د. أحمد جمعة صديق
تعتبر الشخصيات في ميدان الأدب، في الغالب وسائل يستخدمها الكتاب لاستكشاف تعقيدات الطبيعة البشرية المقعدة أحياناً. تقف شخصيتان، مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني طيب صالح، وكيرتز في "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، كشخصيات مقنعة تمثلان قوى الظلام الغامض وتفضح ممارسات الاستعمار في حالة كيرتز كمنتج للاستعمار ومصطفى سعيد كمستهلك.
يهدف هذا التحليل المقارن إلى فك شفرات غزوات هذين الشخصيتين، وكلاهما جاء غازياً فمصطفى سعيد جاء غازياً ويزعم أن له رسالة هي تحرير إفريقيا عن طريق(....) وكيرتز أيضاً ظن أن له رسالة في مجاهل افريقيا وغاباتها. وكلاهما دمرته طموحاته المسرفة لتكون النهاية في الانسحاب بالغرق والموت. وهي نهايات طبيعية عندما نسرف في ملء الاناء الى حد الطفح. سنسلط الضوء على هذه الجوانب و أهميتهما ضمن قصصهما السردية والمواضيع الأوسع التي يمثلانها.
• الخلفية والسياق
قبل التعمق في الشخصيات نفسها، من الضروري توضيح قصصهما ضمن إطار رواياتهما المعنية. تروي "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، قصة تصادم الهويات الثقافية، والاستعمار، والصراع بين الفكر الشرقي والغربي من خلال شخصية مصطفى سعيد، (السوداني الافريقي العربي العطيلي) الذي يعود إلى وطنه بعد دراسته في أوروبا. من جهة أخرى، تستكشف "قلب الظلام" لجوزيف كونراد رعب الاستعمار والإمبريالية في الكونغو الحر، حيث يمثل كيرتز رمزاً للاستغلال والتدهور الأوروبي.
• مصطفى سعيد: مستهلك الحضارة الغربية التي دمرته.
تظهر شخصية مصطفى سعيد كشخصية معقدة وغامضة في "موسم الهجرة إلى الشمال". فبعد تلقيه تعليمه في إنجلترا وامتلاكه فهماً عميقاً للثقافة الغربية، حيث هضمها بل وتفوق على اقرانه، ليصبح أستاذاً في هذه المصانع الحضارية ويحاضر في نظريات (كنز) الاقتصادية بل ويتحدث عن الاقتصاد المبني على الحب.
يعود مصطفى إلى السودان الأم بعد اذلاله وتعرضه للمحاكمة التي فضحت مجموعة العقد التي كان يعيشها مصطفى سعيد المتناقض. عاد الى السودان مملوء بالإحباط والانفصال حتى عن ذاته. وبالرغم من سحره الخارجي وذكائه، يحمل مصطفى أسراراً مظلمة وماضٍ مضطرب، بما في ذلك سلسلة من العلاقات العاطفية المضطربة الفاشلة والميل إلى العنف. تتجلى في قلب شخصية مصطفى الصراعات العميقة بين إرثه الشرقي وتعليمه الغربي. يتردد بين تبني هويته السودانية ورفضها لصالح القيم الغربية، محاولًا التوفيق بين العالمين اللذين يعيشهما، ولكن يؤدي هذا الصراع الداخلي في النهاية إلى انزلاق مصطفى إلى البحث عن المنفى الارادي الذاتي، بعيداً عن وطنه وعن الغرب الأوربي لتكون النهاية في الانعتاق والعناق الابدي مع النيل، الإله الأفعى كما كان يطلق عليه.
• كيرتز: صوت الظلام الاستعماري
يعتبر كيرتز في "قلب الظلام" تجسيداً حياً للاستعمار الأوروبي ونتائجه الكارثية. يظهر كيرتز في البداية كمصباح للتنوير والتقدم. كان يُشْهد له بالبصيرة والحكمة من قبل نظرائه الأوروبيين. ومع ذلك، كما يتكشف في السردية، يصبح جلياً أن كيرتز قد استسلم لغرائز السلطة والثروة والاستغلال، وانزلق نحو الجنون والوحشية حينما سعى لتحقيق اقصى درجات الاسراف في اشباع رغباته الحيوانية.
تعكس رحلة كيرتز رحلة مصطفى سعيد في العديد من الطرق، حيث يتصارع كل منهما مع الصراع بين الحضارة والوحشية. ومع ذلك، فبينما يتميز صراع مصطفى بالطابع الداخلي والشياطين الشخصية، يتم تحريك كيرتز بقوى خارجية، وهي حقائق الاستغلال الأوروبي بكل بشاعتها وفظاظتها. ويظل مصير مصطفى غامضاً في النهاية، مما يترك القراء يتأملون في طبيعة تعويضه بالتعاطف معه أو الادانة، بينما يواجه كيرتز نهاية مؤلمة وحاسمة، وهو يندرج تحت الظلام الذي كان يسعى إلى القضاء عليه، اذ لم يختار النهاية كما فعل مصطفى سعيد بان يغمر احلامه في الاندماج الكلي مع نهر النيل. عانق مصطفى سعيد الموت باختيار المكان والزمان والطريقة التي افرغ بها نهايته القدرية، بينما فشل كيرتز ان يختار نهاية بطولية لانهاء حياته المسرفة، اذ ياتي الموت فيختطفه ليعلن نهاية الاكذوبة. وكلا البطلين كان مجرد اكذوبة. فمصطفى سعيد يقر بنفسه بانه اكذوبة ويطلب منهم أن يقتلوا الاكذوبة، بينما كيرتز عاش في اكذوبة التأله التي اخترعها خياله المريض، فمات وبموته ايضا ماتت الاكذوبة.
المستخلص
تعتبر شخصية مصطفى سعيد وكيرتز رموزاً مقنعة لتعقيدات الطبيعة البشرية ومخاطر التصادم الثقافي والاستعمار. فمن خلال رواياتهما، يدعو الطيب صالح وجوزيف كونراد القراء لمواجهة الجوانب المظلمة للإنسانية والتأمل في القوى التي تشكل هوياتنا ومصائرنا. سواء كانوا يعبرون عن مياه سودان ما بعد الاستعمار الخطيرة أو أعماق الغابة الموحشة في الكونغو، فمصطفى سعيد وكيرتز يظلان رمزين دائمي الصمود للصراع الدائم بين النور والظلام والخير والشر في الروح البشرية.
ومع أن هذه الشخصيات، تذكر بالهشاشة الأساسية للحضارة والتأثير الدائم للاستعمار، ففي مصطفى سعيد وكيرتز، لا نجد مجرد قصص للعبرة، بل هي تأملات عميقة في الحالة البشرية - دليل على القوة الدائمة للأدب في إلقاء الضوء على أظلم زوايا النفس البشرية. فالأدب ربما يكون أكثر واقعية من الحياة نفسها كما كان يحاضرنا بذلك بروفيسر ((Wood في كلية التربية جامعة الخرطوم في ايام سلفت، ما أجملها من أيام!!
aahmedgumaa@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: شخصیة مصطفى
إقرأ أيضاً:
تحليل: ماذا تفعل قوات الفضاء الأمريكية فعليا؟
واشنطن"د ب أ": تعد قوات الفضاء الأمريكية أحدث فروع الجيش الأمريكي، وقد أنشئت بهدف حماية المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في الفضاء. ورغم حداثة عهدها، تعد مهامها كثيرة. وبينما تبقى تفاصيل كثيرة من عملياتها طي السرية، فإن دورها المتنامي يعكس الأهمية المتزايدة للفضاء كمجال جديد للصراعات الجيوسياسية. ويقول هاريسون كاس، المحلل البارز في شؤون الدفاع والأمن القومي، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست، إنه على الورق، تكرس قوات الفضاء الأمريكية للدفاع عن المصالح الأمريكية في الفضاء. وتحديدا، تتولى قوات الفضاء حماية الأصول الفضائية، وغالبا ما تكون أقمارا اصطناعية، وضمان حرية العمليات في الفضاء، ومراقبة الحطام الفضائي وتطوير تقنيات الحروب الفضائية.
وترك تأسيس قوات الفضاء الأمريكية في عام 2019، رغم أنه اعتبر تطورا إيجابيا للأمن القومي الأمريكي، بعض المواطنين في حالة من الحيرة. إذ لم يفهم الكثيرون، ولا يزال البعض لا يفهم، الفرق بين قوات الفضاء ووكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، التي تستكشف الفضاء منذ خمسينيات القرن الماضي.
ويقول هاريسون كاس إن الفرق الجوهري بين الكيانين هو أن "ناسا" وكالة مدنية تركز بشكل واضح على استكشاف الفضاء والبحث العلمي وتطوير التكنولوجيا. أما قوات الفضاء الأمريكية، فهي فرع عسكري يركز بشكل صريح على حماية المصالح الأمريكية في الفضاء. ويقدم هاريسون كاس نظرة أقرب على هذه الفروقات بين الجهتين الحكوميتين المعنيتين بالفضاء.
ويقول إنه على الرغم من أن وكالة "ناسا" تدار من قبل الحكومة الأمريكية، فإنها وكالة مدنية وليست فرعا من فروع الجيش. والسبب الذي يجعل بعض الأشخاص يخلطون بين مهمة "ناسا" الاستكشافية ومهمة قوات الفضاء الأمريكية ذات الطابع الدفاعي، هو أن "ناسا" تأسست في ذروة الحرب الباردة، كرد فعل على النشاطات السوفييتية خارج الغلاف الجوي للأرض. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن "ناسا" وكالة مدنية، فإن برامجها غالبا ما تكون قريبة من الطابع العسكري. ففي السنوات الأولى من سباق الفضاء، كانت "ناسا" تستخدم طيارين عسكريين حصريا في مهماتها التجريبية، مثل ألان شيبارد وجون جلين ونيل أرمسترونج وباز ألدرين، وجميعهم كانوا في الخدمة العسكرية الفعلية في وقت إنجازاتهم في الفضاء.
لكن، من حيث المبدأ، كانت مهمة وكالة "ناسا" تتعلق بمساع سلمية، وتحديدا اكتساب المعرفة العلمية. لذلك، ركزت برامج "ناسا" دائما على تطوير مركبات فضائية جديدة، وإجراءات جديدة للرحلات الفضائية، وإجراء الأبحاث على كواكب أخرى، وتصوير المجرات، وما إلى ذلك. وتعد برامج "ناسا" الأكثر شهرة مثل "أبولو" و"سبيس شاتل" و"مارس روفر" وتلسكوب "جيمس ويب"، برامج علمية موجهة لجميع أفراد الأسرة، وتدرس للأطفال في المدارس، وغالبا ما تعرض وبحق باعتبارها من أعظم الإنجازات العلمية للبشرية.
أما قوات الفضاء الأمريكية، فهي بالتأكيد ليست وكالة مدنية، بل فرع من فروع الجيش، إلى جانب الجيش البري والبحرية، وسلاح الجو ومشاة البحرية وخفر السواحل.
وبحسب موقع "سبيس إنسايدر"، هناك عدة طرق تنفذ بها قوات الفضاء مهمتها، إحداها ببساطة المراقبة والانتظار، باستخدام أنظمة قائمة على الأرض وأخرى في الفضاء لتعقب الأجسام في المدار." وتشمل هذه الأجسام حطاما فضائيا وأقمارا اصطناعية وصواريخ، وربما مركبات فضائية معادية.
ويضيف الموقع: "من المهام الأخرى لهذا الفرع توفير الاتصالات العسكرية من خلال عدة أساطيل من الأقمار الاصطناعية المصممة خصيصا لهذا الغرض، بالإضافة إلى الحفاظ على نظام الملاحة العالمي /جي بي إس / كما أن عدة أقسام من (قوات الفضاء) مكرسة للعمليات الفضائية الدفاعية والهجومية." وطبيعة هذه العمليات، بطبيعة الحال، سرية للغاية. لكنها لا تشمل قتالا مداريا يتضمن انفجارات، لأن ذلك من شأنه أن يخلف سحبا من الحطام المداري الشبيه بالشظايا، ما يهدد الأقمار الاصطناعية الأمريكية نفسها. "بل إن الهدف هو إعماء وإسكات الأقمار الاصطناعية المعادية باستخدام أسلحة إلكترونية." كما أن قوات الفضاء منخرطة في عمليات حرب إلكترونية (سيبرانية).
لكن هذه القوات لم تتجاوز عامها الخامس بعد، ويرجح أن تكون مهمتها لا تزال في مراحلها الأولية. ويمكن اعتبار التوسع المتواصل في ميزانيتها، الذي تجاوز بالفعل ميزانية "ناسا"، مؤشرا على اتساع نطاق وتعقيد مهامها في السنوات المقبلة.