????كيف نجهض مؤامرات “حامل القلم” Penholder
تاريخ النشر: 3rd, May 2024 GMT
برزت ممارسة ما يسمى “ حامل القلم “ Penholder في نظام عمل مجلس الأمن في الأمم المتحدة – وهي ممارسة استقرت في العمل رغم أنها غير رسمية – عام 2003 . استقرت بالممارسة أو ” المماركة ” كما يقول أهلي المزارعون بالقضارف ، وهي أحلى !!!
وحامل القلم هو الدولة العضو في مجلس الأمن التي تصوغ المشروعات والقرارات ، وتتدخل في تحديد الصفة التي يجتمع بها مجلس الأمن لمناقشة موضوع ما ، وغالباً هي الدولة التي تبتدر النقاش ، وترأس التفاوض حول المشروع .
وتضطلع الدولة حامل القلم بأمر : (1) ملف دولة Country – Specific File
أو :
(2) أمر المسائل المواضيعية Thematic matters ( مثل قضايا الطفل ، والصراعات المسلحة ، وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل )
وحالياً تستحوذ ثلاث دول دائمة العضوية ( P3 ) وهي بريطانيا وأميركا وفرنسا ، مستقلةً ؛ على مسؤولية حامل القلم في ملفات 22 دولة من بين 33 .
وتتولى القيادة في 7 من بين 12 من المسائل مواضيعية .
وحين تتولى دولة مسؤولية حامل القلم في أمر ما ، فهي التي تقود وتشكل نتائج القرارات التي يصدرها مجلس الأمن بشأن ذلك الأمر .
ورغم أنه يمكن نظرياً لأي دولة من بين الدول العشر المنتخبة في المجلس ( E10 ) أن تكون حامل القلم ؛ إلّا أن تلك الدول الثلاث الكبار ظلّت عملياً مسيطرة على مسؤولية حامل القلم في المجلس ، منذ بروز تلك الممارسة في 2003 .
وجراء سيطرة ال P3 ، أصبحت كأمر واقع هي المحتكرة De facto Monopoly لما يصدره المجلس من قرارات .
وخلقت تلك السيطرة تبرّماً بين الأعضاء ; إذ غدت من أدوات الهيمنة Hegemony من قبل الدول الكبرى ؛ مما جعل بعض الدول تنادي بإصلاحها في إطار إصلاح مجلس الأمن .
وفي هذا الصدد أعلنت دولة مالي ، في 1 مارس 2023، رفضها أن تكون فرنسا حامل القلم في أي قضية تخص مالي ؛واتهمتها ” بالعدوان ، وانتهاك مجالها الجوي ، والتخريب ، وإشاعة عدم الاستقرار ” في بلادها .
ومن سوء حظ السودان أن بريطانيا هي حاملة القلم في شؤونه . وقد اتضح عدم حيادها ؛ بل تآمرها في شكوى السودان لمجلس الأمن من تدخل وعدوان دولة الإمارات . فقد عمدت لتغيير طبيعة الجلسة ، وتحويلها إلى جلسة نقاش خاصة بأعضاء مجلس الأمن . وهي بذلك تهدف إلى تسويف الأمر والبحث عن ما يُنجي الأمارات من إدانة ، أو قرار يجعلها تدفع ثمن عدوانها على السودان .
ومن حق السودان ، بل من واجبه أن يرفض أن تكون بريطانيا هي حامل القلم في الشأن السوداني ؛ خاصة وقد أظهرت تحيزها وتآمرها ضد مصالحه . وليس ذلك بغريب على الإنجليز الذين جُبِلوا على المكر والكيد والخديعة ؛ وأنا أعرف ذلك منهم من خلال عملي سفيراً بلندن لأربع سنوات .
وليس ثَمّة ما يحول دون رفض السودان لحمل بريطانيا قلم الشأن السوداني ، إلّا كَوْن مندوب السودان الدائم لدي الأمم المتحدة ( الحارث إدريس ) مواطن مزدوج الجنسية ، حامل للجنسية البريطانية منذ سنين . ويُخشى أن يصده تضارب المصالح Conflict of Interest من رفع لواء الرفض . و هذا أمر يتحدث عنه زملاءه ، مستشهدين بخوفه وتردده في موضوع طرد ڤولكر ، وشاركه في تردده ذاك وزير الخارجية السابق علي الصادق . وخلعا ترددهما – عبر توصيتهما – على القيادة العسكرية ، الشيئ الذي جعلها تتأخر في قرار طرد ڤولكر أياماً مديدة ، بل شهوراً عديدة .
وفي حال فشل السودان في تحقيق رفضه لبريطانيا أن تكون حامل القلم ؛ فيمكنه أن يلجأ للخيار الثاني ، وهو المطالبة أن تكون دولة أخرى شريكة لها في حمل القلم Co-penholder . وهذه المشاركة في حمل القلم ممارسة معمول بها في مجلس الأمن .
ومنادة السودان بمشاركة حمل القلم ستجد قبولاً ، في ضوء مطالبة الدول أن يعكس عمل المجلس تعدد الأطراف multilateralism ، والتوازن Balance . وكذلك ما يجعله غير متحيز وأقرب للشفافية ، والفعالية والمحاسبية والشمول .
وللسودان قضية ” مكسوبة “ضد الإمارات ، إذا أحسن استخدام الأوراق التي بحوزته . وأول تلك الأوراق رفض أن تكون بريطانيا حامل القلم ، أو منع إنفرادها به ، لصد تحايلها .
ولن يصد السودان عن الإلحاح بتلك المطالبة إلّا أن تكون الإمارات لازالت مؤثّرة على صنّاع قرارنا . ويتحدثون في الخارجية أنها كانت تفعل ذلك مع علي الصادق ، حتى في نقل سفراء لسفارات !!!
ويمكن للسودان حشد دعم دول مثل روسيا والصين والجزائر ( Elected member ) لقضيته . والوثائق والإدانات التي صدرت من منظمات دولية ومن دول ( آخرها شهادة المبعوث الأمريكي بالكونغرس بالأمس ) ضد الإمارات ، ستُحْرِج أعضاء عديدين . خاصة أن الإمارات استقدمت مرتزقة من دول عديدة في عدوانها على السودان . واستجلاب دولة لمرتزقة يجعلهم جزء من جيشها !!! .
????السفير عبد الله الأزرق
————————————
2 مايو 2024
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: مجلس الأمن أن تکون
إقرأ أيضاً:
السودان وجنوب السودان: حتاما نساري “الدم” في الظلم
السودان وجنوب السودان: حتاما نساري “الدم” في الظلم (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
كانت دولة جنوب السودان كإقليم في السودان معملاً كبيراً لنظرية العرق النقدية في الحرب السودانية، وأهاج أهلها خبر قتل جماعة من مواطنيها العالقين في السودان منذ الانفصال في 2011 بتهمة الارتزاق مع “الدعم السريع” واستنكرته حكومتهم.
ربما لم تكن عبارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطاب تنصيبه عن تصفية الليبرالية في المجتمع والدولة في قوة عبارة الرئيس رونالد ريغان، “مستر غورباتشوف اهدم هذا الحائط” التي انطوت بها خيم النظم الشيوعية. ولكن هدم ترمب بعبارته أعمدة العقيدة الليبرالية بلا مواربة. فقال إنه سينهي إشاعة الهندسة الاجتماعية للعرق والجندر في شأنهم العام والخاص. وسيقيم مجتمعاً كفيف البصر حيال اللون وقائماً على مكافأة من أحسن صنعاً. وعليه ستقوم سياسة الدولة على أن هناك نوعين من البشر ذكراً وأنثى.
حديث ترمب هذا يمثل طياً لخيم الليبراليين، أي لنظرياتهم في الهوية والشوكة مثل “الهويات المتقاطعة” (1989)، و”الووك” (2014)، وأشهرها “نظرية العرق النقدية” (آخر السبعينيات أوائل الثمانينيات). وجميعها تلتقي في الاعتراف بالفوارق العرقية سليلة التاريخ الأميركي التي لا تزال قائمة حتى بنهوض حركة الحقوق المدنية للسود الأميركيين. والأخيرة هي النظرية التي تقول إن العرقية ليست نتاج حزازة شخصية للفرد في جماعة ما ضد جماعة أخرى، بل هي ضغينة متوطنة في النظام القانوني والشوكة السياسية والثقافية.
وتريد هذه النظريات الكشف عن هذه المنطويات في التاريخ والواقع لتوضيح كيف تنظلم جماعات من الناس من هذه العرقية بقصد إنهاء آثارها الضارة وبناء عالم عادل وصحي للجميع. وامتد أثر النظرية ليشمل النساء والمثليين. وهي عند المحافظين نظريات هدامة مبالغة تدس بين القوم وتنبش التاريخ لتخجل به قوماً حيال قوم. وتتحول إلى شرطي يتعقب العبارة وصحتها السياسية. ووصف ترمب النظام الأميركي بأنه المكافئ لمن أحسن عملاً من أين جاء مما أراد به الكف عن التوسل بهذه الهويات الأصاغر في مثل التمييز الإيجابي للإحسان، فالإحسان في أميركا لمن أحسن عملاً بلا نظر لعرقه أو نوعه.
لم يجف مداد كلمة ترمب التي هدم فيها أعمدة الليبرالية حتى دخلت دولة جنوب السودان التي كانت كإقليم في السودان معملاً كبيراً لنظرية العرق النقدية في الحرب السودانية. فقد أهاج أهلها خبر قتل جماعة من مواطنيها العالقين في السودان منذ الانفصال في 2011 بتهمة الارتزاق مع “الدعم السريع”، واستنكرته حكومتهم. وساد بين الليبراليين في الشمال، ممن ينتسبون إلى تنسيقية القوى الديمقراطية والتقدمية “تقدم”، أو من حولها، خطاب بدا أنه لم يتصالح بعد مع حقيقة أن السودان صار سودانين اثنين. فظلوا يسمون قرار اعتزال الجنوب للسودان “انفصالاً”، وهي الكلمة البغيضة في القاموس السياسي منذ عهد الاستعمار الذي أدار جنوب السودان بمعزل عن بقية القطر تمهيداً لضمه إلى شرق أفريقيا بما عرف بـ”سياسة المناطق المقفولة”. ولا يجد مواطنو جنوب السودان حرجاً في تسمية ما هم فيه “استقلالاً” يعدونه فخراً، ناهيك باستهجان بعضهم أن يوصف استقلالهم هذا بغير ما أرادوا له أن يسمى.
وبينما أحسن هذا الخطاب السوداني الليبرالي حقاً في شجب مقاتل تلك الجماعة الجنوب سودانية، إلا أنه استنكر إخضاع النظر إليها في واقع في الحرب التي نهضت الشواهد على توظيف لمواطني جنوب السودان العالقين وغير العالقين في الحرب إلى جانب “الدعم السريع”. فتداولت الوسائط منذ أشهر فيديو لخطيب منهم، بدا كمقاول أنفار، بين جماعة غزيرة من مواطني جنوب السودان يطابق بين “الدعم السريع” وعقيدة السودان الجديد التي كانت عنوان الحركة الشعبية لتحرير السودان ضد دولة 1956، بل أنهى حديثه بـ”دعم سريع وي وي” وهي مما كانت تختم به حشود الحركة الشعبية.
من أفدح ما وقع في هذه المواجهة السودانية – الجنوب سودانية هو استباحة دم السودانيين في جنوب السودان ومالهم في الشغب الذي جرى، بعد سماع مواطني جنوب السودان خبر قتل بعض مواطنيهم في الجار الشمالي. وبدا من عبارات لبعض السودانيين الجنوبيين في الشغب وكأنهم يصفون ما زال حساباً قديماً ضد أبناء الشمال-السودان حين كان البلد واحداً. فكأن مقتل جماعة منهم في سياق الحرب، بغض النظر عن سببه، هو نسخة أخيرة لمقاتلهم في الشمال منذ استقلاله. وينسون هنا أنهم صاروا بلداً مستقلاً بإرادتهم وعزائمهم سواء في ميدان السياسة والحرب ومن فوق حق تقرير المصير، ذؤابة الحرية، في 2011.
وما حال دونهم والتفكير في السودان كدولة مستقلة، حتى لو أخطأت في حق بعض مواطنيهم، هي ثقافة المظلمة التي نشأوا عليها تذيعها الصفوة الليبرالية الشمالية. ونواصل.
—–
حتاما نساري “الدم” في الظلم: عقدة الذنب الليبرالية (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
كانت دولة جنوب السودان كإقليم في السودان معملاً كبيراً لنظرية العرق النقدية في الحرب السودانية، وأهاج أهلها خبر قتل جماعة من مواطنيها العالقين في السودان منذ الانفصال في 2011 بتهمة الارتزاق مع “الدعم السريع” واستنكرته حكومتهم.
زكت النظرية العرقية النقدية نفسها لليبراليين السودانيين أكثر ما زكت من باب ما يعرف بـ”عقدة الذنب الليبرالية” فانتهت هذه الجماعة إلى ضعف كبير من فرط ما عانت في مقاومتها النظم الديكتاتورية المتطاولة، في حين تعاظمت من الجهة الأخرى قوة حركات الهامش مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان التي أذاعت نظرية السودان الجديد، والتي تولدت عن جدلية الهامش والمركز ذيوعاً كبيراً.
فالسودان الجديد سيولد، بحسب هذه العقيدة، بواسطة بندقية الهامش التي ستكسر المركز القابض في الخرطوم، وتقتسم السلطة والثروة معه عنوة وبالقسط. فلم تعد الصفوة الليبرالية بذلك هي التي تشكل إستراتيجية النهوض الوطني كما فعلت في الحركة الوطنية ضد الاستعمار، أو حتى التأثير في من يشكلونه في الهامش المسلح، بل هاجر منهم أنفسهم نفر كبير أيضاً ليفدي السودان الجديد، حاملاً السلاح جنباً إلى جنب مع مسلحي الهامش. وسمى أحدهم بألمعية هذه الهجرة بأنها من النقابة، وهي إقليم المقاومة المدنية في الحضر، إلى الغابة.
وسقمت هذه الجماعة من ثقافتها وتاريخها لما تطاولت الديكتاتوريات الحاكمة بعنوانهم، “الإسلاموعروبية”، وعَنُفت مع الهامش الإثني الأفريقي بالذات بالقهر الثقافي المسلح. فأصابت الصفوة الليبرالية هذه العقدة جراء تأنيب ضمير مسهد بخطايا بعض أهله في الوطن. وهي حال معروفة من المسكنة الفكرية تعض الجماعة الممحونة في إثنيتها بنان الندم على فشل مشروعها في تآخي الأمة الذي حاولته، وأفسده حكام منها عرقاً وليسوا منها نهجاً في الحكم. ولا عزاء للمرء هنا سوى ندب الأجداد الذين لم يصموه بتاريخ في مثل الرق وحسب، بل ورطوه أيضاً في قرابة حكام مسيئين يخجل المرء لهم ومنهم.
وساق فشل مشروع هؤلاء الليبراليين اليساريين السياسي للتآخي الوطني للارتماء في سياسات الهوية التي شغلت العقود الأخيرة قبل استقلال جنوب السودان بفضل صعود بندقية الهامش وصمودها. فصار عرض حال هذه الهويات الإثنية تحت بندقية نفر من بين قومهم مبلغ همهم، بل علمهم من السياسة. وأوغروا صدور الهامش بجنس كتابي اسمه “كشف مستور الجلابة الشماليين” في النخاسة والأثرة والقتل أكثره سياسة مناوئة للدولة الديكتاتورية والنظر فيه قليل. وروج لمثل هذا الكشف الكاتب والسياسي الجنوبي فرانسيس دينق بعبارة شاعت، “الذي لا نتحدث عنه هو الذي يفرقنا”. وأعادت المواجهات الأخيرة إنتاج صفحات من هذا الأرشيف.
ووقع صفوة السودان الليبرالية في الخطأ الذي أخذه الفيلسوف الأميركي ريتشارد روتري على الليبراليين الأميركيين قبل أن يشتت ترمب شملهم. فقال إنهم كفوا عن التفكير في تصميم إستراتيجية سياسية وطنية جامعة بعد جنوحهم لخطاب الهوية في مناصرة الأفارقة الأميركيين والمثليين وغيرهم. فتبدد بالنتيجة حسهم بما يجمعهم بسائر بني الوطن كمواطنين وما يواثق بينهم كوطن. وقال فيلسوف أميركي آخر، هو مارك ليلا، إن الليبراليين انطووا في خطاب الهوية متقهقرين عن الوطن، الجبل، إلى كهوف ابتنوها لأنفسهم.
الذاكرة التاريخية التي كانت من وراء الاعتداء على أرواح السودانيين في جنوب السودان ومالهم من فضلات الثقافة الليبرالية للصفوة الشمالية. فبقدر ما ناضلوا للديمقراطية ضد نظم ديكتاتورية حكمت لنصف قرن ونيف منذ استقلال السودان في 1956، ونجاحهم في إسقاطها تباعاً، واستعادة البرلمانية، إلا أن عادة الليبرالية في ابتناء الكهوف دون الجبل أدركتهم فبطل عملهم. فما جاء البرلمان، في صورة جمعية تأسيسية بعد ثورات 1964 و1985 حتى نزعوا عن يده صلاحية تسوية مظالم الهامش المسلح.
وأوضح ما كانت هذه العلة في سياسات ما بعد ثورة 1985. فرفضت الحركة الشعبية لتحرير السودان خوض الانتخابات في 1986، في حين قبلت بدخولها أحزاب جنوبية أخرى. وبدلاً من ذلك جاءت الحركة باقتراح التف حول وظيفة الجمعية التأسيسية. فطالبت بعقد مؤتمر دستوري تشارك فيه وغيرها من القوى السياسية لتسوية الإشكال الوطني بمعزل عن البرلمان. ودار ذلك الإشكال كما هو معروف حول علاقة الدين والدولة وما ورثته من قوانين إسلامية من نظام الرئيس جعفر نميري المعروفة بقوانين سبتمبر (أيلول) عام 1983 التي تعارضها الحركة الشعبية. وجنح الليبراليون إلى فكرة المؤتمر الدستوري في حين كان الصراع حول إسلامية الدولة قائماً على قدم وساق في المجتمع والجمعية التأسيسية.
وكانت الجبهة القومية الإسلامية، بقيادة حسن الترابي، تدير دفة تديين الدولة بقوة ومكر شديدين على مشهد من الناس. وبدلاً من أن يقتحم الليبراليون ذلك الصراع حيث يديره خصمهم على منبر الجمعية التأسيسية التي انتزعوها من براثن الاستبداد تجدهم استنكروه. فلم ير منصور خالد في تدوينه الوثيق لتلك الفترة في “النخبة السودانية: وإدمان الفشل” في خطاب الجبهة الإسلامية لتحكيم الشريعة الإسلامية “سياسة” تجري في مواعينها الليبرالية من صحافة وأحزاب ونقابات ومسيرات كما عددها هو نفسه، بل “هوساً”. ولا يعرف المرء كيف يعيب منصور حزباً أحسن عمله برلمانياً بقوله إنه لم يفلح إلا بـ”الابتزاز والإرهاب الفكري”. ولا غرو أن منصور إنما يصدر هنا عن امتياز حداثي تكون “السياسة” في الفضاء العام هي ما يقوم به وشيعته، أما ما يقوم به خصمه في الفضاء الديمقراطي نفسه فـ”هوس” بما يذكر بفكاهة سودانية عن شخص وطأ بقدمه آخر فقال الموطوء، “شيل كراعك من رجلي”. فرد الآخر، “ما الذي جعل رجلك رجلاً ورجلي كراعاً؟”.
وعلاوة على هذا لا يرى منصور غضاضة في مقاطعة الحركة الشعبية لتحرير السودان للانتخابات لا لسبب إلا عزة بالسلاح، ويجيزها. وكان الأمل انعقد خلال الثورة وما بعدها أن ترمي تلك الحركة بثقلها السياسي والانتخابي المنتظر في أية انتخابات تجري في الجنوب لتثبيت مبدأ فصل الدين عن الدولة. وأضربت الحركة عن دخول ذلك التمرين الديمقراطي وطالبت بفوهة السلاح بمؤتمر دستوري أحال الجمعية التأسيسية إلى الاستيداع. ولم يطل الزمن بها في الاستيداع، فأخرجها منه انقلاب الجبهة القومية الإسلامية في يونيو (حزيران) 1989 ورمى بها إلى قارعة الطريق لتعود الحركة نفسها للتفاوض مع أولئك الانقلابيين في 2005 في غير ما برلمان مستحق للاسم.
يقال لمن يطيل البكاء على أمر مفقود إنه “يرفع فراشه”، وهذا ما قد يقال لصفوة الليبراليين في السودان لبكائهم على انفصال جنوب السودان إلى يومنا. فمتى اتفق لهم أن الجنوب استقل وصار جمهورية جنوب السودان، ولم ينفصل وحسب، استرد كل طرف وطنيته وملزومها، وهي وطنية تحتاج إليها الصفوة. فسبق لجماعة منهم في السودان أن بخست استرداد نظام الإنقاذ لبلدة هجليج التي احتلها جنوب السودان في 2012. وبدا منهم في يومنا كأن الاعتداءات الجزافية على السودانيين في جنوب السودان من “إخوة بغوا علينا” مع التشكيك في ما يقال عن مشاركة مواطنين منه إلى جانب “الدعم السريع”. وربما الأهم من ذلك أنهم، متى تصالحوا مع حقيقة استقلال الجنوب، لربما أحسنوا فهم المزالق الليبرالية التي ساقت “كهف” الجنوب إلى مغادرة جبل الوطن. ومتى أحسنوا العلم طووا الفراش.