هل تنجح خبرة كسينجر ودبلوماسية “الأبواب الخلفية” في إعادة الوئام للعلاقات الصينية – الأمريكية؟ و ما موقع عالمنا العربي والإسلامي من هذا التنافس و الصراع الدولي؟
تاريخ النشر: 31st, July 2023 GMT
الدكتور طارق ليساوي أشرت في مقال ” لماذا أرى أن زيارة كيسنجر للصين محاولة لتحيين مخرجات زيارته السرية لبكين عام 1971…؟” إلى أن المصالحة مع اليابان- العدو التقليدي للصين و مفتاح النهضة الصينية المعاصرة- بدأت بداية بتسوية الخلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية، فقد قام وزير خارجية الولايات المتحدة “كسينجر” بزيارتين سريتين لبكين التقى فيهما”ماوتسي تونع” و” شو إن لاي” عام 1971، قبل الزيارة التاريخية للرئيس نيكسون للصين الشعبية عام 1972 وأعلن الجانبان الصيني و الأمريكي ” بيان شانغهاي”، وفي أول 1979 أقامت الصين و الولايات المتحدة الأمريكية علاقات دبلوماسية، واعترفت الولايات المتحدة بأن حكومة الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأن التايوان جزء من البر الصيني.
. المصالحة مع الولايات المتحدة الأمريكية فتحت الباب على مصراعيه لتحقيق تقارب بين اليابان والصين، وتسوية الخلاقات التاريخية الناتجة عن احتلال اليابان للصين، هذه المصالحة شكلت من دون شك أحد أهم روافد الانتقال السياسي والاقتصادي في الصين بعد 1978، ففي اليابان أعلن الرئيس “دونغ شوبينغ” عن رغبة بلاده في تبني مسار تنموي يحاكي النموذج التنموي الياباني، وأعلن عن ترحيبه برؤوس الأموال اليابانية للاستثمار في البر الصيني وفي مقدمة هؤلاء المستثمرين صينيي ما وراء البحار..وسأحاول في هذا المقال التوسع أكثر في مخرجات زيارة كسينجر للصين و تحليل دلالاتها و أبعادها و توقيتها.. و في الزيارة التي قام بها كيسنجر للصين يوم الثلاثاء 18-07-2023، التقى بالرئيس الصيني “شي جين بينج” الذي أخبره أن “الشعب الصيني سيتذكره دائمًا”، كما أشاد كبير دبلوماسيي الصين بحكمة كيسنجر، الذي التقى كذلك بوزير الدفاع الصيني، في حين رفض الأخير عدة طلبات لمقابلة نظيره الأمريكي.. وخلال اللقاء الذي جمع “وانغ يي” وزير الخارجية الصيني السابق والآن كبير دبلوماسييها و كيسنجر، و أثناء لقاء ألمح “وانغ يي” إلى أن بكين كانت تشعر بالحنين إلى الأيام التي كان يدير فيها السياسة الخارجية الأمريكية. ووفقًا لتقرير صيني عن الاجتماع، قال وانغ للأمريكيين: “من المستحيل محاولة تغيير الصين، بل إنه من المستحيل احتواء الصين”. وأضاف أن “السياسة تجاه الصين تتطلب الحكمة الدبلوماسية لكيسنجر والشجاعة السياسية لنيكسون”. و قد أشرت في المقال السابق إلى رمزية كيسنجر و محوريته في تحليل العلاقات الصينية الأمريكية، فبكين غالبا ما تستحضر الفترة التي عمل بها كيسنجر وزيرًا للخارجية، وساعد في تمهيد الطريق لزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون التاريخية للصين، في 1972، الزيارة التي أذابت الجليد وأدت إلى تطبيع العلاقات في نهاية المطاف بين البلدين اللذين طالت بينهما القطيعة. وتمت تسمية رحلة كيسنجر في عام 1971 إلى الصين رمزيا بـ”ماركو بولو”، مما يعني أن المهمة لم تكن معروفة ولا يمكن التنبؤ بها مثل مغامرة التاجر والمستكشف الإيطالي إلى الأرض الشرقية الغامضة في القرن الثالث عشر. وقبل الزيارة، لم تكن بين بكين وواشنطن علاقات دبلوماسية ولا تفاعلات اقتصادية مع بعضهما البعض، في حين هيمنت مخاوف “الصين الحمراء” والمشاعر المناهضة للشيوعية على السياسة الأمريكية. و مع تزايد حدة التباينات و الخلافات بين الصين و أمريكا، يصبح من الضروري و المفيد الاحتكام للبدايات، و بالعودة لكسينجر و كتابه “حول الصين”، يوضح أنه عندما بدأت الصين والولايات المتحدة في استعادة العلاقات، فإن أهم مساهمة قدمها القادة آنذاك هي رغبتهم في مد نظرهم ما هو أبعد من القضايا المباشرة في ذلك الوقت. ففي حقبة الحرب الباردة، كانت هناك بالفعل اعتبارات جيوسياسية واستراتيجية في التقارب في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، ولكن تطور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة أظهرت أيضا أن الصين والولايات المتحدة، مع أيديولوجيات وثقافات وأنظمة سياسية مختلفة تماما، قادرتان على العيش معا في سلام والانخراط في تعاون مربح للجانبين طالما لديهما الإرادة للعمل من أجل المصالح المشتركة لكلا البلدين وشعبيهما. و الجدير بالذكر أن كيسنجر ليس فقط صديق الصين القديم، وإنما هو صاحب رؤية استراتيجية لواقع ومستقبل النظام الدولي، وفي القلب منه العلاقات بين بلاده والصين. هذا الطرح ينطلق من المصلحة الوطنية الأمريكية تماماً كما تنطلق إدارة بايدن، وكل الإدارات الأمريكية، لكنه لا ينساق مع ما هو مطروح على المستوى الرسمي حيال الصين. فالرجل يتبنى موقف تعايشي أكثر منه تصادمي. ويدرك تماماً أن هناك قضايا لا تحتمل المساومة وعلى رأسها قضية تايوان. و موقفه هذا نابع من خبرته التفاوضية مع الجانب الصيني في سبعينيات القرن الماضي. وقد كان لافتاً إشارة كيسنجر تحديداً إلى بيان شنغهاي الصادر في العام 1972، وضرورة احترام المبادئ التي تضمنها، مع تأكيد خاص من كيسنجر على احترام مبدأ الصين الواحدة. ويعتبر بيان شنغهاي هو البيان الأول ضمن ثلاثة بيانات تصر الصين على أنها تمثل الأساس الحاكم لعلاقاتها مع الولايات المتحدة. لذلك فليس مستغربا أن يؤكد كيسنجر من بكين على أهمية مبدأ الصين الواحدة، ومن ثم يأمل في أن تنتقل العلاقات بين الجانبين إلى المسار الإيجابي. وهو هنا لا يبتعد كثيراً عن جوهر الموقف الصيني الذي مفاده أن قضية تايوان ليست قضية عادية وإنما هي جوهرية فضلاً عن أنها أهم الخطوط الحمر في العلاقات بين البلدين، بما يعنيه ذلك من أن تجاوز هذا الخط أو التلاعب به من شأنه أن يجلب الضرر للعلاقات بين البلدين و بالنظام الدولي و الإقليمي.. و قضية تايوان و الدعم الأمريكي لإستقلال تايوان هي نقطة الخلاف المحورية التي تثير مخاوف القيادة الصينية، و فهم قضية تايوان و أهميتها الحيوية للقوى الكبرى، لا يستقيم دون النظر إلى الأهمية الجيوإستراتيجة لبحر الصين الجنوبي للقوى الكبرى و بخاصة لأمريكا و حلفاءها ، و نظرا لهذه الأهمية يتم يوصف هذا البحر ب”البحر المسلح ” إذ توجد في مياهه وعلى سواحله قرابة ربع الترسانة العسكرية في العالم، وينظر إليه باعتباره من أسخن البقاع المائية في الكوكب إن لم يكن أسخنها…و استعادة جزيرة تايوان عسكريا يشعل المنطقة مما يعيق تمدد نفوذ الصين في أرخبيل جزر “بارسيل وسبر انكى” المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي الذي تشير بعض التقديرات إلى مرور 35% من تجاره العالم به علما أن الصين تقوم ببناء جزر صناعية في المنطقة تنشأ فيها مطارات وموانئ وقواعد عسكرية في هذا البحر. فاستراتيجية الصين تقوم على تبني سياسة اقتصادية و تجارية بعيدة المدى تمكنها من هضم تايوان دون الحاجة للتدخل العسكري المباشر، وهذا التوجه يجد أنصارا بداخل “تايوان” ذاتها فهناك أصوات سياسية بداخل “تايوان” تدعو للانضمام للصين بغرض الاستفادة من السوق الصيني، فالاستثمارات التايوانية بداخل البر الصيني تتعدى 60 مليار دولار، و يستقر نحو مليون تايواني بالبر الصيني لإدارة أنشطتهم الصناعية والتجارية… و عموما، من الخطأ التفاؤل و الرهان على الصراع بين الصين و أمريكا خاصة بالنسبة للعالم العربي و الإسلامي، لأن التغيير في النظام الدولي و الحد من هيمنة الولايات المتحدة مرتبطة بمدى قدرة الصين على المخاطرة و تحمل أعباء التغيير، و من يدرك عقلية القيادة الصينية و التحديات التي تواجهها- و قد بينا ذلك في أكثر من مقال- سيدرك جيدا بأن الصين ستدعم استمرار النظام الدولي القائم و الترتيبات الأمنية المعمول بها منذ إنهيار المعسكر الشرقي، و أننا سوف نشهد تحالف بين الصين و أمريكا في القادم من الأيام، و إن لم يكن صريحا فقد يكون ضمنيا ، أو على الأقل تهدئة الأوضاع بينها و التوصل لنوع من الهدنة خاصة في القضايا الخلافية التي لها تأثير على استقرار النظام الدولي بشقيه السياسي و الاقتصادي-المالي ، و ليس ذلك بفعل قوة أمريكا، وإنما نتيجة لخوف و تردد القيادة الصينية، فأمريكا تراهن على أن الانهيار إذا ما وقع –و هو واقع لا محالة- سوف تتضرر منه جميع البلدان و على رأس المتضررين الصين، و الصين بدورها غير مؤهلة للمواجهة و تحمل تكاليفها الباهظة إقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا.. لكن على خلاف مصالح الصين و أمريكا و غيرها من البلدان المتقدمة، فإن تغيير قواعد اللعبة الدولية، قد يخدم عملية التنمية في البلدان النامية و من ضمنها بلدان العالم العربي و الإسلامي، لأن عيوب التنمية التي تعانيها هذه البلدان – في الغالب- هو ميلها أكثر نحو الاستيراد من “الإبرة إلى الصاروخ”، و انخراطها “المفرط” في اتفاقيات التبادل الحر و الاتفاقيات المتعددة الأطراف التي تمت تحث إطار “الغات ” أو “منظمة التجارة العالمية” ، و هو من ضمن العناصر السلبية التي أعاقت عملية التنمية، و جعلت بلداننا مرتبطة أكثر بالخارج و صادراتها في الغالب من المواد الطاقية أو المواد الخام، و هامش السلع ذات القيمة المضافة العالية جد منخفض.. كما أن تحول أولويات الولايات المتحدة باتجاه بحر الصين الجنوبي و المحيط الهادئ و شرق ووسط أسيا عموما ، يعني تراجع أهمية الشرق الأوسط و لعل في ذلك خير لشعوب المنطقة ، لكن في ظل إستمرار قيادات عاجزة فاقدة للشرعية و للرؤية مستقبلية فدار لقمان ستبقى على حالها، و سيظل الخاسر الأكبر الشعوب العربية… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون… إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
الصين: الاستراتيجية العسكرية الأمريكية أصبحت تصادمية وتمثل تهديدا للأمن العالمي
علق المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية تشانغ شياو غانغ، على تقرير وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” عن التطور العسكري الصيني، قائلا بأن “الاستراتيجية العسكرية الأمريكية أصبحت أكثر تصادمية وتمثل أكبر تهديد للأمن العالمي”.
وقال غانغ، في بيان على منصة “وي تشات” ، إن “الحقائق تظهر أن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية أصبحت أكثر تصادمية وهجومية، وأصبحت الولايات المتحدة أكبر مدمرة للنظام الدولي وأكبر تهديد للأمن العالمي”.
وأشار إلى أن “الولايات المتحدة تستخدم تفوقها العسكري “للحفاظ على الهيمنة أحادية القطب، والتغيير العنيف للسلطة، وكذلك لإثارة ثورات ملونة”.
وشدد على أن “واشنطن نفذت في السنوات الأخيرة عمليات عسكرية بشكل غير قانوني في سوريا والعراق وأفغانستان ودول أخرى، أدت إلى كوارث إنسانية خطيرة ومقتل مئات الآلاف من الأشخاص، وأجبر عشرات الملايين على الفرار من منازلهم”.
وكانت “انتقدت بكين، تقريرا حديثا صادر عن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، بعنوان “التطور العسكري والأمني المتعلق بالصين”.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، لين جيان، إن “مثل حال التقارير السابقة من هذا النوع، فإن هذا التقرير الحديث التابع لأمريكا يتجاهل الحقائق، ومليء بالتحيز وينشر رواية التهديد الصيني فقط ليكون بمثابة ذريعة للحفاظ على الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة”.
وتابع لين بأن “الصين ملتزمة بقوة بكونها قوة من أجل السلام والاستقرار والتقدم العالمي، مع حماية سيادتها الوطنية وأمنها وسلامة أراضيها بحزم”.