بينهما علاقة فلا يجمعهما عقل ولن يسعهما قلب، فالجواب الأول يصرخ ويقول ما هذا الخرف! والدنيا هي دار كبد ومستقر القرف! أما الإجابة الثانية فهي أضغاث أمنيات حالمة، وابنة بارة ليقين مخلص أن كل ما نتمناه هو على الله هين، وهو الذي إذا شاء كان ولو اتفق العقل والمنطق أنه ليس بالإمكان.
وكيف لا.. وأول اسم علمه لنا الله الذي لا عشم لنا سواه أنه الرحمن والرحيم فكيف يقسو على عبده الذليل وهو الرؤوف اللطيف، هو المَلك صاحب المُلك الذي لن يفنى، سبحانه القدوس المنزه عن النقص والممدوح بالفضائل والمذكور في كل المحاسن، سبحانه المهيمن المؤتمن على رد المظالم فهو الجبار الذي يرمم النفوس بعد ما مرت به من طقوس الغدر والخيانة المعطرين بالخسة والأنانية والنذالة.
فالله المتكبر أي هو الكبير الأكبر، المُذل للطغاة من خلقِه وعتاة عِباده ممن تجبروا على عُبادِه، هو البارئ المُصور الذي يقول كُن فيكون، بداية الخلق بإرادته ونهاية الخلق ستكون برغبته، فهو القهار الذي خضعت له الرقاب واستكانت لجلاله الجبال والسحاب، حليم على الخطائين عظيم مع التوابين، غفور لمن يقبل شكور لمن عاد ولم يُدبِر.
مقسط العدل وجامع المحاسن، هو الذي يمنع ووحده القادِر على أن يضُر وينفع، يُمهِل دون أن يُهمل فهو الصبور الودود لعبده حتى ينجيه من وصم اللدود، الله نور وهدى.. منتقم ممن فقد الهدى واتبع نفسه والهوى، عفو عن من تلمَس كرمه وعاد لرشده، فهو الشهيد على ما يدور بخلجاتنا لذا هو القادر على إعادة حقوقنا ومن غيره يليق به أن يكون حسبنا ووكيلنا!
أول كل شيء وآخره، يحيي ويميت بكلمته، لا يقدم ولا يؤخر قَدر فهو الولي ولو احتار البشر، خلق فأبدع فهو البديع الوارث الذي أورثنا الأرض وسيرثها منا وسيسألنا عنها، حتى لو كان المُطلع الأعلم سبحانه لا يخفى عن جلاله وعظمته ما ظهر منا وما بطن وما اخفيناه وظننا أنه لن يُعلم، صبور كريم.. يعز من يشاء ويذل من يشاء فهو المعز المذل الخافض الرافع وليس لحكمه رادع، ولو لم يكن الرشيد ما شمل صبره ورحمته ما على الأرض من غل وحقد دفين وحسد بغيض وكراهية مقيتة وظلم مبين.
لذا عندما تتعالى تكبيرات العيد في المساجد وتدق أجراس الاحتفالات في الكنائس يميل القلب للإجابة التي يرفضها المنطق والعقل، أليس من الممكن أن تنتهي الآلام قبل انقضاء الأجال، وأن نكون من عُمار الأرض ومستعمريها بالحب، ومستثمريها بالصبر لأنهم على يقين أن بعده جبر!
يارب تقبل منا دعوات عبد غلبته حيلته وأهلكته دنيته وأعيته شقوته وأحرقته دمعته، نلجأ إليك بضعفنا ونركن لحسبك مهما أوتينا من قوة، وكما جاء في الإنجيل سلوا تعطوا .. توبوا تجدوا.. اقرعوا يفتح لكم.. وذكر في القرآن ادعوني استجب لكم، لذا سنستمر في الدعاء ونتضرع في الشكر والثناء ونستغل الأعياد لنردد الدعوات أن يُمسي العالم على فرح ببركة الأيام الطهورات المباركات، ويُصبح دون ترح تخلفه الآلام فهو الله الذي لا يعرف المعجزات.
وكل عام ونحن في سعادة ووئام، ولتكن الأعياد منحة لتجدد الآمال، ونوقد الشموع ونودع الدموع ونوزع السلام على الأنام، ونتمنى أن يعم العالم الحب والرحمة، فسنشهد أن الله أكبر من كل أكبر سبعة مرات، ونردد كيرياليسون 41 مرة على كل من تجبر، وكل عام ومصر مستقر للأعياد والفرح للعُياد.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
الدُّب … الذي بكته السماء !
