#طوفان #الوعي_العالمي
المهندس : عبدالكريم أبو زنيمة
لقد شّكلت الجرائم والإبادة الوحشية التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني في غزة بمشاركة ودعم القوى الإمبريالية العالمية صدمة إنسانية وأخلاقية للشعوب الغربية التي ُضلِّلت صهيونياً على مدار عقود من الزمن بالأكاذيب والخرافات وتزييف الحقائق ، لقد عملت الدول الغربية الإمبريالية على تجريد االشعوب من إنسانيتها وقيمها وفطرتها الإنسانية ، وعملوا على تحويل الإنسان لإنسان عمل تقني آلي مسلوب التفكير خارج نطاق معيشته ومسخه فكريا وسلوكيا وقيميا ، لقد عبثوا من خلال هيمنتهم وسطوتهم ووسائل إعلامهم الهدّامة بالمساقات التعليمية والإنسانية والفكرية والتربوية والمجتمعية والقيمية وأحلّوا كل أنواع الشذوذ لإخضاع البشرية والسيطرة عليها ، لذلك كنا نجد المواطن الغربي وخاصة الأمريكي اسيرا ومنقادا ومؤدلجاً لما يبثه الإعلام الصهيوني ، لكن حجم الجرائم الوحشية بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة التي تسربت عبر وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة غير المسيطر عليها صهيونيا والتي لم تتمكن من حجبها شكّل صدمة في الوعي الإدراكي لتلك الشعوب التي انتفضت على شكل مسيرات ومظاهرات واحتجاجات رافضة ومستنكرة لها ولمواقف دولهم المؤيدة لها ، الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية في أعرق الجامعات العالمية التي تضم أبناء النخب وصفوة المجتمع الرأس مالي هو بمثابة نهاية مرحلة وبداية أخرى ، التغيير المأمول لن يحدث سريعا ! لكنه بدأ ! ودلالات حدوثه هي :
اولاً – من المعروف أن جيل الطلاب (18-23) هم الأنقى فكريا وسلوكيا وبذات الوقت يحلمون بالعالم والمستقبل الإنساني الوردي ، لكن بشاعة وفظاعة وأهوال الجرائم الصهيونية التي شاهدوها ويشاهدونها وجعلتهم ينتفضون لإيقافها ستُكرّس وستحفر في تلك الأذهان النقية الصورة البشعة الإجرامية للكيان الصهيوني كدولة ارهابية متوحشة .
ثانياً : آلة الإعلام الغربي الصهيونية التي تهيمن على 80% من الإعلام العالمي وانحيازها المطلق لعالم الجريمة والإبادة والتوحش فقدت سحرها وتأثيرها ، وستصبح وسائل التواصل والإعلام الأخرى غير المتصهينة المرجعية الإعلامية الموثوقة للجيل القادم ، فهذا الجيل لم يشاهد أي صورة للمحرقة اليهودية المزعومة التي حاول الإعلام الصهيوني غرسها في أذهانهم ! بالمقابل هناك الآف صور للجرائم والإبادة والمحرقة في فلسطين قد خُزِّنت في أذهانهم .
ثالثاً : عندما تصل الاحتجاجات لمراكز العلم والثقافة العالمية التي هي في حقيقتها مصانع للسياسات السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية والإعلامية المستقبلية لهذا الجيل الذي سيحل محل هؤلاء الموالين والمنقادين والمأجورين للمنظمات والكيانات والمنتديات الصهيونية ، هذا الجيل هو من سيشكل النقابات والمؤسسات والمنظمات في بلدانهم ومجتمعاتهم مستقبلا ، فهم سيكونون القادة والمسوليين ، هم من سيفرزون ممثليهم ونخبهم السياسية القادمة .
رابعاً : سيف معاداة السامية أصبح ثلماً ولم يَعُد صالحاً للاستخدام ، وهذا الجيل بات متيقنا بأنّ هذا القانون هو لتجريم كلّ من يعارض ويناهض الإبادة والمجازر والتوحش – هو لتجريم كل من يفكر ويسأل حكومته عن دعمها وتمويلها وتسليحها لآلة الحرب الإسرائيلية ، هو الأداة والوسيلة لقمع الحرية التي يؤمن بها المواطن الغربي وخاصة الأمريكي .
