منظمة العفو الدولية: حالة حقوق الإنسان في العالم .. تقرير منظمة العفو الدولية السنوي للعام 2023/24
تاريخ النشر: 3rd, May 2024 GMT
منظمة العفو الدولية تدق ناقوس الخطر بشأن المنعطف التاريخي الحاسم الذي يواجهه القانون الدولي في ظل الانتهاكات الصارخة من جانب الحكومات والشركات
الحكومات القوية تلقي بالبشرية في حقبة تخلو من السيادة الفعالة للقانون الدولي حيث يدفع المدنيون الواقعون في براثن الصراعات أبهظ الأثمان
الذكاء الاصطناعي السريع التغيّر يُطلق له العنان لخلق مرتع خصب للعنصرية، والتمييز، والتفرقة في عام تاريخي حافل بالانتخابات العامة
تصديًا لهذه الانتهاكات، احتشد الناس حول العالم بأعداد غير مسبوقة مطالبين بحماية حقوق الإنسان واحترامها من أجل إنسانيتنا المشتركة
قالت منظمة العفو الدولية إن العالم يجني الحصاد المر من العواقب الوخيمة للصراعات المتفاقمة وشبه انهيار القانون الدولي؛ جاء هذا في التقرير السنوي عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم الذي أصدرته المنظمة، والذي تقيم فيه حالة حقوق الإنسان في 155 بلدًا.
كذلك حذرت منظمة العفو الدولية من أن وتيرة انهيار سيادة القانون سوف تتسارع على الأرجح مع التطور السريع للذكاء الاصطناعي المقترن بهيمنة شركات التكنولوجيا العملاقة الذي ينطوي على خطر تعزيز انتهاكات حقوق الإنسان إذا ظلت اللوائح التنظيمية متخلفة عن مواكبة التطورات في هذا المجال.
وقالت الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كلامار: “يرسم تقرير منظمة العفو الدولية صورة قاتمة للقمع المقلق لحقوق الإنسان وكثرة انتهاكات القواعد الدولية، كل هذا في ظل تفاقم اللامساواة عالميًا، وتنافس القوى العظمى على السيادة، واستفحال أزمة المناخ”.
وأضافت أنياس كلامار قائلة: “لقد أبدت إسرائيل تجاهلًا صارخًا للقانون الدولي زاد من وطأته تقاعس حلفائها عن إنهاء ما يتعرض له المدنيون في غزة من سفك للدماء يستعصي على الوصف. ولقد كان الكثير من هؤلاء الحلفاء هم أنفسهم مصممي النظام القانوني الذي أُرسيَ بعد الحرب العالمية الثانية. وفي ظل العدوان الروسي المستمر على أوكرانيا، وتزايد الصراعات المسلحة، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدتها على سبيل المثال السودان وإثيوبيا وميانمار، يبدو النظام العالمي القائم على القواعد مهددًا بالانهيار.
وكان الاستخدام غير المنضبط للتكنولوجيات الجديدة والمألوفة من عوامل التمكين التي هيأت الأجواء للخروج عن القانون، والتمييز، والإفلات من العقاب أثناء الصراعات وغيرها، حيث بات من الشائع استخدام الأطراف العسكرية والسياسية والمؤسسات لهذه التكنولوجيات كأسلحة. وتساهم منصات شركات التكنولوجيا العملاقة في تأجيج الصراعات؛ وتُستخدم برامج التجسس الإلكتروني وأدوات المراقبة الجماعية في التعدي على الحقوق والحريات، في حين تستخدم بعض الحكومات أدوات آلية تستهدف أشد الفئات تهميشًا في المجتمع.
وأردفت أنياس كلامار: “في عالم محفوف بالمخاطر المتزايدة، يمكن أن يكون انتشار واستخدام بعض التكنولوجيات بشكل غير منظّم، من قبيل الذكاء الاصطناعي التوليدي وتكنولوجيات التعرف على الوجه وبرامج التجسس الإلكتروني، بمثابة عدو خبيث؛ إذ قد يؤديان إلى تأجيج انتهاكات القانون الدولي وتصعيدها إلى مستويات استثنائية”.
وأوضحت أنياس كلامار: “خلال عام حاسم حافل بالانتخابات، وفي مواجهة جماعة ضغط متنامية النفوذ ومناهضة للوائح التنظيمية، تدفعها وتمولها شركات التكنولوجيا العملاقة، أصبحت هذه التطورات التكنولوجية الجامحة وغير المنظمة تشكِّل خطرًا جسيمًا يهددنا جميعًا؛ فيمكن استخدامها كسلاح للتمييز والتضليل والتفرقة”.
اقرأوا المزيد عن أكبر بواعث قلق بشأن حقوق الإنسان تساور باحثي منظمة العفو الدولية في عام 2023/24.
يرسم تقرير منظمة العفو الدولية صورة قاتمة للقمع المقلق لحقوق الإنسان وكثرة انتهاكات القواعد الدولية، كل هذا في ظل تفاقم اللامساواة عالميًا، وتنافس القوى العظمى على السيادة، واستفحال أزمة المناخ
لأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية أنياس كلامار
نزّلوا التقرير
العربية
المدنيون الواقعون في براثن الصراع يدفعون أبهظ الأثمان بينما تضرب الدول بالقانون الدولي عرض الحائط
يقدم تقرير منظمة العفو الدولية تقييمًا مجردًا يبيِّن خيانة الزعماء والمؤسسات اليوم لمبادئ حقوق الإنسان؛ ففي مواجهة الصراعات المتعددة، أقدمت الكثير من الدول القوية على أفعال تلحق المزيد من الضرر بمصداقية النهج المتعدد الأطراف، وتقوض النظام العالمي القائم على القواعد الذي أرسيت أركانه لأول مرة عام 1954.