مناظير الخميس 1 مايو، 2025
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* في مساء حزين غابت فيه شمس العام الماضي، صعدت روح صديقي العزيز (عزالدين علي عبدالله)، المعروف بين أصدقائه بـ"عزالدين الدب"، إلى بارئها، وعلى وجهه نفس الابتسامة التي رافقته في الحياة، كأنما كانت تعانق الموت وترحب به، فبكته السماء قبل أن يبكيه البشر، وسالت دموعها فوق مقابر عين شمس في القاهرة، حيث وُري جثمانه الثرى بعد رحلة صمود طويلة، لا يملك من يعرفها إلا أن ينحني احتراماً أمام عظمة هذا الإنسان الفريد.
* لم يكن "الدب" مجرد لقب طريف أطلقه عليه الأصدقاء في صباه بسبب امتلاء جسمه، بل صار مع الأيام رمزاً لقلب كبير يسع الدنيا، وروح مرحة، وجَنان صلب لا تهزه العواصف. ورغم إصابته بالفشل الكلوي لأكثر من عشر سنوات واعتماده على الغسيل المنتظم، لم يكن أحد يصدق أنه مريض، فقد كان صحيح البدن، قوي النفس، عالي الضحكة، حاضر النكتة، سيّال الفكرة، متوقد الذهن.
* عرفته كما عرفه غيري إنسانا مثقفا ومحدثا لبقاً، مجلسه لا يُمل، وحديثه لا يُنسى، وتحليله السياسي والاجتماعي لا يشق له غبار. كان موسوعة متحركة، لا تسأله عن شأن في السودان أو في العالم إلا وتنهال عليك منه الدهشة والإفادة. ولم يكن هذا لشغفه بالسياسة فقط، بل كان عاشقاً للفن والشعر والغناء، يحفظ القصائد والأبيات والأغاني ومَن قالها ولحّنها وغنّاها وتاريخها، وكأنما خُلق ليكون ذاكرة حية لكل شيء جميل.
* عشق الفروسية ونادي الفروسية وسبق الخيل، وكان يحفظ عن ظهر قلب اسماء الفرسان والخيل وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، وظل طيلة الخمسين عاما الاخيرة من حياته التي لم يغب فيها يوما واحدا عن ميدان السبق مع رفيقه وصديقه (ماجد حجوج) من أعمدة النادي والمؤثرين والمستشارين الذين يؤخذ برأيهم، ومحبوبا من الجميع.
* كان بيت أسرته في حي بانت شرق بأم درمان ندوة يومية يقصدها الناس من كل فج، ينهلون من علمه ويضحكون من قلبهم لطرائفه التي لا تنتهي، وحكاياته التي تتفجر دفئاً وإنسانية، كما لو أنه خُلق من طينة خاصة لا تعرف غير البهجة، رغم معاناته الطويلة مع المرض.
* ثم جاء يوم 15 أبريل، يوم الفجيعة الكبرى، وانفجر جحيم الحرب اللعينة في السودان، وسقطت القذائف على المدن والناس، وأظلمت الحياة، وانعدم الأمان وانهارت المستشفيات، وانقطع الدواء، وتوقفت جلسات الغسيل، فصار عزالدين يخاطر بحياته بحثاً عن مركز يعمل، ينتقل على عربات الكارو بين الدانات والقذائق وزخات الرصاص، ورغم كل ذلك لم تغب ابتسامته، ولم يفقد شجاعته.
* نزح إلى كسلا، ثم بورتسودان، الى ان قادته الأقدار إلى القاهرة، حيث احتضنه أصدقاؤه الأوفياء الدكتور مجدي المرضي، وشقيقه ناصر المرضي، والدكتور صالح خلف الله، وفتحوا له قلوبهم وبيوتهم ووقفوا بجانبه حتى آخر لحظة من حياته، جزاهم الله خير الجزاء، وجعل ما فعلوه في ميزان حسناتهم.
* لكن القلب الذي صمد كثيراً، أنهكته أيام السودان، وضربات الحرب، وعدم انتظام الغسيل وصعوبة الحياة تحت نيران المدافع، فلم يحتمل، واختار الرحيل في صمت هادئ، بابتسامته البهية التي كانت عنواناً له في الحياة، كأنه يقول لنا وداعاً دون نحيب.
* نعزي أنفسنا وأسرته المكلومة، وشقيقاته العزيزات د. سامية، د. سلوى، وسميرة، وأصدقاءه الذين كانوا له عوناً وسنداً، ونبكيه بقدر ما أحببناه، ونترحم عليه بقدر ما أدهشنا بعظمة صبره وروعته وبهاء روحه. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.