خامساً : فشل وتخبط السياسات الأمريكية خلال العقدين الماضيين ، فهي من فشل إلى فشل أكبر ، هذا التخبط انعكس على رفاهية المواطن الأمريكي ” غلاء معيشة ، تضخّم ، جرائم ، بطالة .. ” وأكبر مديونية في العالم وصلت إلى 35 تريلون دولار لا قدرة لأمريكا بتسديدها ، وتراجع نفوذها العالمي ، جعل هذا الجيل يتساءل ويفكر بأحلامه الوردية : من الأولى بالإنفاق عليه أمريكا أم أوكرانيا ؟! لمن الأولوية : الرعاية الصحية والتعليم والعمل والسكن للمواطن الأمريكي ام للمستعمر الإسرائيلي الذي تتوفر له كل هذه الميزات من الأموال الأمريكية ؟؟! هذه أسئلة يطرحها اليوم المواطن الأمريكي الذي لم يجرؤ على طرحها قبل طوفان الأقصى ، والكثيرون من الأمريكيين اليوم يشكرون غزة على تحريرهم !
خامساً : إعادة انتخاب النواب في أكثر من بلد غربي ممن حُوربوا من قبل آلة الإعلام الصهيوني نتيجة مواقفهم الرافضة للسياسات الصهيونية المتوحشة يشير إلى أن معيار الولاء للصهيونية سيصبح سببا في الإقصاء غداً .
سادساً : ازدواجية المعايير والسياسات الغربية تجاه نفس القضايا في أماكن وبلدان ومجتمعات مختلفة أفقد هذا الجيل ثقته بحكومات بلاده ، بالأمس جيّشوا كل وسائل إعلامهم والمؤسسات الدولية وحشدوا هذا الجيل لإدانة ايران لوفاة شابة واحدة ” مهسا اميني ” ! ولإدانة روسيا بحجة ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا ! هذا الجيل نفسه يشاهد اليوم حكومات بلاده نفسها شريكة وممولة لجرائم الحرب وإبادة وذبح عشرات الآلاف من أطفال ونساء وفتيات وشيوخ غزة وتقمع وتعتقل وتهين كل من يعارضها منهم !
هذه بعض من الدلالات ، فاذا ما أضفناها للتناقضات الكبيرة السياسية والثقافية والفكرية والانسانية…الخ الجوهرية بين أطياف وكيانات المجتمع الأمريكي التي كانت تحت الرماد بفضل الحلم الأمريكي الكبير الذي بات يخفت نجمه اليوم ، وما نشاهده من قمع للحريات وتكميم للأفواه وأعتقال الطلبة المسالمين وسحل صفوة أساتذة العلم في أرقى الجامعات العالمية ونربطها مع المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية يشير بكل وضوح إلى تحول كبير وعظيم جداً في الرأي العام العالمي المؤيد للقضية الفلسطينية وبداية نهاية الليبرالية الإمبريالية وخرافتها الصهيونية وكل شذّاذها ومرتزقتها وعملائها .
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: الوعي العالمي هذا الجیل
إقرأ أيضاً:
إسرائيل ومعركة الوعي
عند دخول محور الممانعة، متمثلًا في حزب الله وإيران بمختلف أذرعها الإستراتيجية، في المقاومة على خط إمدادات وتسنيد المقاومة الفلسطينية متمثلة في حماس، انقسم الرأي العربي الإسلامي، داخليًا وخارجيًا، بين معسكرات وطوائف وأحزاب، بين معارض لهذا التحالف ومناصر له، وعاد الخطاب الطائفي من جديد ليزدهر في صفوف الإسلام السياسي بين المحور الشيعي، والمحور السني.
هذا الخطاب التنازعي نفسه بدأ يزدهر بين صفوف العلمانيين والدينيين، وبين اليمين واليسار، وبين رؤية الأنظمة من جهة، والشارع العربي والإسلامي من جهة ثانية، حيث أصبح من الصعب، بل من المستحيل بناء سردية موحدة ترافعية عن الحق في المقاومة والحق في التحرر.
وهذا الانقسام جعل المنطقةَ العربية الإسلامية غير قادرة على مقاومة السردية الغربية ذات الصلة، مثلما أصبحت عاجزةً عن تعبئة الجماهير والأنظمة في عدد من الدول من قبيل جنوب أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، وبعض البلدان الغربية التي انحازت بعد طوفان الأقصى للحق الفلسطيني من قبيل إسبانيا، وأيرلندا، والنرويج… إلخ.
المقاومة بين السردية الغربية وسردية محور الممانعةبالرغم من انتصار المقاومة في غزة انتصارًا كبيرًا بالنظر إلى اختلال موازين القوى بين قدراتها العسكرية وبين جيش الاحتلال المدعوم غربيًا والمسنود أميركيًا بالسلاح والعتاد والمعلومة والحصار الاقتصادي، فإن هذا الانتصار لم يكتمل بالنظر إلى غياب سند عربي وإسلامي، باستثناء ما قام به محور المقاومة ممثلًا في إسناد حزب الله في لبنان، وأنصار الله الحوثي في اليمن.
إعلانولقد كان لهزيمة حزب الله في لبنان، سياسيًا وعسكريًا – بعد اغتيال معظم قادة الصف الأول للحزب، وتحول سوريا إلى منطقة عازلة ومحايدة في الصراع مع جيش الاحتلال، بعد سقوط نظام بشار الأسد، وما تركه من ملفات التعذيب والقهر وسجون الاعتقال السياسي، بعدما انبرت حقائق هذا النظام الذي حكم بالنار والحديد شعبًا من أعرق الشعوب – أثرٌ كبيرٌ على المنطقة.
فقد تعالت أصوات الصهيونية الوظيفية تحاول النيل من شعارات المقاومة والصراع العربي- الإسرائيلي، بالنظر إلى ما حصل في المنطقة من تحوُّلات كبرى بعد فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية، وما رافق ذلك من تحوُّل إستراتيجي في النظام العالمي الذي انتقل إلى طور القوة الغاشمة.
وهو ما اتّضح بجلاء في التعامل الأميركي مع إسرائيل في المنطقة، حيث برزت السياسة الأميركية كسياسة احتكارية تريد استخلاص غزة والضفة لصالح مشاريع اقتصادية أميركية – صهيونية، هي بشكل مباشر ترجمة للسياسة الأميركية في توظيفها القوة العسكرية والغلبة من أجل استغلال مناطق التوتر في العالم، وهو ما اتّضح بقوة في الملف الأوكراني، وقبل ذلك في الملف العراقي، والسوري، واللبناني، والفلسطيني، وفي عموم الشرق الأوسط.
ضمن هذا السياق، رأينا كيف تعالى صوت دونالد ترامب من داخل البيت الأبيض داعيًا إلى تهجير سكان غزة إلى سيناء، والأردن، ودول عربية أخرى.
وبالرغم من رفض معظم دول المنطقة الطرح الأميركي- الإسرائيلي، فإن الشعب الفلسطيني بقي يعاني الأمرّين بين مطرقة أميركا – إسرائيل وسندان الخضوع العربي والإسلامي، في مقابل شبه صمت شعبي في الدول العربية والإسلامية، باستثناء بعض الدول العربية دون غيرها، بالنظر إلى تحكم الأنظمة بهذه الدول في الفضاء العمومي، أحزابًا ومؤسسات مجتمع مدني.
بيد أن هذا التحكم السلطوي لا يشرح معضلة القضية الفلسطينية في الوعي الشعبي.. فالقول بسلطوية الأنظمة واستبدادها لا يكفي منهجيًا لدراسة وتحليل الخلل الوظيفي الذي أصاب الذاكرة الجماعية العربية، التي أصبحت مشلولة إلى حد كبير في الفعل.
إعلانيقودنا التحليل السوسيو- أنثربولوجي للخطاب العربي إلى استخلاص وجود شرخ كبير في الذاكرة الجماعية للشعوب، وهذا الشرخ نتج عن تغير في التمثلات حول القضية الفلسطينية، حيث برزت أصوات هنا وهناك تنادي بالالتزام بمفهوم الوطن والدولة القُطرية بدل القومية العربية والإسلامية، مقابل أصوات باتت ترى في القضية الفلسطينية عبئًا على الأنظمة التي صارت بحكم تضخم مستويات التبعية الاقتصادية والسياسية بمثابة امتداد للسياسة الأميركية.
وبما أن للقوة الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية القولَ الفصل في الصراع، فإن هذه الأنظمة وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، من خلال التلويح الأميركي بوقف المساعدات، وتعسير الحصول على القروض والسلاح للمثال لا الحصر.
وضمن هذا السياق، تعالت أصوات حزبية وسياسية تنادي بالتخلص من حماس، أو على الأقل تحييدها في مرحلة إعادة إعمار غزة، بالنظر إلى كونها تجلّيًا للإسلام السياسي.
وبين هذا وذاك، تعالت أصوات الصهيونية الوظيفية، التي تمثلت في كتّاب وإعلاميين ومثقفين عرب يرون واهمين في التطبيع مع إسرائيل حلًا لمشكلات التنمية والتقدم في المنطقة العربية، كون إسرائيل، ممثلة الغرب في المنطقة، قوةً عسكرية وعلمية وتكنولوجية، وخطبُ ودها هو خطب ود القوة العظمى في العالم، أي أميركا وعموم أوروبا. ناسين أن الدول التي طبّعت منذ عقود لم يجلب لها ذلك شيئًا مما يتوهمه هؤلاء، اللهم تضخم التبعية وفشل مسلسل التنمية بشكل غير مسبوق.
إن تحليل خطاب كل هذه الأطراف يحتم علينا الرجوع إلى الهزيمة التي منيت بها الأنظمة العربية منذ نكبة 1948 مرورًا بنكسة 1967، وبمسلسل السلام الذي تحول إلى استسلام في كامب ديفيد ومدريد وأوسلو… إلخ، وهي الهزائم التي تمكنت من الذاكرة الجماعية وأصابت المتخيل العربي في مقتل، إذ تحول الصراع العربي الإسرائيلي تدريجيًا إلى صراع فلسطيني- إسرائيلي.
إعلانوترافق ذلك مع تضخم مستويات التخلف والفشل التنموي في المنطقة العربية؛ حيث أصبح البنك الدولي، من خلال سياساته للتقويم الهيكلي، المدبر الفعلي لهذه الدول على المستويين؛ الاقتصادي والسياسي.
وبالتدريج فقدت دول المنطقة سيادتها وصارت تحت رحمة الغرب ببنوكه ومؤسساته الاقتصادية، وهو ما جعلها ترضخ لتغيير جوهري في خطابها السياسي، حيث منذ التسعينيات بدأت ملامح التغيير في وجهة نظر الأنظمة والنخب من القضية الفلسطينية تظهر بجلاء.
وهكذا غيرت الأحزاب السياسية من حدة خطابها الرافض للكيان الإسرائيلي وتحول الإعلام من الإدانة والرفض والنقد إلى تلطيف خطابه تجاه إسرائيل، وهو ما امتدّ إلى تغيير طال المناهج الدراسية والجامعية. فتهيأت بفعل ذلك، الظروف لاستقبال وتلقي دعوات التطبيع السياسي، بعد أن بدأ بالتطبيع الاقتصادي مباشرة بعد كامب ديفيد، ليصبح الأمر تحصيل حاصل بعد اتفاقية أوسلو.
المقاومة الفلسطينية بين المحلية العربية والكونية الإنسانيةضمن هذا السياق وما ترتب عنه في الإعلام الدولي والخطاب السياسي العالمي، نشأت أجيال التسعينيات وبداية الألفية الثالثة في مناخ الاستلاب الثقافي والفكري الذي جعل الغرب ممثلًا في أميركا وأوروبا القدوة والمثال، حيث ستنشأ نخب جديدة مغرقة في الافتتان بالحداثة الغربية وموهومة بالتحديث الذي تأسس، أيديولوجيًا، على الانفصال مع التراث والهوية القومية، خاصة بعد أن أفل نجم اليسار والتقدمية في المنطقة العربية، وفي عموم العالم بعد انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفياتي، الذي تحول بفضل البرويسترويكا -" سياسة إعادة الهيكلة"- إلى دول ذيلية تدور حول مدار الرأسمالية الاحتكارية الغربية.
ولذلك، لم تستطع هذه الأجيال التي نشأت على الدعاية الأميركية والغربية عمومًا أن تفهم جوهر الصراع العربي- الإسرائيلي، وكيف تحول إلى صراع فلسطيني- إسرائيلي، وهو الذي تأسس على احتلال واستيطان أرض شعب بعد تشريده وطرده من أرضه في سياق استعماري رأسمالي احتكاري.
إعلانوضمن هذا المناخ الذي انتعشت فيه السردية الغربية المناصرة لإسرائيل والداعمة لسياستها الاستيطانية والإحلالية، تراجع تأثير المشهد الثقافي والفني في أجيال الشباب العربي، إذ سيحصل بالتدريج تحول كبير في الدراما والمسلسلات والسينما، التي انتقلت من تقديم إسرائيل كعدو ومحتل لفلسطين، إلى جار وأبناء عمومة ودعاة سلام وحاملي قيم الحداثة والتقدم.
وبعد أن كانت إسرائيل موضوعًا للجاسوسية والخيانة في عدد كبير من المسلسلات العربية، أصبحت الدراما العربية مغرقة في مواضيع استهلاكية فجة، ومنتصرة للخلاص الفردي والترقي الاجتماعي على حساب القيم والمبادئ، في ظل تضخم مستويات نظام التفاهة في العالم الاستهلاكي. وهو ما يشكل اختراقًا إسرائيليًا للفنون والدراما والتلفزيون والسينما في المنطقة.
إن الأجيال الحالية، وخاصة أجيال التسعينيات وما بعدها، لا تفهم كيف أن محور الممانعة هو في العمق محور نشأ على أعقاب الصراع بين القطبين: الاتحاد السوفياتي والغرب الرأسمالي بزعامة أميركا، وأن الدين أقحم في هذا الصراع لتمييعه وتحويره عن مقاصده السياسية والاقتصادية والأخلاقية.
فالثورة الإيرانية نشأت في مناخ رافض للهيمنة الغربية الرأسمالية في احتكاريتها مدخرات الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، وإن كانت اتخذت من الدين آلية من آليات الأدلجة النسقية لنظام الحكم، وإن أخطأت إيران من خلال ولاية الفقيه في امتدادها الأيديولوجي في المنطقة من خلال إستراتيجية التشييع، وجعلت من طوائف الشيعة في مختلف المناطق العربية أذرعًا للهيمنة والسيطرة، مما جعلها منبوذة من قبل الأنظمة التي رأت في ذلك تهديدًا.
إن التحوير الذي مارسته آليات الإعلام والفكر في الغرب لجوهر الصراع جعله يبتكر مفاهيم تحليلية سرعان ما هيمنت على الخطاب العلمي والفكري والثقافي في العلوم السياسية والاجتماعية من قبيل: الإسلام السياسي، أسلمة المجتمع، الإسلام الحركي، الطائفية والقبائلية، وبالتدريج بات الخطاب العربي والإسلامي في العلوم الاجتماعية يعيد إنتاج نفس النسق الفكري الغربي منهجيًا ونظريًا، وهو ما جعل الصراع السياسي في المنطقة ينتقل من الصراع حول الاقتصاد والاحتكار والاستغلال والهيمنة والتبعية إلى صراع أيديولوجي بين اليسار واليمين، وبين الإسلام السياسي والأنظمة والنخب التقدمية، وكلما توغلت النخب التي تتبنى أيديولوجية دينية مغرقة في الماضوية، واشتدت مستويات تبعية النخب التقدمية للغرب، اشتدَّ الصراع وصار حروبًا طاحنة بين هذه الأطراف.
إعلانوهكذا، تم تغييب جوهر الصراع بين الشمال والجنوب، وبين الدول النامية والدول الغربية، وبين البلدان العربية ومستعمريها السابقين/ الجدد ليتحول إلى صراع حول السلطة والحكم، الذي بقي يدور في فلك الغرب ويسترشد بأوامره مهما كانت الحكومات والأنظمة.
ولهذا، فبالرغم من أن المنطقة العربية عرفت حكومات من مختلف التوجهات: إسلامية، يسارية، يمينية، ليبرالية…إلخ، فلم تستطع أن تبني استقلالًا سياسيًا واقتصاديًا وقاعدة علمية بالمرة.
وضمن هذا السياق، ساهمت الصراعات والحروب العربية- العربية في تأزيم الذاكرة الجماعية وفقدت النخب ثقتها في الخلاص الجماعي والقومي، وباتت القومية العربية مجرد ذكرى لزمن الهزيمة. وعليه، فقد تمكن الغرب، بعد تغريب الصراع العربي- الإسرائيلي وتفكيك نخب المقاومة الثقافية والفكرية، من بناء سردية غربية رأسمالية احتكارية في العمق، تتخفى بأقنعة الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وصار سبب التخلف في المنطقة هو الإسلام ومقاومة الحداثة والتحديث.
وبالمقابل، صارت المقاومة الفلسطينية سببًا في الحروب والفوضى في منطقة الشرق الأوسط، وهو الخطاب الذي تبناه وصاغه المحافظون الجدد في أميركا، في تبريرهم غزو العراق واحتلاله، وفي إجهاض ثورات الربيع العربي وتحويره، وهو الخطاب نفسه الذي بات يبرر حرب الإبادة العرقية في فلسطين، وقد تمكن هذا الخطاب من أن يخترق الخطاب العربي الرسمي ومن يدور حوله من نخب براغماتية ترى أن الوصل بالتراث والدين هو سبب التخلف في المنطقة.
وعلى هذا الأساس، فشلت المجتمعات العربية في بناء سردية عربية إسلامية للصراع العربي- الإسرائيلي من خلال تفكيك الخطاب الغربي ونقد أسسه الأيديولوجية والاقتصادية ممثلة في الرأسمالية الاحتكارية.
وهو ما يشرح تواضع الدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات الثقافية مقارنة بما حققته أميركا اللاتينية وأفريقيا والصين وروسيا، من قبيل العصيان المعرفي، ونقد الحداثة، والواقعية البنائية، وما إلى ذلك من توجهات نقدية للمركزية الغربية وللحداثة في أفولها وتهافتها الأخلاقي.
إعلانتأسيسًا على ما سبق، تصبح الدعوة إلى بناء سردية عربية إسلامية كونية حول القضية الفلسطينية إحدى واجهات المقاومة الثقافية التي يجب أن تمتد إلى مجالات الأدب والفنون والسينما والدراما، من خلال عودة النخب المثقفة إلى واجهة الأحداث، وهي مسؤولية عظمى تتجاوز الانتماء الضيق للدولة القُطرية لتعانق الانتماء الرحب للإنسانية الكونية.
وهنا تصبح الجامعة واحدة من أهم الفضاءات المعرفية التي يجب أن تعمل على ازدهار الدراسات الثقافية والديكولونيالية، وعلى تشجيع البحث العلمي في مجالات السيادة الثقافية والفكرية والعلمية، كما يجب على الإعلام المسنود بالمجتمع المدني أن يلعب دوره في التأطير ونشر الفكر الجاد والمعرفة التنويرية للشعوب العربية التي باتت تعيش تحت تهديد القصف الإعلامي والفكري الغربي، الذي يعمل دون هوادة على نشر سرديته الاستعمارية والاحتكارية وثقافته الاستهلاكية المغرقة في نظام التفاهة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline