في فلسفة الضعف والقوة، ثمة قوانين خارج المألوف والمعروف، فداود مثلا قتل جالوت بالمقلاع، وهو يفوقه قوة وعنفوانا، وفرعون الذي أباد أطفال مصر خوفا مولد صبي يقوض حكمه، ساق الله له موسى، ليرعاه وينمو في كنفه، ثم ليقضي عليه وجنوده، ويوسف الذي بطش به إخوته فرموه في غيابة الجب جاءوه طلبا لما يقيتهم ويبقيهم على قيد الحياة، وحاولوا من قبل سلبه هذه الحياة، نواميس الحياة على هذه الأرض لا علاقة لها بما نراه فقط، بل بما يختبئ داخل المشهد.
غزة بمعيار الضعف والقوة، لا تكاد تساوي شيئا من حجم الكرة الأرضية، شريط ضيق من الأرض المستوية، حيث لا جبل ولا غابة، ولا تضاريس متنوعة، محاصرة برا وبحرا وجوا، فكأنها سجن كبير لا تكاد تصلح لحياة سوية، وإذ بها تتحول إلى نقطة ارتكاز لكرة الأرض كلها، في لحظة تاريخية سرقت بوهجها كل ما مر على هذه الأرض من أحداث جسيمة، ربما في السنوات المائة الأخيرة. وربما لم يخطر ببال الفاعلين في صناعة طوفان الأقصى كل ما سيتلو فعلهم من تداعيات، بل ربما فوجئوا هم كما غيرهم بالانفجار الكوني الكبير الذي انتشرت آثاره على أبعد بقعة عن غزة.
كتب الكثير جدا عن ظاهرة غزة وعجوبتها، ولم يزل ثمة الكثير سيكتب، والحدث اليوم لم يزل على أشده، بل ربما نعيش هذه الأيام الجزء الأكثر إثارة منه، والأكثر تأثرا على من سيكتبون تاريخ العالم، ومركزية هذا الـ365 كيلومترا منه، وهي في معيار المساحات ليست أكثر من "عزبة" لأحد الإقطاعيين من أثرياء العالم الجديد. وأذكر في احتفال لافتتاح للجامعة الهاشمية في المفرق بالأردن، أن رئيس الجامعة ذكر أن مساحتها تفوق المساحة التي "يحكمها" ياسر عرفات رحمه الله، وكان أيامها مفتتح اتفاق "أوسلو" المشؤوم، حيث أقطعوا عرفات شيئا من السلطة على غزة وأريحا "أولا" وأخيرا، ثم سلبوه كل شيء، حتى حياته!
ربما لم (وربما لن!) يشهد التاريخ البشري دما مسفوكا بغزارة ما ارتوت به ال 365 كيلومتر مربعا، ومع هذا الإجرام الذي تموله دول وأنظمة وحكام، ومع كل قطرة منه، يتحول هذا الدم وبكل قطرة منه، إلى نور في سراج ضخم ينثر عتم العالم كله، بل يخيل لي أحيانا أن كل قطرة منه تتحول إلى ضربة معول، تقوض بنيانا وتهدم جدارا، وتفجر قلعة، وتلك معجزة ربما لم تخطر على بال من صمم الطافون ونفذه، وبالطبع لم تكن بحسبان من أقام الكيان وموله وأمده بأسباب الحياة، وها هو اليوم يرونه يتهاوى سقوطا في بئر لا يظهر له قاع!
دم غزة، وصمود الثكالى والمقاتلين والقابضين على جمر الصبر، لم يضئ العالم فحسب، ولم يبدد عتمته فقط، بل وضع فلسطين في رأس قائمة أولويات من اجتهدوا في إخراجها من التاريخ والجغرافيا، فغدت أهزوجة الباحثين عن الحقيقة. هذه الحقيقة التي حاول القتلة وأشياعهم دفنها تحت ركام هائل من الأكاذيب والأضاليل، وكأني بركام المنازل والأبنية التي دمرتها قنابلهم، تسقط حجارتها ليس على أرض غزة ولا على أبدان أهلها الطاهرين، بل تتناثر حجارتها على "أم رؤوسهم" وتدفن مع كل قنبلة وصاروخ وقذيفة كذبة من أكاذيبهم، وتقوض كل بنيان حصنوه، وتفتك بكل قلعة جهزوها لحبس الحقيقة!
القصة لم تنته بعد، وإن كنا نعيش اللحظات الأكثر حسما منها، ودعكم من الأكاذيب التي يبثها إعلام القتلة وأشياعهم وأتباعهم والمطبعين معهم، فثمة حقائق كشفت وأخرى أكثر بكثير لم تكشف بعد، فالطوفان لم يكن كاشفا فحسب، بل كان فاضحا، حين بدد كل ما حاولوا تغطيته من تآمر وخطط جهنمية لإضعاف الأمة، وقتل روح الرجولة في أجيالها، وديمومة حكم الأنذال وتحكمهم في رقاب العباد، بل سخر الله على نحو غير متوقع، وخارج حسابات مراكز البحث وخطط الاستخبارات والدراسات المستقبلية، قوى ورجالا ونساء وفتيانا (وطلابا بالطبع!) لحمل مشعل غزة وفلسطين، والدفاع عن أهلها وتنوير من لم يزل واقعا تحت تأثير سحر الأشرار وخططهم ومشروعاتهم في التجهيل والتطبيل والتزمير والتخريب، فكانت كل قطرة دم بمثابة قنبلة من قنابل الإضاءة التي تكشف ما حاولوا تغطيته وستره!
دم غزة المبارك، حوّل فلسطين من أحجية ومرتع للعابثين واللاعبين بمصائر الشعوب، إلى بقعة ضوء تنير دروب الباحثين عن الحقيقة، المتعطشين للكرامة، الجوعى للحرية، وهنا المفارقة الكبرى، فكما أسرج دم غزة قنديل العالم فأضاء عتمه، كانت بقية محن غزة منح أقرب إلى المعجزات، فقد جوعوا غزة فكان جوعها إشباعا للحقيقة، وعطشوها فتحول عطشها إلى إرواء للباحثين عما يروي عطشهم للصدق والنبل والإنصاف، وحاولوا قتل غزة فأحيت نفوسا تيبست أطرافها، فبعثت فيها قوة حولت ضعف القوة إلى قوة الضعف الذي قلب معادلة جالوت وداود فتل الضعيف القوي ونكل به!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة احتجاجات غزة الاحتلال جرائم تضامن مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة صحافة رياضة اقتصاد صحافة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة کل قطرة
إقرأ أيضاً:
تعقيبا على مقال الأستاذ ياسر عرمان .. ورداً على سؤاله لماذا لا يفاوض الجيش ويقاتل في آن واحد ؟ (1-2)
يوسف عيسى عبدالكريم
المجد للذين استشرفوا المستقبل بعقولهم ورأوا شجرا يمشي فأنذروا قومهم فأتهمهم قومهم بالخيانة .
الأستاذ ياسر سعيد عرمان تحية طيبة ، وكل عام و أنت و الأسرة بخير. المقال رائع جداً و سؤالك مشروع و ربما جاء في وقت نحن أحوج ما نكون فيه كسودانيين إلى صوت مختلف و فكرة من خارج حدود تفكير الحكومة المتأثرة بالأجواء المشحونة و المتوترة في بورتسودان ، و التي أصبح المشهد فيها مختزلاً في معادلة صفرية طرفاها … بل بس … ستورد الوطن عاجلاً أم آجلاً مورد التهلكة.
في اعتقادي و بالرغم من تجربتك الثرة سابقاً مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في ما قبل انفصال دولة جنوب السودان ، و التي طالما كانت هي الطرف الآخر في المفاوضات مع من يديرون هذه الحرب المأساوية الآن من بقايا النظام البائد.
إلا أنك قد أغفلت الإشارة إلى نقطة مهمة لم تلقي عليها الضؤ في مقالك أو ربما تعمدت تجاهلها تجنبا لإثارة حفيظة الإسلاميين من القراء .
لقد أغفلت الإشارة إلى حقيقة أن الإسلاميين في عهد الإنقاذ لم يتفاوضوا يومًا ما من أجل تحقيق سلام عادل أو بغرض حل قضية المتمردين على الدولة السودانية باعتبارهم أصحاب حقوق ينبغي النظر إليها و أخذها بعين الاعتبار في إطار سياق تاريخي متصل لأزمة الهامش السوداني .
بل كانت تفاوضاتهم دائما ما يهدف إما إلى كسب الوقت أو إضاعته، أو كليهما معًا.
و في الغالب ما كانوا يسعون في جوالاتهم التفاوضية إلى استخدام استراتيجية فرق تسد و ذلك بتفتيت الحركات المتمردة و إضعافها و تحويلها الى أجنحة و كنتونات بقيادات متوازية ومتصارعة في ذات الحين .
دون النظر بأعتبار الى خطر الضرر الناتج عن تلك السياسية التكتيكية على مصلحة الدولة السودانية و أمنها القومي مستقبلاً.
لذا فإن تلك الجولات و المفاوضات التي أنفقت الدولة عليها و على فرقها أموال طائلة لم تسفر عن حلول جذرية لأزمة التمرد في السودان بل أفضت إلى اتفاقيات ضعيفة مبهمة و فارغة، انتهى معظمها، إن لم يكن جميعها، إلى نتائج كارثية على الوطن و المواطن على حد سواء .
و ربما أبرز تلك النتائج هو تجدد الحرب مرة أخرى و تمددها و انتشارها في مناطق جديدة لم تعرف مسبقا الصراع المسلح. و ربما كانت الحرب المتجددة ذلك بشكل أكثر عنفًا عن سابقها بما استبطنت من غبن ناتج عن الشعور بالخديعة و لاستدراج ، إضافة إلى إدخال البلاد في دوامة التقسيم و باقرار مبدأ حق تقرير المصير ، و الذي فتح الباب على مصراعيه بعد انفصال الجنوب الى توقع تكرار ذات السناريو في اقاليم اخرى من أجزاء السودان .
yousufeissa79@gmail.com