الدكتور طارق ليساوي أشرت في مقال ” لماذا أرى أن زيارة كيسنجر للصين محاولة لتحيين مخرجات زيارته السرية لبكين عام 1971…؟” إلى أن المصالحة مع اليابان-  العدو التقليدي للصين و مفتاح النهضة الصينية المعاصرة- بدأت بداية بتسوية الخلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية، فقد قام وزير خارجية الولايات المتحدة “كسينجر” بزيارتين سريتين لبكين التقى فيهما”ماوتسي تونع” و” شو إن لاي” عام 1971، قبل الزيارة التاريخية للرئيس نيكسون للصين الشعبية عام 1972 وأعلن الجانبان الصيني و الأمريكي ” بيان شانغهاي”، وفي أول 1979 أقامت الصين و الولايات المتحدة الأمريكية علاقات دبلوماسية، واعترفت الولايات المتحدة بأن حكومة الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة للصين وأن التايوان جزء من البر الصيني.

. المصالحة مع الولايات المتحدة الأمريكية فتحت الباب على مصراعيه لتحقيق تقارب بين اليابان والصين، وتسوية الخلاقات التاريخية الناتجة عن احتلال اليابان للصين، هذه المصالحة شكلت من دون شك أحد أهم روافد الانتقال السياسي والاقتصادي في الصين بعد 1978، ففي اليابان أعلن الرئيس “دونغ شوبينغ” عن رغبة بلاده في تبني مسار تنموي يحاكي النموذج التنموي الياباني، وأعلن عن ترحيبه برؤوس الأموال اليابانية للاستثمار في البر الصيني وفي مقدمة هؤلاء المستثمرين صينيي ما وراء البحار..وسأحاول في هذا المقال التوسع أكثر في مخرجات زيارة كسينجر للصين و تحليل دلالاتها و أبعادها و توقيتها.. و في الزيارة  التي قام بها كيسنجر للصين يوم الثلاثاء 18-07-2023، التقى  بالرئيس الصيني “شي جين بينج”  الذي أخبره أن “الشعب الصيني سيتذكره دائمًا”، كما أشاد كبير دبلوماسيي الصين بحكمة كيسنجر، الذي التقى كذلك بوزير الدفاع الصيني، في حين رفض الأخير عدة طلبات لمقابلة نظيره الأمريكي..  وخلال اللقاء الذي جمع “وانغ يي” وزير الخارجية الصيني السابق والآن كبير دبلوماسييها و كيسنجر، و أثناء لقاء ألمح “وانغ يي” إلى أن بكين كانت تشعر بالحنين إلى الأيام التي كان يدير فيها السياسة الخارجية الأمريكية. ووفقًا لتقرير صيني عن الاجتماع، قال وانغ للأمريكيين: “من المستحيل محاولة تغيير الصين، بل إنه من المستحيل احتواء الصين”. وأضاف أن “السياسة تجاه الصين تتطلب الحكمة الدبلوماسية لكيسنجر والشجاعة السياسية لنيكسون”. و قد أشرت في المقال السابق إلى رمزية كيسنجر و محوريته في تحليل العلاقات الصينية الأمريكية، فبكين غالبا ما تستحضر الفترة التي عمل بها كيسنجر وزيرًا للخارجية، وساعد في تمهيد الطريق لزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون التاريخية للصين، في 1972، الزيارة التي أذابت الجليد وأدت إلى تطبيع العلاقات في نهاية المطاف بين البلدين اللذين طالت بينهما القطيعة. وتمت تسمية رحلة كيسنجر في عام 1971 إلى الصين رمزيا بـ”ماركو بولو”، مما يعني أن المهمة لم تكن معروفة ولا يمكن التنبؤ بها مثل مغامرة التاجر والمستكشف الإيطالي إلى الأرض الشرقية الغامضة في القرن الثالث عشر. وقبل الزيارة، لم تكن بين بكين وواشنطن علاقات دبلوماسية ولا تفاعلات اقتصادية مع بعضهما البعض، في حين هيمنت مخاوف “الصين الحمراء” والمشاعر المناهضة للشيوعية على السياسة الأمريكية. و مع تزايد حدة التباينات و الخلافات بين الصين و أمريكا، يصبح من الضروري و المفيد الاحتكام للبدايات، و بالعودة لكسينجر و كتابه “حول الصين”، يوضح  أنه عندما بدأت الصين والولايات المتحدة في استعادة العلاقات، فإن أهم مساهمة قدمها القادة آنذاك هي رغبتهم في مد نظرهم ما هو أبعد من القضايا المباشرة في ذلك الوقت. ففي حقبة الحرب الباردة، كانت هناك بالفعل اعتبارات جيوسياسية واستراتيجية في التقارب في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة، ولكن تطور العلاقات بين الصين والولايات المتحدة أظهرت أيضا أن الصين والولايات المتحدة، مع أيديولوجيات وثقافات وأنظمة سياسية مختلفة تماما، قادرتان على العيش معا في سلام والانخراط في تعاون مربح للجانبين طالما لديهما الإرادة للعمل من أجل المصالح المشتركة لكلا البلدين وشعبيهما. و الجدير بالذكر أن كيسنجر ليس فقط صديق الصين القديم، وإنما هو صاحب رؤية استراتيجية لواقع ومستقبل النظام الدولي، وفي القلب منه العلاقات بين بلاده والصين. هذا الطرح ينطلق من المصلحة الوطنية الأمريكية تماماً كما تنطلق إدارة بايدن، وكل الإدارات الأمريكية، لكنه لا ينساق مع ما هو مطروح على المستوى الرسمي حيال الصين. فالرجل يتبنى موقف تعايشي أكثر منه تصادمي. ويدرك تماماً أن هناك قضايا لا تحتمل المساومة وعلى رأسها قضية تايوان. و موقفه هذا نابع من خبرته التفاوضية مع الجانب الصيني في سبعينيات القرن الماضي. وقد كان لافتاً إشارة كيسنجر تحديداً إلى بيان شنغهاي الصادر في العام 1972، وضرورة احترام المبادئ التي تضمنها، مع تأكيد خاص من كيسنجر على احترام مبدأ الصين الواحدة. ويعتبر بيان شنغهاي هو البيان الأول ضمن ثلاثة بيانات تصر الصين على أنها تمثل الأساس الحاكم لعلاقاتها مع الولايات المتحدة. لذلك فليس مستغربا أن يؤكد كيسنجر من بكين على أهمية مبدأ الصين الواحدة، ومن ثم يأمل في أن تنتقل العلاقات بين الجانبين إلى المسار الإيجابي. وهو هنا لا يبتعد كثيراً عن جوهر الموقف الصيني الذي مفاده أن قضية تايوان ليست قضية عادية وإنما هي جوهرية فضلاً عن أنها أهم الخطوط الحمر في العلاقات بين البلدين، بما يعنيه ذلك من أن تجاوز هذا الخط أو التلاعب به من شأنه أن يجلب الضرر للعلاقات بين البلدين و بالنظام الدولي و الإقليمي.. و قضية تايوان و الدعم الأمريكي لإستقلال تايوان هي نقطة الخلاف المحورية التي تثير مخاوف القيادة الصينية، و فهم قضية تايوان و أهميتها الحيوية للقوى الكبرى، لا يستقيم دون النظر إلى الأهمية الجيوإستراتيجة لبحر الصين الجنوبي للقوى الكبرى و بخاصة لأمريكا و حلفاءها ، و نظرا لهذه الأهمية يتم  يوصف هذا البحر ب”البحر المسلح ” إذ توجد في مياهه وعلى سواحله قرابة ربع الترسانة العسكرية في العالم، وينظر إليه باعتباره من أسخن البقاع المائية في الكوكب إن لم يكن أسخنها…و استعادة جزيرة تايوان عسكريا يشعل المنطقة مما يعيق تمدد نفوذ الصين في أرخبيل جزر “بارسيل وسبر انكى” المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي الذي تشير بعض التقديرات إلى مرور 35% من تجاره العالم به علما أن الصين تقوم ببناء جزر صناعية في المنطقة تنشأ فيها مطارات وموانئ وقواعد عسكرية في هذا البحر. فاستراتيجية الصين تقوم على تبني سياسة اقتصادية و تجارية بعيدة المدى تمكنها من هضم تايوان دون الحاجة للتدخل العسكري المباشر، وهذا التوجه يجد أنصارا بداخل “تايوان” ذاتها فهناك أصوات سياسية بداخل “تايوان” تدعو للانضمام للصين بغرض الاستفادة من السوق الصيني، فالاستثمارات التايوانية بداخل البر الصيني تتعدى 60 مليار دولار، و يستقر نحو مليون تايواني بالبر الصيني لإدارة أنشطتهم الصناعية والتجارية… و عموما، من الخطأ التفاؤل و الرهان على الصراع بين الصين و أمريكا خاصة بالنسبة للعالم العربي و الإسلامي، لأن التغيير في النظام الدولي و الحد من هيمنة الولايات المتحدة مرتبطة بمدى قدرة الصين على المخاطرة و تحمل أعباء التغيير، و من يدرك عقلية القيادة الصينية و التحديات التي تواجهها- و قد بينا ذلك في أكثر من مقال- سيدرك جيدا بأن الصين ستدعم استمرار النظام الدولي القائم و الترتيبات الأمنية المعمول بها منذ إنهيار المعسكر الشرقي،  و أننا سوف نشهد تحالف بين الصين و أمريكا في القادم من الأيام،  و إن لم يكن صريحا فقد يكون ضمنيا ، أو على الأقل تهدئة الأوضاع بينها و التوصل لنوع من الهدنة خاصة في القضايا الخلافية التي لها تأثير على استقرار النظام الدولي بشقيه السياسي و الاقتصادي-المالي ، و ليس ذلك بفعل قوة أمريكا، وإنما نتيجة لخوف و تردد القيادة الصينية، فأمريكا تراهن على أن الانهيار إذا ما  وقع –و هو واقع لا محالة-  سوف تتضرر منه جميع البلدان و على رأس المتضررين الصين، و الصين بدورها غير مؤهلة للمواجهة و تحمل تكاليفها الباهظة إقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا.. لكن على خلاف مصالح الصين و أمريكا و غيرها من البلدان المتقدمة، فإن تغيير قواعد اللعبة الدولية، قد يخدم عملية التنمية في البلدان النامية و من ضمنها بلدان العالم العربي و الإسلامي، لأن عيوب التنمية التي تعانيها هذه البلدان – في الغالب- هو ميلها أكثر نحو الاستيراد من “الإبرة إلى الصاروخ”، و انخراطها “المفرط” في اتفاقيات التبادل الحر و الاتفاقيات المتعددة الأطراف التي تمت تحث إطار “الغات ” أو “منظمة التجارة العالمية” ، و هو من ضمن العناصر السلبية التي أعاقت عملية التنمية، و جعلت بلداننا مرتبطة أكثر بالخارج و صادراتها في الغالب من المواد الطاقية أو المواد الخام، و هامش السلع ذات القيمة المضافة العالية جد منخفض.. كما أن تحول أولويات الولايات المتحدة باتجاه بحر الصين الجنوبي و المحيط الهادئ و شرق ووسط أسيا عموما ، يعني تراجع أهمية الشرق الأوسط و لعل في ذلك خير لشعوب المنطقة ، لكن في ظل إستمرار قيادات عاجزة فاقدة للشرعية و للرؤية مستقبلية فدار لقمان ستبقى على حالها، و سيظل الخاسر الأكبر الشعوب العربية… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون… إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..

المصدر: رأي اليوم

إقرأ أيضاً:

"الدولي لرفض العنف" يوصي بإشراك المجتمع المدني في إعادة تأهيل المتطرفين

أوصى المشاركون في فعاليات المؤتمر الدولي الثاني "تمكين المجتمع من رفض العنف ومواجهة التطرف الذي يؤدي إلى الإرهاب"، الذي نظمته جمعية "واجب" التطوعية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، واختتمت فعالياته اليوم الأربعاء في أبوظبي، بإشراك المجتمع المدني في تقديم الدعم لإعادة تأهيل المتطرفين، وبالاعتراف بالتهديدات المتزايدة في شبه الجزيرة العربية، خاصةً المرتبطة بـ"داعش" و"القاعدة".

وأكدوا ضرورة منع العنف ومواجهته مجتمعياً وألّا يقتصر ذلك على مؤسسات إنفاذ القانون، ورفع الوعي المجتمعي بشكل دوري ومحوري بمسببات العنف، وباحترام حقوق الإنسان في سياق التطرف العنيف للإرهاب، وكذلك زيادة الأبحاث العلمية والدراسات الأكاديمية المتعلقة بمضامين العنف بما يسهم في احتوائها.

التجربة الإماراتية 

وأجمع المؤتمرون على أهمية التجربة الإماراتية المعنية بتوحيد الخطاب الديني المعتدل، وعلى تعزيز التسامح بين أطياف المجتمع، وتأهيل النزلاء المتطرفين، مؤكدين أهمية وضع برامج مجتمعية متكاملة لحماية الأطفال من العنف، وتمكين المجتمعات من مكافحته.
وأشادوا بالأمم المتحدة وآلياتها التشريعية والفنية المتنوعة في التنسيقات المجتمعية، وأثنوا على مبادرات وزارة الداخلية في دولة الإمارات، ودورها المهم في مواجهة العنف.

التصدي للجريمة 

كما أشادوا بالجهود المجتمعية البارزة لدولة الإمارات في دعم الملفات الدولية للتصدّي للجريمة بشكلٍ عام، والتطرّف والإرهاب بشكلٍ خاص، وفق تشريعاتها وإستراتيجياتها وسياساتها ومبادراتها الهادفة التي تلقى حضوراً دولياً مستداماً.
وأكدوا أهمية انعقاد هذا الحدث الدولي المهم للمرة الثانية في الإمارات، في إطار تفعيل المسؤولية المجتمعية التي تحرص جمعية واجب التطوعية على ترسيخها، ما يسهم في توحيد الجهود الدولية للتوعية بمخاطر هذا النوع من الجرائم، والدعوة إلى قيمتي التعايش والسلام اللتين تنتهجهما الإمارات وقيادتها الرشيدة.
وفي ختام المؤتمر تسلّم الشيخ خليفة بن محمد بن خالد آل نهيان، رئيس مجلس إدارة جمعية "واجب" التطوعية، شهادة شكر، تقديراً وامتناناً لشراكة الجمعية الرئيسية مع الأمم المتحدة، في مجال المشاركة الاجتماعية في نبذ العنف والتطرف.
وفي هذا الإطار، أعلن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة لدول مجلس التعاون الخليجي، رسمياً، أن جمعية واجب التطوعية، تعدّ ذراعاً مجتمعياً لأنشطتها وفعالياتها ومبادراتها المجتمعية.

مقالات مشابهة

  • السفينة الطبية الصينية “HEPINGFANGZHOU 866” ترسو بميناء الجزائر
  • هل تنجح دول الخليج في تحقيق التوازن في علاقاتها الاقتصادية بين الصين والغرب؟
  • خليل الحية: نبحث في كافة الأبواب والطرق التي يمكن من خلالها وقف العدوان
  • “هدية” يبحث مع المسؤول الاقتصادي بسفارة الولايات المتحدة الأمريكية تعزيز التعاون بين البلدين
  • "الدولي لرفض العنف" يوصي بإشراك المجتمع المدني في إعادة تأهيل المتطرفين
  • “ناشئة الشارقة” تحصد جائزة خاصة في مهرجان القاهرة الدولي للطفل العربي
  • النسخة الثانية من معرض “ماركات الهند” تفتح الأبواب أمام تجار التجزئة والموزعين العالميين لاكتشاف أكثر من 150 شركة تصنيع ملابس هندية
  • المستقبل الاقتصادى للعلاقات العربية الأمريكية بعد صعود ترامب (١- ١٠)
  • التنافس الدولي في البحر الأحمر.. تداعيات التحركات الإسرائيلية والفرنسية على الأمن المصري .. والسودان كساحة للتنافس الدولي
  • الخزانة الأمريكية: فرض عقوبات على 6 قادة كبار في حركة حماس