وفي الصراع المستمر الذي كان بمثابة السمة الرئيسية لعام 2023، لا تزال تتصاعد أدلة جرائم الحرب بينما تستهزئ الحكومة الإسرائيلية بالقانون الدولي. ففي أعقاب الهجمات المروعة التي شنتها حماس وغيرها من الجماعات المسلحة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ردت السلطات الإسرائيلية بشن غارات جوية بلا هوادة على مناطق مأهولة بالسكان المدنيين، فأبادت في كثير من الأحيان عائلات بأكملها وهجّرت قرابة 1.9 مليون فلسطيني قسرًا، وفرضت قيود تحول دون وصول المساعدات الإنسانية التي بات السكان في أمسّ الحاجة إليها، بالرغم من المجاعة المتزايدة في غزة.
ويشير التقرير إلى استخدام الولايات المتحدة الأمريكية السافر لحقها في النقض (الفيتو) لشل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لعدة أشهر ومنعه من اتخاذ قرار بالغ الضرورة لوقف إطلاق النار في غزة، فيما تواصل تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر التي تستخدمها في اقتراف ما يرقى، على الأرجح، إلى جرائم حرب. كما يسلط التقرير الضوء على الازدواجية البشعة في معايير بعض البلدان الأوروبية مثل المملكة المتحدة وألمانيا، بحيث تعبر عن احتجاجها الوجيه على جرائم الحرب من جانب روسيا وحماس، بينما تؤيد أفعال السلطات الإسرائيلية والأمريكية في هذا الصراع.
ما شهدناه في عام 2023 يؤكد أن الكثير من الدول النافذة تتخلى عن القيم الأساسية للإنسانية والعالمية المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
أنياس كالامار
وقالت أنياس كالامار: “إن تقاعس المجتمع الدولي المثير للحيرة والاستغراب في حماية الآلاف من المدنيين – من بينهم أطفال بنسبة مرتفعة ومروعة – من القتل في قطاع غزة المحتل يظهر جليًّا أن المؤسسات التي أنشئت خصيصًا لحماية المدنيين وتعزيز حقوق الإنسان لم تعد تصلح لهذا الغرض. ما شهدناه في عام 2023 يؤكد أن الكثير من الدول النافذة تتخلى عن القيم الأساسية للإنسانية والعالمية المكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.
ويوثق التقرير كذلك الخرق السافر للقواعد من جانب القوات الروسية أثناء غزوها واسع النطاق لأوكرانيا؛ إذ يسلط الضوء على الهجمات العشوائية على المناطق المدنية المكتظة بالسكان، وكذلك البنية التحتية للطاقة وتصدير الحبوب؛ وإخضاع أسرى الحرب للتعذيب أو غيره من ضروب المعاملة السيئة. وهذا فضلًا عن التلوث البيئي واسع النطاق الناجم عن أفعال من بينها التدمير المتعمد، حسبما يبدو، لسد كاخوفكا يُعتقد على نطاق واسع أن القوات الروسية قد نفّذته.
كما شنت قوات الجيش الميانماري والميليشيات الموالية لها هجمات على المدنيين أدت إلى مقتل أكثر من 1,000 منهم خلال عام 2023 وحده. ولم تستجب الحكومتان الروسية والميانمارية للتقارير التي تتحدث عن انتهاكات صارخة، ولم تُبدِ أي التزام بإجراء تحقيقات بشأنها. وتلقت كلتا الحكومتين دعمًا ماليًا وعسكريًا من الصين.
وفي السودان، لم يكد الطرفان المتحاربان، وهما القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، يعيران اهتمامًا للقانون الدولي الإنساني وهما يشنان هجمات مستهدفة أدت إلى سقوط قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، ويطلقان الأسلحة المتفجرة من وسط أحياء مكتظة بالسكان، مما أسفر عن مقتل 12,000 شخص خلال عام 2023. وفجر هذا الصراع أكبر أزمة نزوح في العالم، حيث اضطر أكثر من 8 ملايين شخص للفرار من ديارهم. ومع غياب أي مؤشرات على قرب انتهاء الصراع، تبدو أزمة الجوع الذي يتضور منه السودان منذ شهور قاب قوسين أو أدنى من التحول إلى مجاعة.
Palestinians evacuate the area following an Israeli airstrike on the Sousi mosque in Gaza City on October 9, 2023.
© Mahmud HAMS / AFP
فلسطينيون يخلون المنطقة بعد غارة جوية إسرائيلية على مسجد السوسي في مدينة غزة في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
People pass a bag from a small dinghy up to a person leaning out a window.
© GENYA SAVILOV/AFP via Getty Images
جنود من الحرس الوطني الأوكراني يوصلون الطعام إلى سكان منطقة غمرتها المياه في خيرسون في 8 يونيو/حزيران 2023، إثر الأضرار التي لحقت بسد محطة كاخوفكا لتوليد الطاقة الكهرومائية. اتهمت كل من أوكرانيا وروسيا بعضهما البعض بقصف منطقة خيرسون التي غمرتها مياه الفيضانات حتى في الوقت الذي سارع فيه رجال الإنقاذ لإنقاذ الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل بعد أن تسبب تدمير سدّ تسيطر عليه روسيا بإطلاق سيل من المياه.
Women and children wait in a long queue with containers to fill with water.
© Amnesty International
لاجئون سودانيون يقفون في صف لجلب المياه في أدري، شرق تشاد، 26 يونيو/حزيران 2023.
التكنولوجيا المستخدمة في تأجيج الكراهية والتفرقة والتمييز تشكل خطرًا في عام حاسم حافل بالانتخابات
تبيَّن لمنظمة العفو الدولية أن الأطراف السياسية الفاعلة في كثير من أنحاء العالم تصعِّد هجماتها على النساء وأفراد مجتمع الميم والمجتمعات المهمشة التي ظلت على مر التاريخ تُعتبر كبش فداء لتحقيق مآرب سياسية ومكاسب انتخابية. ويتزايد على نحو مطرد استخدام التكنولوجيات الجديدة والقائمة كسلاح لمساعدة وتحريض هذه القوى السياسية القمعية على بث المعلومات المضللة، وتأليب المجتمعات بعضها ضد بعض، والتهجم على الأقليات.
كما يشير التقرير إلى التوسع في استخدام التكنولوجيات القائمة في ترسيخ السياسات التمييزية؛ فقد لجأت دول مثل الأرجنتين والبرازيل والمملكة المتحدة والهند بصورة متزايدة لاستخدام تكنولوجيات التعرف على الوجه في عمليات ضبط الأمن خلال التظاهرات العامة والفعاليات الرياضية، والتمييز ضد الفئات المهمشة – وخصوصًا المهاجرين واللاجئين. فعلى سبيل المثال، ردًا على إجراء قانوني اتخذته منظمة العفو الدولية، كشفت إدارة شرطة نيويورك في عام 2023 النقاب عن استخدامها لهذه التكنولوجيا في إخضاع مظاهرات حركة “حياة السود مهمة” في المدينة للمراقبة.
ولم يكن هذا الاستخدام الشائن لتكنولوجيا التعرف على الوجه أكثر تفشيًا في أي مكان منه في الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث استخدمته إسرائيل لتوطيد قيودها على حرية التنقل، والإبقاء على نظام الأبارتهايد.
وفي صربيا، أدى استحداث نظام جديد شبه آلي للرعاية الاجتماعية إلى حرمان الآلاف من الأشخاص من الوصول إلى المساعدة الاجتماعية الحيوية، وأضرَّ ذلك على وجه الخصوص بطائفة الروما والأشخاص ذوي الإعاقة، مما يظهر كيف يمكن للأتمتة غير المنضبطة أن تفاقم اللامساواة.
ويوضح التقرير كيف أنه بينما يلوذ الملايين من الناس بالفرار من الصراعات حول العالم، جرى الاعتماد على التكنولوجيات على نحو مسيء في إدارة عمليات الهجرة وإنفاذ الإجراءات على حدود البلدان، بوسائل تضمنت الاستعانة بالبدائل الرقمية للاحتجاز، وتقنيات خارجية لضبط الحدود، وبرمجيات تحليل البيانات، والتقنيات البيومترية، والأنظمة الخوارزمية لاتخاذ القرارات. ومن شأن انتشار هذه التقنيات أن يديم ويرسخ التمييز والعنصرية والمراقبة غير المتناسبة وغير القانونية ضد الفئات المصنفة بالانتماء إلى عرق معيّن.
ومن جهة أخرى، ظلت برامج التجسس الإلكتروني إلى حد بعيد غير منظّمة بالرغم من تراكم الأدلة على المدى الطويل على ما تؤدي إليه من انتهاكات لحقوق الإنسان، يكون من بين المستهدفين بها عادة نشطاء في المنفى، وصحفيون، ومدافعون عن حقوق الإنسان. وخلال عام 2023، كشفت منظمة العفو الدولية عن استخدام برمجية بيغاسوس بحق صحفيين ونشطاء من المجتمع المدني في بلدان من بينها أرمينيا، والجمهورية الدومنيكية، والهند، وصربيا؛ بينما كانت برمجيات التجسس المطوّرة داخل الاتحاد الأوروبي، والخاضعة للوائحه التنظيمية، تباع بحرية لدول في مختلف أرجاء العالم.
يسهم نموذج العمل القائم على المراقبة الذي تنتهجه شركات التكنولوجيا العملاقة في صب الزيت على نيران الكراهية، مما يمكِّن أصحاب النوايا السيئة من ملاحقة الآخرين ومضايقتهم وتجريدهم من إنسانيتهم، وتضخيم سرديات خطيرة بهدف توطيد النفوذ أو كسب أصوات الناخبين.
أنياس كالامار
وعلى مدى العام المنصرم، أحدث مسار النمو السريع للذكاء الاصطناعي التوليدي تحولًا في حجم الخطر الذي تشكله مختلف التكنولوجيات القائمة أصلًا– من برامج التجسس إلى الأتمتة الحكومية والخوارزميات الجامحة في وسائل التواصل الاجتماعي.
وإزاء هذه التطورات المتلاحقة بسرعة ونَهَم، ظلت اللوائح التنظيمية راكدة إلى حد بعيد؛ ولكن لاح في الأفق مؤشر على أن صناع السياسات الأوروبيين قد بدأوا في التحرك بالفعل، إذ دخل حيز التنفيذ في فبراير/شباط 2024 قانون تاريخي للخدمات الرقمية في الاتحاد الأوروبي؛ ورغم ما يشوب هذا القانون من أوجه قصور ونقص، فقد أثار نقاشًا عالميًا تشتد الحاجة إليه حول إخضاع الذكاء الاصطناعي لضوابط تنظيمية.
ونوّهت أنياس كالامار قائلةً: “هناك هوّة كبيرة بين المخاطر التي ينطوي عليها تطور التكنولوجيات بلا ضابط ولا رابط، وما ينبغي أن تكون عليه الأوضاع من حيث التنظيم والحماية. إنها قراءة لمآلات مستقبلنا، ولن تزداد هذه الصورة إلا قتامةً ما لم يتم إلجام الانتشار الجامح للتكنولوجيا غير المنظَّمة”.
وقد كشفت منظمة العفو الدولية كيف ساهمت خوارزميات فيسبوك في تأجيج العنف الإثني في إثيوبيا في سياق الصراع المسلح؛ وهذا مثال نموذجي يظهر كيف تُستخدم التكنولوجيا كسلاح لتأليب المجتمعات بعضها ضد بعض، وخصوصًا في أوقات الاضطرابات.
وتتوقع منظمة العفو الدولية أن تتفاقم هذه المشكلات في سنة تشهد انتخابات حاسمة حيث يقوم نموذج العمل الذي ترتكز عليه كبرى منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وإنستغرام وتيك توك ويوتيوب، بدور العامل المحفِّز لانتهاكات حقوق الإنسان في سياق الانتخابات.
