موقع النيلين:
2025-01-05@06:20:25 GMT

الصفوة والمكشن بلا بصل

تاريخ النشر: 4th, May 2024 GMT


من غضب الله علينا أن الصفوة (وهذا ما يسمي خريجو المدارس والمهنيون أنفسهم) طالقة لسانها في الآخرين ولم تجد بعد من يطلق لسانها فيها بصورة منهجية. فهي تصف جماعات غمار الناس ب “الأمية” أو “البدائية” أو “المتخلفة” أو بالمصابة ب “الذهن الرعوي” أو “ببله الريف” أو انها “مستعربة” أو “متأسلمة”. واحتكرت حق تبخيس الآخرين أشياءهم.

واحتكرت حتى نقدها لنفسها، ولكن برفق. فهي “فاشلة” أو “مدمنة الفشل” بما يشبه التوبيخ على حالة عارضة تلبستها وستخرج منها متى صح منها العزم.

وقليلاً ما عثرت على نقد للصفوة تخطى ما تواضعت عليه من الرأفة بنفسها والعشم في صحوتها إلى نقد جذري يطال “فشلها” بالنظر إلى اقتصادها السياسي: إلى مناشئها الثقافية والاجتماعية ومنازلها من العملية الإنتاجية. وأسعدني أن قرأت قبل أيام بهذه الجريدة للأستاذ محمد الغبشاوي كلمة قاطعة “أدت” الصفوة في “التنك”. فوصفها بأنها مصابة بأمرين. فهي “فاقد التياع” من جهة وتعاني من “فائض استتباع” من الجهة الأخرى.

يقصد الغبشاوي بمفهوم “فاقد التياع” ما حاولته أنا أكثر من مرة هنا بقولي إن الصفوة خلو من الحمية. وهي ترجمتي ل “باشون passion” الإنجليزية. وأعتقد أن الغبشاوي وقع على التعريب الأوفق للكلمة. فقد أفرغ الغرب الصفوة في مدارسه وبقدوته من كل شغف بأهلها وثقافتهم وأطلق لسانهم فيهم “يا بدائي” “يا أمي” يا “متخلف” يالفعلتك يا التركتك. كنت أستغرب مثلاً لماركسي يقول، تأسياً بلينين، إن الأمي خارج السياسة وحزبه في قيادة معظم نقابات العمال واتحادات المزارعين التي قوامها أميون. أو تسمع من يقول لك “بالله الحاردلو دا لو قرأ كان بدّع”. وكأن ما قاله الحاردلو شفاهة ناقص.

قال الغبشاوي إن فقدان الالتياع يخلي وجدان الصفوة من الإبداع. فمن أين يأتيها ولماذا طالما “ألغت الأمة”. فأنظر كيف وصلنا إلى فشل الصفوة وعقمها وإدمانها ذلك بطريق جذري يقلب مناضد الصفوة كلها في وجها ويرجعها إلى منصة التأسيس. وبؤس الالتياع مما أخذته النظم الشيوعية في الصين وكمبوديا على الصفوة وعالجته ب”سخرة” إعادة التربية. وهي تفويج الصفوة إلى الريف لاستئصال شأفة نشأتهم الغربية بين الفلاحين الموصوفين ب”الأصالة” والكدح. وبالطبع أبعد رفاقنا النجعة وأورثونا مذمة. بل حاوله تمبل باي، رئيس وزراء تشاد الأسبق، ذلك بإخضاع كل الخدمة المدنية لطقس أفريقي تقليدي شديد القسوة ليعود بهم إلى “التشادوية”.

أما فائض الاستتباع فهو فرط قبول الصفوة ل”الوصاية الشقراء” أي الغربية البيضاء في عبارة الغبشاوي. فهم بعد إلغاء الأمة صاروا عالة على الغرب وفكره وأنساقه. وللاختصار فقد أخذ على الصفوة المسلمة أنها لم تكتشف تجربة العالم البنغلاديشي محمد يونس (صاحب كتاب عالم بلا فقر) في التمويل الأصغر إلا بعد أن “هرَّج” بها البنك الدولي. وهو البنك الذي يفلق ويداوي. فالبنك كتب الفقر على غالبية سكان العالم الثالث بسياسته المعروفة بالإصلاح الهيكلي (والخصخصة منه) ثم جري يغطي سوءته بمثل التمويل الأصغر.

ولاحظت أن الغبشاوي يقرأ لغير ما اتفق لأكثر صفوتنا في أحسن الأحوال من مثل ماركيز وأمل دنقل ومنصور خالد ومحجوب شريف والجابري. فهو يقرا بنظر لمّاح لجلال أمين ورمزي زكي (تحديث الفقر وتنمية التخلف) وللمهدي النجرة (الإهانة في عهد الميغا) ولم أعرف عن الأخيرين من قبل. إنه يقرأ المظان الحسان.

قال الأستاذ صلاح فرج الله إن صفوتنا عالة على الواقع. وهذا قريب من قول بريخت: “تنشئة المثقفين عملية طويلة وشاقة. وهي مما يمتحن الجماهير ويعيل صبرها”. فإذا أدمنت الصفوة الفشل واستمرأته خرج عليها مثل بول بوت الكمبودي و “وراها المكشن بلا بصل”.

عبد الله علي إبراهيم

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

الكذب على النفس

بعضنا أو كلنا -إلاالقليل-، يكذب على نفسه فيخدعها ويسير ضارباً بالحقيقة عرض الحائط لأنها مؤلمة وليس مستعدا لمواجهتها على الرغم من تأنيب الضمير له. ولو كان منصفاً لنفسه، لوقف معها وقفة صدق خالية من تصفيق الهازلين به.

وكما يقول عباس محمود العقاد -يرحمه الله- ليس أقسى على الإنسان من مواجهة الحقيقة. والصدق والحقيقة صنوان، قال تعالى:(أحقّ هو) وقال كذلك:(ومن جاء بالصدق وصدق به)، وليس أروع من كلام الله عزَّوجلَّ، فهو الصدق لا الكذب. وهو الرجوع إلى النفس ومناقشتها ولايمكن خداعها، فهي تعاقب من يخدعها بالغواية أو الكذب على النفس بباعث ضعف في سجية النفس الأمّارة بالسوء. وخاطب القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا االله واستغفر لهم الرسول لوجدوا االله تواباً رحيماً• فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليماً) النساء/٦٣-٦٤. فليقف كل منا وقفة صدق، ويقرأ القرآن فهو شرف الأمة وغيره إن لم يكن يسير معه، فهو باطل لانفع فيه.
وما توفيقي إلا بالله.

مقالات مشابهة

  • دعاء شهر رجب مستجاب .. ردّده في هذه الأوقات
  • الكذب على النفس
  • وحدَها اليمنُ من تجلِــدُهم!
  • ما قلّ ودل
  • التركة الاستعمارية: استعمار الحلال والبلال (2-2)
  • انصار الله: لن نتسامح في قطرة دم
  • دعاء يوم السبت للرزق
  • موضوع خطبة الجمعة بمساجد الأوقاف اليوم
  • عبارات عن أول جمعة من شهر رجب 1446 - 2025
  • الأسد المرقسى