انتهت رحلة الدكتور عدنان البرش مع المعطف الأبيض الناصع، بعد أن حولته أشلاء المرضى ويوميات العلاج إلى خارطة حمراء للألم الممتد في شغاف غزة منذ السابع أكتوبر/تشرين الأول 2023، ثم انتهت رحلته في الحياة سجينا معذبا في واحد من أعتى وأقسى سجون العالم في إسرائيل.

كانت الأشهر السبعة المنصرمة، من حياة غزة، ترجمان حياة البرش، فقد ظل دائما في قلب العاصفة، وفي عمق التحديات، كما ظل روح "الشفاء" التي تنتقل من مستشفى إلى آخر، ومبضع الطبيب الذي يرمم ما أبقت نيران العدوان الإسرائيلي من أنفاس بالية، وأجساد ممزقة.

وقد مر حوالي 14 يوما منذ استشهاد البرش، قبل أن تعلن أمس هيئة شؤون الأسرى والمحررين ونادي الأسير الفلسطينيان عن رحيل الرجل الذي ارتبط اسمه "بالشفاء" و"العودة" وصنع في خمسينيته المفعمة بالنضال والتميز العلمي، واحدة من أبرز قصص الامتياز الفلسطيني في الحياة والموت.

أدينا الرسالة والأجر على الله

أخذ عدنان كتاب الأمانة بقوة، منذ أن افتر ثغر الأيام في بيت والديه عن يوم بهيج، اختارت فيه الأقدار أن تزف إلى أسرة البرش طفلها الوديع عدنان أحمد عطية البرش، فقد كان يوم 17 سبتمبر/أيلول 1974، مختلفا في إشراقته عن يوم 19 أبريل/نيسان 2024، وبينهما ما بين فرحة الميلاد، وفجيعة الموت.

آن لجسدك النحيل والمتعب أن يستريح ،
نُشهد الله أنك أديت ما عليك وزيادة ، هنيئاً لك الشهادة .. على أمثال الدكتور عدنان تبكي البواكي .. pic.twitter.com/YIxmrTMdUJ

— Dr. Abdallah Mohammed (@jjjjwza) May 2, 2024

وبين الميلاد والرحيل، صنع عدنان قصة كفاحه العلمي والمهني وجهاده المستمر من أجل الحياة في مواجهة عدوان ماحق يقتلع بالدم واللهب كل ما يمت للحياة بصلة.

في مسيرة بين الزهور والأشواك، حصل الشهيد على الإعدادية من مدرسة الفالوجا، والثانوية من مدرسة حليمة السعدية، ثم طارت به أشواق المعرفة، وحصاد التميز، إلى رومانيا حيث نال شهادة البكالوريوس في كلية الطب بجامعة يانش.

عاد البرش بعد ذلك من رومانيا، لكن مسيرته التعليمية لم تتوقف، فقد تواصل في تخصص جراحة العظام والمفاصل، وحصل على البورد الأردني والبورد الفلسطيني، ثم نال الزمالة البريطانية في جراحة الكسور المعقدة في لندن.

وقد صنعت للبرش مهارته ودقته في الجراحة سمعة كبيرة في عموم فلسطين، فتولى رئاسة قسم العظام بمستشفى الشفاء، وظل أحد أعمدته الطبية المرموقة، ومن هناك من مستشفى الشفاء بدأت شهرته تملأ الآفاق.

رباط في "الشفاء" ومقاومة في "العودة"

كان السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أحد أيام المداومة التلقائية للشهيد البرش في مستشفى الشفاء، لكنها مداومة طالت أكثر من شهر، حيث رابط في المستشفى الذي استهدفه العدوان الإسرائيلي بأقسى فظائع الانتقام والدمار.

وخلال مداومته المفتوحة في الشفاء، واجه البرش الموت العاري والألم الحارق، ليكون الملاك الأبيض الذي يخفف طوفان الألم الذي لا حد له، لكن قسوة الاحتلال كانت أشد. ففي 16 نوفمبر/تشرين الثاني وبعد أسبوع من الحصار المطبق، اقتحمت القوات الإسرائيلية مجمع الشفاء الطبي، ودمرت ساحاته وأجزاء من مبانيه ومعداته الطبية، وأجبرت من كان فيه من طواقم ونازحين على الرحيل، بعد أن عاثت فيه قتلا وفتكا واعتقالا.

واتجه الجميع جنوبا، ولكن البرش ولى وجهه شطر الشمال، رافضا أن يغادر مناطق الشمال التي عرفها وعرفته سلما وحربا، والحال أنها اليوم أحوج ما تكون لأياد حانية ماهرة كيديه، كما أن عائلته ما زالت هي الأخرى مرابطة صامدة في الشمال ترفض أن تغادر.

بكى البرش لمغادرته للشفاء، والحيلولة بينه وبين رسالته الإنسانية الرائعة، وطبع على ذاكرة الأيام عبارته الشهيرة "أدينا الرسالة وأجرنا على الله" وذلك في مقابلة له مع قناة الجزيرة.

كانت أهوال الصدمة -وهو يغادر مستشفى الشمال- تأخذ بتلابيب البرش، الجثث الملقاة في الطرقات، والبنايات المدمرة، والمناطق التي نسفت بالكامل، ولكنه كان يكابد تلك الأهوال بصبر وصمود وعزم على المواصلة.

إلى رحمة الله د. عدنان البرش شهيد التعذيب بسجون الجيش الاسرائيلي بعد اختطافه من المشفى أثناء تأدية واجبه الانساني بحق جرحى غزة،

تتحمل النقابات الطبية العربية أولاً على عاتقها مسؤولية صمتها المُخزي إزاء قتل واختطاف وإبادة الطواقم الطبية بغزة طيلة 7 أشهر
pic.twitter.com/dpg485Y0Tg

— Nour Naim| نُور (@NourNaim88) May 2, 2024

نهاية الرحلة بسجون الاحتلال

ومن الشفاء انطلق الرجل إلى مستشفى كمال عدوان، لينضم بعد فترة وجيزة إلى المصابين الذين كان يعالجهم، بعد إصابته بجراح جراء قصف إسرائيل أهوج.

ولم تطل الإقامة في مستشفى كمال عدوان، حتى اضطر للمغادرة إلى مستشفى العودة في منطقة تل الزعتر شرق مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، ولتكون تلك آخر رحلاته مع المعطف والمراهم، فقد اعتقلته هناك الاحتلال الإسرائيلي في ديسمبر/كانون الأول الماضي ونقلته إلى سجن عوفر حيث قضى الأسابيع الشهور الأخيرة من حياته تحت آلة تعذيب لا سقف لحنقها على صناع الحياة في غزة وفق ما يقول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي.

وبين أطوار الرباط في المستشفيات، والنزوح إلى الشمال، عكس الجنوب الذي اضطر مئات الآلاف من عبور الألم فرارا إليه من شمال ملتهب، وأخيرا في ظلمة السجن وآلام التعذيب، صنع البرش في 7 أشهر قصة كفاح ونضال وتميز مهني، لعلاج أعقد حالات الإصابة، بوسائل أقرب إلى العدم إن لم تكن هي العدم ذاته.

دكتورنا الحبيب البروفيسور عدنان البرش صاحب الأيادي البيضاء التي كانت ممتدة بالخير والعطاء لجميع أهالي غزة
فضله عليَّ شخصيًّا لا أنساه أبدًا.
فلقد كان المشرف على حالة ابنتي شام منذ الولادة، حيث كانت تعاني من خلع بسيط وبقي يتابع حالتها لسنوات، فنحن مدينون لهذا الرجل الشهم الكريم… pic.twitter.com/z1PiL9pZQK

— أنس الشريف Anas Al-Sharif (@AnasAlSharif0) May 2, 2024

وكما كان اعتقال البرش صادما، فقد كان إعلان وفاته فاجعا للغزيين وللفلسطينيين وللإنسانية بشكل عام، حيث قضى هذا العقل الطبي نحبه تحت سياط عذاب مستمر -كما يقول مقربوه- وأخفيت وفاته أكثر من أسبوعين، وما زالت جثته بيد قتلته.

وفي بريد الراحلين وسجلات الذكرى، طفق الغزيون -الذين خبروه عن قرب معالجا ومداويا ومواسيا- يدونون مشاهد ومواقف وقيما ونضالات طرزت رحلة البرش في الإبداع الطبي والامتياز المهني وشرف الحياة والشهادة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات عدنان البرش

إقرأ أيضاً:

إعلام عبري: الجندي الأسير نمرود كوهين حي بعدما تم إبلاغ عائلته أنه مات

قال إعلام عبري، إن الجندي الأسير نمرود كوهين يعتبر بين الأحياء، بعد أن تم إبلاغ عائلته أنه ميت.

يذكر ان الجندي نمرود كوهين، تلقى والداه مسبقا دعوة لمراسم يوم العائلات الثكلى، وقال والد يهودا: "لقد أعلنوا عنا كعائلة ثكلى، فقط لكي يعرف الجمهور كيف تتعامل معنا المنظومة التي تخلت عن ابني"

الجندي الأسير نمرود كوهين

مقالات مشابهة

  • عدنان القصار.. فارس دفع عقدين من عمره ثمن تفوقه على باسل الأسد
  • مجازر ليلية ضد النازحين.. والمناشدات الأخيرة من مشفى كمال عدوان تحذر من الكارثة
  • فلسطين.. غارات إسرائيلية تستهدف محيط مستشفى كمال عدوان
  • إعلام عبري: الجندي الأسير نمرود كوهين حي بعدما تم إبلاغ عائلته أنه مات
  • أطباء بلا حدود: قوات الدعم السريع هاجمت مستشفى بالعاصمة السودانية
  • ما الذي يريده محمود عباس من مطاردته لرجال المقاومة بعد كل تلك الملاحم؟!
  • انتهاكات لا تنتهي.. ماذا نعرف عن مشفى العودة الذي يستهدفه الاحتلال؟
  • “بين الإلهام والتأثير” رحلة ثرية خاضها ضيوف ملتقى صنّاع التأثير
  • نادي الأسير الفلسطيني والهيئة ينشران ردودًا تلقانها من معتقلي غزة
  • كاريكاتير عمر عدنان العبداللات