وقالت أنياس كالامار: “لقد رأينا كيف يتم تضخيم ونشر الكراهية والتمييز والتضليل بواسطة خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي التي صيغت على الوجه الأمثل الذي يمكّنها من تحقيق أقصى قدر من ’ التفاعل‘ فوق أي اعتبار. وتنشئ هذه الخوارزميات حلقة لانهائية وخطيرة من المعلومات المرتدة، خصوصًا في أوقات تتسم بحساسية سياسية مرتفعة. فتستطيع الأدوات أن تولِّد صورًا وتسجيلات صوتية ومرئية تركيبية في ثوانٍ معدودة، فضلًا عن استهداف جماعات معينة من الجمهور على نطاق واسع. ولكن اللوائح التنظيمية الانتخابية لم تتصدَّ لهذا الخطر بعد. وحتى اليوم، ما أكثر ما سمعنا من الأقوال وما أقل ما رأينا من الأفعال”.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني، ستجري الانتخابات الرئاسية الأمريكية في ظل تصاعد موجة التمييز والمضايقات والإساءات على منصات التواصل الاجتماعي ضد الفئات المهمشة، ومن بينها مجتمع الميم. كما أصبح المحتوى المناهض للإجهاض، والمفعم بالتهديد والتخويف، متفشيًا على نطاق واسع.
ومن المزمع أن يدلي نحو مليار شخص بأصواتهم في الانتخابات الهندية هذا العام في أجواء تخيم عليها الاعتداءات على المتظاهرين السلميين والتمييز الممنهج ضد الأقليات الدينية. وفي عام 2023، أظهرت منظمة العفو الدولية أن برامج التجسس المنتهكة للخصوصية قد استخدمت في استهداف الصحفيين الهنود البارزين، وبصفة عامة أصبحت منصات التكنولوجيا ساحات للمعارك السياسية.
وأضافت أنياس كالامار: “لطالما لجأ السياسيون للتلاعب بسرديات تقوم على الانقسام إلى معسكرَيْن، “نحن وهُم”، لكسب الأصوات والتملص من الأسئلة المشروعة بشأن المخاوف الاقتصادية والأمنية. ولقد رأينا كيف استخدمت التكنولوجيات غير المنظَّمة، مثل تكنولوجيا التعرف على الوجه، في ترسيخ التمييز. وإلى جانب هذا، يسهم نموذج العمل القائم على المراقبة الذي تنتهجه شركات التكنولوجيا العملاقة في صب الزيت على نيران الكراهية، مما يمكِّن أصحاب النوايا السيئة من ملاحقة الآخرين ومضايقتهم وتجريدهم من إنسانيتهم، وتضخيم سرديات خطيرة بهدف توطيد النفوذ أو كسب أصوات الناخبين. إنه شبح مخيف لما يؤول إليه المستقبل عندما تتجاوز التطورات التكنولوجية الجشعة المساءلة”.
التكنولوجيا غير المنظّمة تزيد إلى حد كبير من انتهاكات حقوق الإنسان
1. تؤدي إلى
تفاقم انعدام المساواة
تستخدم الحكومات التكنولوجيا لتعزيز السياسات التمييزية التي تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة العرقية وغيرها من أشكال عدم المساواة.
2.
تقوّض الحق في التظاهر السلمي
an icon of protest placards
تنشر الحكومات المراقبة الجماعية بالفيديو، وتستعمل سرًا برامج بيومترية وبرامج تكنولوجيا التعرف على الوجه، وتعترض اتصالات شخصية للحد من الاحتجاجات السلمية.
3. تؤجج الكراهية عبر الإنترنت”
وسائل التواصل الاجتماعي الرئيسية في عملها نماذج أعمال قائمة على المراقبة يمكن أن تكون بمثابة محفّز لانتهاكات حقوق الإنسان في سياقات مثل الانتخابات.
يجب على المشرعين إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان فيما يخص اللوائح التنظيمية للتكنولوجيا
ينبغي للحكومات أن تتخذ خطوات تشريعية وتنظيمية قوية لمعالجة المخاطر والأضرار الناجمة عن إساءة استخدام التكنولوجيا.
تعبئة عالمية غير مسبوقة
قالت أنياس كالامار: “لقد شهدنا كيف تلقي بنا أفعال الأطراف النافذة من الدول وغير الدول في الفوضى الضاربة في عالم يخلو من القواعد الفعالة، حيث صار التربح بلا رحمة من التكنولوجيات الثورية، في ظل غياب أي حوكمة فعالة، هو القاعدة السارية. ولكن بينما تقاعست الكثير من الحكومات عن الامتثال للقانون الدولي، رأينا كذلك حكومات أخرى تحث المؤسسات الدولية على تنفيذ سيادة القانون. وفي حين تخلف الزعماء في مختلف أنحاء العالم عن نصرة حقوق الإنسان، رأينا أناسًا ينتفضون للتظاهر والاحتجاج وتقديم العرائض من أجل مستقبل أكثر إشراقًا”.
أشعل النزاع بين إسرائيل وحماس فتيل مئات المظاهرات حول العالم؛ وطالب المتظاهرون بوقف إطلاق النار لإنهاء المعاناة الهائلة للفلسطينيين في غزة، وكذلك إطلاق سراح جميع الرهائن المحتجزين لدى حماس وغيرها من الجماعات المسلحة، قبل أن تطالب الكثير من الحكومات بذلك بفترة طويلة. وفي مناطق أخرى، خرج المتظاهرون إلى الشوارع في الولايات المتحدة الأمريكية والسلفادور وبولندا للمطالبة بالحق في الإجهاض مع تزايد ردود الفعل القوية ضد العدالة المتعلقة بالنوع الاجتماعي. وفي شتى أنحاء العالم، شارك الآلاف في حركة أيام الجمعة من أجل المستقبل (Fridays For Future)، التي يقودها الشباب، مطالبين بالتخلص التدريجي العادل والسريع من الوقود الأحفوري.
وأدت الحملات المتواصلة بلا كلل ولا ملل أيضًا إلى عدد من المكاسب المهمة على صعيد حقوق الإنسان خلال عام 2023؛ ففي أعقاب جهود المناصرة التي قامت بها حركة #أنا_أيضًا (#MeToo) في تايوان وغيرها من منظمات المجتمع المدني بهدف القضاء على العنف الجنسي على الإنترنت، أقرت الحكومة تعديلًا لـ “قانون منع جريمة الاعتداء الجنسي” في تايوان.
لقد أوضح الناس بجلاء أنهم يريدون حقوقهم، وعلى الحكومات أن تثبت أنها تنصت إلى أصواتهم.
أنياس كالامار
وعلى الرغم من قصور الدورة الثامنة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (كوب 28) عن تحقيق الغاية المنشودة، كان الاتفاق المنبثق عنها بـ”التحول عن” الوقود الأحفوري هو المرة الأولى التي يرد فيها ذكر الوقود الأحفوري في قرارات مؤتمر الأطراف. وفي أعقاب نضال دام سنوات، تم أخيرًا تبرئة أربعة من المدافعين عن حقوق الإنسان في تركيا في قضية بويوكادا، وهم تانر كيليش وإيديل إيسر وأوزليم دالكيران وغونل كورشون، الذين أدينوا في يوليو/تموز 2020 بتهم لا أساس لها.
وفي أحد الأمثلة الكثيرة، أفرج عن الناشط الأفغاني في مجال حقوق التعليم مطيع الله ويسا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بعد أشهر من النضال؛ وكان قد أمضى نحو سبعة أشهر في السجن بسبب دفاعه عن حق الفتيات في التعليم، وانتقاده سياسة طالبان التي تمنع الفتيات من تلقي التعليم الثانوي.
وقالت أنياس كالامار: “إن الحق في الاحتجاج مهم جدًا لتسليط الضوء على الانتهاكات ومسؤوليات الزعماء. لقد أوضح الناس بجلاء أنهم يريدون حقوقهم، وعلى الحكومات أن تثبت أنها تنصت إلى أصواتهم”.
واختمت أنياس كلامار قائلة: “نظرًا للوضع الراهن القاتم في العالم، يتعين اتخاذ تدابير عاجلة لتنشيط وتجديد المؤسسات الدولية التي تهدف إلى حماية الإنسانية. لا بد من اتخاذ خطوات لإصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بحيث لا يظل بإمكان الدول دائمة العضوية ممارسة حقها في النقض بلا ضابط ولا رابط لمنع حماية المدنيين وتعزيز تحالفاتها الجيوسياسية. ويجب على الحكومات أيضًا اتخاذ خطوات تشريعية وتنظيمية حازمة للتصدي للمخاطر والأضرار الناجمة عن تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، وكبح جماح شركات التكنولوجيا العملاقة”.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: انتهاکات حقوق الإنسان التواصل الاجتماعی الذکاء الاصطناعی التعرف على الوجه حقوق الإنسان فی القانون الدولی للقانون الدولی لحقوق الإنسان برامج التجسس خلال عام 2023 القائم على الکثیر من وغیرها من فی العالم فی عام 2023 من الدول فی غزة
إقرأ أيضاً:
مصر تحت المجهر الدولي: ماذا كشف الاستعراض الدوري الشامل عن حقوق الإنسان؟
تُعد آلية الاستعراض الدوري الشامل (UPR) واحدة من أهم الأدوات التي يعتمدها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لمتابعة وتحسين أوضاع حقوق الإنسان في الدول الأعضاء. تعتمد هذه الآلية على تقديم تقارير وطنية من قبل الحكومات، إلى جانب تقارير صادرة عن المنظمات غير الحكومية وآليات الأمم المتحدة، مما يوفر فرصة للدول لعرض إنجازاتها والتحديات التي تواجهها، وفي الوقت ذاته، يتيح للمجتمع الدولي تقييم مدى التزامها بالمعايير الحقوقية الدولية.
ورغم أهمية هذه الآلية، إلا أنها تكشف عن تداخل عميق بين السياسة وحقوق الإنسان، مما يخلق معضلة أمام العديد من الحكومات في كيفية التعامل معها. فالدول، وخاصة الداعمة للنظام المصري، تجد نفسها أمام خيارات صعبة:
- الضغط العلني من أجل تحسين أوضاع حقوق الإنسان، وهو ما قد يؤدي إلى توتر العلاقات السياسية مع الحكومة المصرية.
- التزام الصمت أو تقديم دعم غير مشروط، مما يعرض هذه الدول لانتقادات داخلية من قبل منظمات المجتمع المدني والمجتمعات الحقوقية.
وفي محاولة لتحقيق توازن دبلوماسي، تلجأ بعض الدول إلى نهج حذر، حيث تقدم دعما شكليا للحكومة المصرية، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على مصداقيتها الحقوقية عبر صياغة توصيات واضحة. وهذا يضع الحكومة المصرية أمام مجموعة كبيرة من المطالب الحقوقية التي لا يمكن تجاهلها.
مع مرور الوقت، تواجه الحكومة المصرية ضغوطا متزايدة حول مدى تنفيذ هذه التوصيات، بينما تكتسب المنظمات الحقوقية مساحة أوسع لمساءلة الحكومة المصرية أمام المجتمع الدولي. ويؤدي ذلك إلى تصعيد تدريجي للضغط الحقوقي الدولي، مما يجعل من الصعب على الحكومة التنصل من التزاماتها أو تجاهل التوصيات بالكامل.
تواجه الحكومة المصرية ضغوطا متزايدة حول مدى تنفيذ هذه التوصيات، بينما تكتسب المنظمات الحقوقية مساحة أوسع لمساءلة الحكومة المصرية أمام المجتمع الدولي. ويؤدي ذلك إلى تصعيد تدريجي للضغط الحقوقي الدولي، مما يجعل من الصعب على الحكومة التنصل من التزاماتها أو تجاهل التوصيات بالكامل
في هذا السياق، خضعت مصر مؤخرا لمراجعة ملفها الحقوقي أمام آلية الاستعراض الدوري الشامل، حيث تلقت توصيات متعددة من مجموعة واسعة من الدول، تناولت قضايا متنوعة، من بينها الحريات المدنية وحرية التعبير وحقوق المرأة والمساواة الجندرية وظروف الاحتجاز والمعاملة داخل السجون.
لقد كانت استراتيجية عملنا على ملف الاستعراض الدوري الشامل الخاص بمصر منذ البداية مدركة أن السياق السياسي الدولي والإقليمي الحالي قد يؤثر على مدى اهتمام الدول بملف حقوق الإنسان في مصر، لذا كان لا بد من تبني استراتيجية أكثر دقة وفعالية. تمثل النجاح في تركيز الجهود على عدد محدد من التوصيات، تسلط الضوء على أبرز الانتهاكات المتكررة، بحيث لا تقتصر عملية التوثيق على تقارير المجتمع المدني، بل تمتد أيضا إلى مداخلات الدول نفسها خلال جلسات الاستعراض.
بهذه الطريقة، تصبح القضايا المطروحة ليست مجرد مطالب حقوقية، بل أيضا ملفات سياسية ذات أهمية دولية، مما يعزز من قوة التوصيات، ويجعلها أكثر صعوبة على الحكومة المصرية لتجاهلها أو الالتفاف حولها.
فكلما كانت التوصيات واضحة ومحددة، زادت فعاليتها في إبراز القضايا ذات الأولوية، مما يقلل من إمكانية المراوغة أو الالتفاف السياسي عليها. فحين يتم طرح توصيات دقيقة، يصبح من الصعب على الحكومات التهرب من الاستجابة عبر أساليب مثل وضعها تحت بند "الملاحظة" دون التزام فعلي، أو تقديم ردود عامة غير حاسمة.
إن التركيز على قضايا محورية يجبر الدول على تقديم إجابات واضحة، ويعزز من آليات المساءلة الدولية، مما يسهم في تصاعد الضغوط الدولية، ودفع الحكومات نحو الوفاء بالتزاماتها الحقوقية.
وقد كشفت هذه المراجعة عن مشاهد متباينة، من ناحية التوصيات ومن ناحية الدول التي قدمتها، حيث جاءت بعض التوصيات مشيدة ببعض الإصلاحات، بينما صدرت انتقادات حادة للعديد من الملفات الحقوقية العالقة. وهو ما يعكس الحاجة إلى تحليل هذه المراجعة بعمق لضمان الاستفادة منها في تحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر والاستجابة للضغوط الدولية المتزايدة.
مشاهدات من واقع المراجعة
أولا: مشاركة دولية واسعة وغير مسبوقة: شهدت هذه الدورة إقبالا غير مسبوق من الدول على مراجعة ملف مصر، حيث شاركت 137 دولة للمرة الأولى، مقارنة بـ125 دولة في عام 2019، و113 دولة في 2014، و44 دولة فقط في 2010. يعكس هذا الارتفاع الكبير تزايد الاهتمام الدولي بملف حقوق الإنسان، وحرص عدد متنامٍ من الدول على تقييم الوضع الحقوقي في مصر ومناقشته.
ورغم أن عدد التوصيات الصادرة عن 137 دولة خلال هذه الدورة كان أقل من تلك التي قُدمت من 125 دولة في عام 2019، إلا أن مضمون التوصيات كان أكثر قوة ووضوحا، حيث تناولت بشكل صريح الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مصر.
ثانيا: الأرقام في مواجهه السردية: قد يكون الوفد المصري قد حقق مكسبا شكليا في مواجهة "الأرقام" خلال هذه المراجعة، بالنظر إلى الانخفاض الطفيف في عدد التوصيات المقدمة مقارنة بالدورة السابقة، وهو ما قد يُستخدم لترويج فكرة تراجع حجم الانتقادات الدولية. إلا أن الأرقام وحدها لا تكفي لتعكس نجاحا حقيقيا، إذ إن التحدي الأبرز كان في "السردية"، وهي المعركة التي لم ينجح الوفد المصري في كسبها.
فبالرغم من انخفاض عدد التوصيات مقارنة بعام 2019، جاء محتوى التوصيات هذا العام أكثر صراحة وحِدّة في انتقاد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مصر. كما أن الدول التي قدّمت هذه التوصيات، بما في ذلك دول أفريقية وعربية كانت في السابق تلتزم الحياد أو تقدم الدعم التقليدي، تشير إلى تحول واضح في السردية الدولية تجاه الوضع الحقوقي في مصر.
ورغم محاولات الوفد المصري الترويج لسردية الإصلاح والتقدم في مجال الحقوق والحريات، واجه هذا الخطاب تشكيكا ملحوظا من الدول المشاركة والمجتمع الدولي. وقد بدا ذلك جليا في الانتقادات الموجهة حول عدم التوقيع على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمناهضة التعذيب والاختفاء القسري، بالإضافة إلى العجز عن تبرير عدم تنفيذ العديد من التوصيات السابقة.
وعليه، ورغم الجهود الحكومية للسيطرة على سردية ملف حقوق الإنسان، أكدت هذه المراجعة أن هناك إجماعا دوليا متزايدا على وجود تحديات حقوقية لا يمكن تجاهلها. وبالتالي، فإن المواجهة لم تكن في عدد التوصيات بقدر ما كانت في قوة المطالب الدولية ومدى قدرة الحكومة المصرية على تقديم استجابات عملية ومقنعة لتلك المطالب.
ثالثا: قوة المجتمع الحقوقي المصري المستقل: تميزت هذه الدورة من آلية الاستعراض الدوري الشامل بحدث غير مسبوق منذ عام 2010، حيث شهدت تلاحم طرفي المجتمع المدني المصري، سواء في الداخل أو الخارج، في مواجهة مشتركة. هذا التطور المهم انعكس على قوة ملف المنظمات الحقوقية ومدى تماسكه، إذ جاءت التوصيات المقدمة واضحة وحاسمة، دون أي التباس أو تساهل في المطالب.
للمرة الأولى منذ سنوات، برز اصطفاف منظمات المجتمع المدني المصري حول قضايا محددة، مما عزز من تأثير التوصيات وجعلها أكثر إلحاحا على المستوى الدولي. وقد شكل هذا التكاتف ضغطا حقيقيا على النظام المصري، الذي اضطر إلى التعامل مع هذه المطالب الحقوقية بجدية أكبر.
أكدت هذه المراجعة أن الخطاب الحقوقي المصري بات أكثر توحيدا وتماسكا، متجاوزا الانقسامات المصطنعة، ليؤكد أن القضية الجوهرية تظل الدفاع عن الحقوق والحريات، بغض النظر عن موقع المدافعين عنها
إن ما يميز المجتمع الحقوقي المصري هو صلابته في مواجهة القمع والانتهاكات، حيث أثبتت التجربة أنه كلما زادت الضغوط والتحديات، ازداد تماسكه وإصراره على الدفاع عن حقوق الإنسان. وما حدث خلال هذه الدورة يشكل نقطة تحول في محاولات تفكيك هذا المجتمع عبر الترويج لمصطلحات مثل "الداخل والخارج" في أعمال المناصرة الحقوقية. فقد أكدت هذه المراجعة أن الخطاب الحقوقي المصري بات أكثر توحيدا وتماسكا، متجاوزا الانقسامات المصطنعة، ليؤكد أن القضية الجوهرية تظل الدفاع عن الحقوق والحريات، بغض النظر عن موقع المدافعين عنها.
هذا الالتفاف حول رؤية حقوقية موحدة يمنح المطالب الحقوقية قوة إضافية، ويجعل من الصعب تجاهلها أو الالتفاف عليها من قبل السلطة، مما يعزز من تأثيرها على المستويين المحلي والدولي.
رابعا: المتغير الأمريكي الروسي الصيني: شهدت هذه الدورة من آلية الاستعراض الدوري الشامل غيابا غير معتاد للولايات المتحدة الأمريكية، حيث لم تشارك للمرة الأولى، رغم تقديمها خمس أسئلة مسبقة للحكومة المصرية قبل الجلسة. يعد هذا التطور محورا هاما للتحليل، نظرا لتداعياته المحتملة على مستوى مشاركة الدول وتأثيرها في النقاشات المتعلقة بحقوق الإنسان في مصر.
يثير هذا الغياب تساؤلات حول مدى تغير الأولويات الدبلوماسية الأمريكية تجاه الملف الحقوقي المصري، وما إذا كان يعكس تحولا في استراتيجيات الضغط أو إعادة تقييم للنهج المتبع في التعامل مع الحكومة المصرية. كما أنه قد يؤثر على الديناميكيات الدولية داخل مجلس حقوق الإنسان، حيث اعتادت الولايات المتحدة لعب دور بارز في تسليط الضوء على قضايا حقوق الإنسان. ومع ذلك، لم يمنع غيابها من صدور توصيات قوية ومباشرة من العديد من الدول الأخرى، مما يعكس اتساع دائرة الاهتمام الدولي بوضع حقوق الإنسان في مصر.
في المقابل، شهدت الجلسة تطورا غير معتاد تمثل في تقديم روسيا توصية بشأن التعذيب في مصر، وهو ما يشكل تحولا في موقفها التقليدي، حيث كانت غالبا ما تدعم الحكومة المصرية دون انتقاد سجلها الحقوقي. يعكس هذا التغيير تحولات أوسع في مواقف بعض الدول تجاه الملف الحقوقي المصري، حيث بدأت بعض الحلفاء التقليديين للحكومة المصرية في تبني مواقف أكثر وضوحا إزاء الانتهاكات الحقوقية.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الصين أيضا غيّرت من طبيعة توصياتها، فإن هذا يعزز من أهمية هذا التحول. فبينما قدمت أربع توصيات في عام 2019، اكتفت هذه الدورة بتوصيتين فقط، كان أبرزها توصية تتعلق بالإصلاحات الاقتصادية، حيث دعت مصر إلى "مواصلة تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية لتحقيق التنمية المستدامة". يُعد هذا التوجه الجديد مؤشرا على تغير في أولويات الصين تجاه الملف المصري، أو على الأقل، تراجع مستوى التأييد غير المشروط الذي اعتادت القاهرة تلقيه من بعض حلفائها الرئيسيين.
هذا التحول في مواقف كل من روسيا والصين، وهما من أكثر الدول دعما لمصر في المحافل الدولية، يشير إلى أن التقييم الدولي لأوضاع حقوق الإنسان في مصر لم يعد مقتصرا على الدول الغربية فقط، بل أصبح موضع نقاش أوسع حتى بين الدول التي كانت تُعتبر سابقا حليفا غير ناقد للحكومة المصرية.
خامسا: المتغير الأفريقي: شهدت هذه الدورة من آلية الاستعراض الدوري الشامل زيادة ملحوظة في عدد الدول الأفريقية المشاركة، إلى جانب تغير جوهري في طبيعة التوصيات المقدمة. ففي حين كانت مواقف الدول الأفريقية في الدورات السابقة تركز غالبا على الإشادة بالإجراءات الحكومية والترحيب بها، جاءت هذه المرة بنبرة أكثر صراحة ووضوحا، حيث تناولت قضايا حساسة مثل الاختفاء القسري، والتعذيب، وحقوق المرأة.
يعكس هذا التحول تطورا في طريقة تعاطي الدول الأفريقية مع ملف حقوق الإنسان في مصر، حيث أصبح التركيز أكبر على القضايا الجوهرية بدلا من الاقتصار على المجاملات الدبلوماسية. ويؤكد هذا التغير أن هناك تزايدا في الإدراك الأفريقي لأهمية معالجة الانتهاكات الحقوقية بجدية، مما يزيد من أهمية متابعة تنفيذ هذه التوصيات وضمان استجابة الحكومة المصرية لها.
فعلى سبيل المثال، شاركت دول مثل جامبيا وكوت ديفوار وجنوب السودان إلى جانب الدول الأوروبية في مطالبة مصر بالتوقيع على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري. تعد هذه الخطوة مؤشرا على اتساع نطاق الاهتمام الأفريقي بهذه القضية، مما يؤكد أن المخاوف الحقوقية لم تعد حكرا على الدول الغربية، بل أصبحت جزءا من أجندة العديد من الدول الأفريقية.
إضافة إلى ذلك، قدمت كل من مدغشقر وغانا وكوت ديفوار توصيات تدعو مصر إلى التصديق على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب، وهو ما يعكس رغبة متزايدة لدى الدول الأفريقية في تعزيز المساءلة في ملف التعذيب داخل مصر.
هذا التطور يشير إلى تحول في موقف بعض الدول الأفريقية، من مجرد تقديم دعم دبلوماسي تقليدي إلى الانخراط المباشر في المطالبة بإصلاحات حقوقية حقيقية. ويضع هذا الأمر الحكومة المصرية أمام تحدٍ متزايد، حيث إن هذه التوصيات لم تصدر فقط عن دول غربية، بل جاءت أيضا من دول تُعتبر شريكة لمصر في العديد من القضايا الإقليمية والتنموية.
سادسا: المتغير العربي: إلى جانب ذلك، يُلاحظ أيضا تحول ملحوظ في موقف المغرب وهي الدولة العربية الوحيدة التي قدمت توصيات جيده تجاه الملف الحقوقي المصري خلال هذه الدورة من الاستعراض الدوري الشامل. فبعد أن اقتصرت توصياتها في عام 2019 على توصيتين ضعيفتين لم تتناول القضايا الحقوقية بعمق، قدمت هذه المرة توصيات أكثر قوة ووضوحا تتعلق بالإصلاحات القانونية والعدالة الجنائية، وهي من بين أبرز توصياتها لأول مرة.
تعكس هذه التوصية تغييرا في نهج المغرب تجاه تقييم أوضاع حقوق الإنسان في مصر، حيث انتقلت من استخدام لغة دبلوماسية فضفاضة إلى تقديم مطالب واضحة تعالج واحدة من أكثر القضايا الحقوقية إلحاحا، وهي الاحتجاز المطول دون محاكمة. هذا التحول يضيف إلى الصورة الأوسع لمراجعة هذا العام، حيث بدا أن بعض الدول العربية، التي كانت في السابق تفضل المواقف الحيادية أو الداعمة للحكومة المصرية، بدأت في تقديم توصيات أكثر موضوعية، مما قد يزيد من زخم الضغط الدولي على مصر لاتخاذ خطوات إصلاحية حقيقية.
الخلاصة
لا يمكن لأي قوانين أو استراتيجيات أن تكون فعّالة إذا لم تُطبق بشفافية وعدالة، ولا يمكن لأي خطاب عن حقوق الإنسان أن يكون ذا مصداقية في ظل استمرار الانتهاكات داخل السجون، واحتجاز النشطاء السياسيين والمدافعين عن الحقوق، وفرض قيود خانقة على المجتمع المدني
تُعد مراجعة ملف مصر أمام آلية الاستعراض الدوري الشامل فرصة جوهرية لتقييم مدى التقدم في مجال حقوق الإنسان، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن التحديات العميقة التي لا تزال تعرقل تحقيق إصلاحات حقيقية ومستدامة. فرغم الحديث عن بعض الخطوات الإيجابية، لا تزال هناك مخاوف دولية قائمة بشأن ملفات جوهرية تتطلب استجابة أكثر انفتاحا وجدية لضمان تحقيق تقدم ملموس، وليس مجرد تحسين شكلي للصورة الحقوقية أمام المجتمع الدولي.
وفي ظل تصاعد الضغوط الدولية، يصبح من الضروري لمصر أن تتبنى سياسات أكثر توازنا بين حفظ الأمن القومي وضمان الحريات الأساسية، وهو الأمر الذي قد يسهم في تحسين صورتها الحقوقية عالميا. لكن الواقع يؤكد استنتاجا لا يمكن إنكاره: لا مستقبل حقيقيا لأي تقدم في حقوق الإنسان في مصر ما لم تنتقل الدولة من مرحلة "الوعود والتصريحات" إلى مرحلة "التنفيذ الجاد" على أرض الواقع.
لقد أظهر الوفد المصري خلال جلسة المراجعة حضورا مكثفا بوفد يضم 39 عضوا، لكن مهمتهم لم تتجاوز قراءة أوراق معدة مسبقا، وتقديم ردود تقليدية لا تقدم إجابات حقيقية على القضايا الجوهرية المطروحة. لم يكن الغرض إقناع المجتمع الدولي بوجود إصلاح حقيقي، بل مجرد محاولة تمرير سردية رسمية تفتقر إلى المصداقية أمام الحقائق الواضحة. فالتشريعات والاستراتيجيات التي قدمها الوفد قد تبدو إيجابية على الورق، لكنها تظل إطارا نظريا ما لم يتم تفعيلها عمليا في حياة المواطنين، وما لم يشعر بها كل من يعاني من انتهاكات حقوقه أو يواجه غياب العدالة.
لا يمكن لأي قوانين أو استراتيجيات أن تكون فعّالة إذا لم تُطبق بشفافية وعدالة، ولا يمكن لأي خطاب عن حقوق الإنسان أن يكون ذا مصداقية في ظل استمرار الانتهاكات داخل السجون، واحتجاز النشطاء السياسيين والمدافعين عن الحقوق، وفرض قيود خانقة على المجتمع المدني.
إن التغيير الحقيقي يبدأ من الإرادة السياسية الصادقة، والالتزام الفعلي بتنفيذ ما نص عليه الدستور والقوانين والاستراتيجيات الوطنية، ليس فقط كاستجابة لضغوط دولية، بل كواجب أساسي تجاه المواطنين. فالإصلاح الحقوقي ليس مجرد ملف سياسي، بل هو ركيزة أساسية لأي دولة تسعى لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة.