يظن أحدنا أنه ما عاد هناك شيء يُمكن إضافته لكتابة ووصف تاريخ فلسطين نفسها، وليس القدس فحسب، خاصة مع صدور مئات الكتب، والأفلام السينمائية والوثائقية، من الرحالة والباحثين والكتاب والأدباء والفنانين. ولكن ذلك سرعان ما يزول مع قراءة رواية ضخمة وممتعة مثل "سماء سابعة للقدس" الصادرة عن دار المتوسط، للكاتب والصحفي الفلسطيني أسامة العيسة.

الظن الآخر هو أن هذه الرواية ضخمة، 678 صفحة، فيمكن أن يستصعبها القارئ الجديد المعتاد على النوفيلا، ولكنه سيجد أن هذه الرواية سلسة القراءة ومثيرة، ويتمنى لو أنها تمتد أكثر من ذلك إلى اللانهاية، ويصير يسأل نفسه، خلال تجواله الممتع، كيف سيُنهي العيسة هذه الرواية؟ كيف سيسد عين النبع التي تدفقت وستتدفق إلى ما لا نهاية؟. خاصة أن نبع هذه الرواية، وحكاياتها وشخوصها العاديين والمقهورين، وأنبياءها، وحجارتها ونقوشها مأخوذ بالقرب من "عين سلوان"، أو عين جيحون أو عين أم الدرج أو عين العذراء، وهي من أشهر عيون مدينة القدس، وتبعد حوالي 300 متر عن الزاوية الجنوبية الشرقية لسور المسجد الأقصى، وتتبع لقرية سلوان، الذي يجعل ذكورها محسودين جماليا، وما زال يتدفق منذ ما قبل الميلاد.

ورغم أن الصفحات الأولى من الجزء الأول (426 صفحة)، سفر للحياة، يبدو عسيرا على التدفق، وهو يتحدث عن "العنّة"، أو الطربلة، التي أصابت "سبع القرية"، أو شيخ شبابها، والحديث عن عين الماء في القرية وميّزاته، وكأنه لا يوجد حدث كبير أو ضخم لهذا العمل، أو ربما لإنشائه أفقيا وليس عموديا، إلا أن الرواية سرعان ما تسيل آخذة القارئ في رحلة ضمن التاريخ والجغرافيا والفن والسياسة والاقتصاد والفكر السياسي وسير شخصيات كثيرة، لتتحول الرواية، حتى ولو من دون وعي من الكاتب، إلى وجبة ضخمة يتم تحريكها بملعقة سحرية تارة، وواقعية تارة أخرى.

رواية الأديب الفلسطيني أسامة العيسة ترشحت للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (مواقع التواصل) النصوص والنصوص المضادة

الراوي في هذا العمل هو الطفل كافل، اختصارا لاسمه ذو الكفل، الذي يدون لنا حكايات يسردها عليه الكثير من الشخصيات، وأهمها والده يوسف، ووالدته وصديقته لور والعم جورج والجد أبو نقولا.. ويمكن اختصار فكرة هذا العمل، ولو أن ذلك مجحف، بأنه تدوين للمكان، وبالتالي للشخصيات وللأحداث، التي مرّت، وستمر عليه. كافل يُسجل هنا هذه الحكايات، ولا يحوّلها ذلك إلى رواية تسجيلية بحتة، متحدثا عن تاريخ ممتد من ما قبل الميلاد إلى سنوات ما بعد النكسة التي حصلت في عام 1967، وصولا إلى زمن ما بعد اتفاقية أوسلو، ولا يحولها إلى رواية تاريخيّة بحتة، مُخرجا أحشاء المكان والكنوز والنقوش والدول والجيوش والاحتلالات والحروب التي مرّت على القدس، ولا يحولها ذلك أيضا إلى رواية سياسيّة مباشرة.

هو تدوين المكان وما فيه، كما يوضح كافل نفسه، "نص والدي في مقابل نصوصهم، بلادنا بلاد نصوص". (ص 52). لأن الحروب تفعل فعلا آخر بالناس "فتجعلهم ينسون بسرعة، أو تزيد قابليتهم للنسيان، ويُخيل لي أحيانا أن النسيان قرار، هو محو واستبدال". (75). ويتكرر ذلك، المكان كنص وتدوين، في أكثر من موضع، مثل "ليس هم فقط من يؤلفون القصص، نحن أيضا نؤلف، بلادنا لا تعيش إلا على القصص وحكايات الأقدمين، أيّ مفعول سحري تؤثر فيه علينا؟" (83) أو عندما يقول الوالد لولده "القدس مدينة نصّية، قد لا تفهم ذلك الآن، ولكن عليك أن تعرف كيف يسيطر عليها المسيطرون، بما يؤولون عنها من نصوص وكتابات، من تلك التي أنزلتها السماء، وتلقفها البشر، إلى التي نسجها الرحالة والغزاة والأفاقون عن القدس التي أرادوها لهم، لهم وحدهم. فانتصروا بما نصّوه عنها" (ص 400)، أو ما يقوله كوهين، حارس المتحف، للور وكافل "عندما تكبرين ستفهمين، فأكاذيبنا تشبه أكاذيبكم، أو أن أكاذيبكم رد فعل على أكاذيبنا!" (ص 409).

أسئلة وتفكيك

تدوين مكان تحت الاحتلال، ومحاولة فهم قصص الكبار عن الذي ضاع وزال، يُشغل ذهن الطفل كافل، الذي يكبر في كل جزء من سن الـ10 سنوات في الجزء الأول إلى سن الأربعين في الجزء الثالث، وهي 3 ولادات له في 3 أجزاء. ومأساة كافل، الطفل الوحيد، تشبه مأساة بلده. فهو الوحيد لأب مناضل سيُعتقل ويموت في السجن بعد عامين على اعتقاله. بينما أمه ستُقتل على يد الفدائيين بعد عام من اعتقال زوجها.

يذهب صاحب رواية "مجانين بيت لحم"، التي نالت جائزة الشيخ زايد للكتاب في عام 2015، إلى فتح الأبواب أمام أسئلة لا تخصّ فقط الآخر/المُحتل، بل كذلك تخص النضال والفكر السياسي والفدائيين والمعتقل. عن تضحية المناضل أو الفدائي من أجل شعبه ووطنه، وتخليه عن "شعبه الأهم، وهي عائلته". عن العمل الفدائي/النضالي المرتجل الذي قد يودي بأناس أبرياء، جسديا أو نفسيا، عليهم الالتزام بمعنى نضال الأب أو الأخ. عن معنى العائلة بعد هدم المنزل، ومعنى السقف، وتشردها. عن العمل لدى اليهود. عن الهجرة إلى الخارج، وترك البلد وحيدا. عن معنى النضال والصمود وحثّ الناس عليهما، وعدم صمود صاحب ذلك الكلام، الذي يختار الهجرة. عن الأفكار التي تُجبر زوجة شابة على انتظار زوجها المعتقل/المناضل والمحكوم عليه بـ20 عاما. الناس سينظرون إليها، لو طلبت الطلاق، على أنها خائنة، وربما تساعد المحتل في قتل زوجها في معتقله كمدا. بينما تقول أم السبع لأم كافل "فعلتِ ما لم نستطع فعله نحن نساء هذه القرية الظالمة لنسائها، لماذا علينا دائما أن ندفع ثمن ما يرتكبه رجالنا، بغضّ النظر عن دوافعهم؟" (ص 465).

يستخدم صاحب رواية "المسكوبيّة" (2010) تقنيات كثيرة في عمله السردي هذا، من خلال الحوار والرسائل والأغاني والأهازيج والمعلومات التاريخية والفنية والعسكرية والسياسية والتساؤلات، من أجل تقديم حكايات المكان. ومن أجل تقديم شخوص المكان. وتوزيع العمل على 3 أجزاء، سفر للحياة. سفر للحزن والحياة. سفر للبقاء والحزن والحياة، تشي عناوينها دائما بالحياة والاستمرار في الحياة، ولو أن حكايات كثيرة كانت عن أموات.

الحكاية والحكواتيون

ينشغل أسامة العيسة (1963) بتلك الحكايات المؤلمة، والمصائر القاسية، للناس البسطاء والعاديين، ورغم أنه، في هذا العمل يستخدم حتى الفانتازيا ليجعل وجوه تماثيل تنطق، فإنه يميل إلى تلك الواقعيّة التي تصف ألما يبدو سحريا، وغير قابل للتصديق. ولا يميل صاحب رواية "جسر على نهر الأردن" للشعاراتية لدى شخصياته، إلا عند الحوار مع "محتل"، وكأن تلك الشعاراتية هي أقل أشكال النضال. وهذا ما يمكن أن نفهمه عن العيسة الذي اعتقل كثيرا من المرات، وهو أسير محرر، إلا أنه لم يعتبر نفسه "مناضلا، بالمعنى العميق للكلمة، ولا سياسيّا أو أسيرا".

يميل العيسة إلى حكايات الناس العاديين، الحمّالين وسائقي السيارات والفلاحين والنساء القرويات، الذين قد يُغيّرون في الحكاية شيئا ما في كل مرة، ولكنها تبقى حكاية متماسكة في كل مرة. والراوي جرّب ذلك في هذا العمل، عندما يحكي الوالد حكاية "أبشالوم"، ابن النبي داود عليه السلام، وكان في كل مرة يعطي نهاية أخرى لأبشالوم، وكأنه 3 شخصيات، أو 3 حكايات منفصلة، ولكن في كل مرة كانت الحكاية متماسكة. ثم مَن يستطيع أن يؤكد الحكاية الأصلية؟ وماذا يعني أن تكون هناك حكاية مكتملة وصلبة، وتكون شفاهية في ذات الوقت؟ فالحكايات الشفوية عادة ما يكمن جمالها في التغييرات أو الإضافات التي يقوم بها الرواة المختلفون والمتواترون ضمن سياقات زمنية ومكانية مختلفة.

ورغم وجود حكايات واقعية، لشخصيات حقيقية، فإن العيسة قدمها بطريقة روائية، متخلصا من "التسجيلية" قدر الإمكان.

حكايات مأخوذة من رواة مسلمين ومسيحيين ويهود، من مزارعين ومهندسين ومناضلين وصحفيين ومحققين وحرّاس وملاكمين وعتّالين ورجال دين، عن ظلم وقع على كل الذين سكنوا القدس، سواء من خلال أحداثها السابقة، أو من خلال التأريخ الجديد الذي يستمر الاحتلال في التنقيب عنه.

شرح وإسقاطات

جاء الجزء الثالث والأخير من الرواية مثل شرح، تقريبا، للحكايات والشخصيات التي جرى أكثرها في الجزأين الأول والثاني، أو بقي شيء معلقا في الجزأين السابقين، مثل حكايات لور وزوجها ثم طليقها، ووالدة كافل، والشيخ نعيم، والصحفي علي عمار أو إسحاق بن عوفاديا، وأم العبد أو زهافا وجبر وعن ترميم الطاحونة.. وعن السلطة الفلسطينيّة وأعمالها في الاعتقالات والتعذيب والإفساد. وعن المستوطنات الجديدة وأعمالها الجديدة في تغيير القدس أو المحافظة عليها.

إسقاطات كثيرة قد يُفكر بها القارئ، وهو يقرأ هذه الرواية، خاصة عن وضع كافل، الوحيد، ثم يتيم الأم، ثم يتيم الأب. وكذلك عن السبع البطل، والمقاوم، وشيخ الشباب، والذي أصيب بالعنّة، وعاش مع المخدرات والماضي، وطلّق مرتين وانتحر3 مرات.

رواية "سماء القدس السابعة"، التي تستحق جائزة البوكر لهذا العام، تحاول تدوين القدس، ولو من خلال بابين أو 3، من أصل 13 بابا، وقرية وعدة أحياء، تتضخم لتضم 3 أديان بتواريخها وشخوصها وحكاياتها وحروبها واحتلالاتها. والقدس ستبقى مخزونا متدفقا، رغم أنه"ما زالت طاحونة القدس، تطحن، ولكن، مَن؟ ولصنع السلام لمَن؟" (ص 669). ومن جديد، ربما في روايات أخرى، وكما فعل كافل، الذي يأتي بابنه بعد 30 عاما، ويمسك بيده ويعرفه على قدس أجداده، سيأتي آخرون ليقولوا لأبنائهم "هذه بلادنا، التي علينا أن نتلمّس حكاياتها وتواريخها وناسها" (ص 375)، وهو ما وُفّق فيه الكاتب أسامة العيسة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات هذه الروایة هذا العمل فی کل مرة من خلال

إقرأ أيضاً:

ثلاث فتيات وامرأة غامضة.. ننشر الفصل الأول من رواية «البوشّيه»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق تنشر «البوابة نيوز» الفصل الأول من رواية «البوشّيه»، للكاتبة السعودية نوف أنور، والتي تصدر قريبا عن مؤسسة «الباشكاتب للسيناريو والنشر والسينما». وتتناول الرواية الواقعة في 140 صفحة تقريبا، بغلاف للفنان التشكيلي المصري محمد الشيمي، حكاية عن شبح امرأة غامضة يحيط بامرأة رقيقة -لكنها بائسة- تعافر من أجل إيجاد سلامها النفسي، في وقت تتعرض فيه لابتعاد الحبيب والغربة وخيانة أقرب صديقاتها. فيما تتشكل حولها حكاية صديقتي عمرها، واللتين لا تبدو حياتهما أفضل حالا.
يقول الناشر: في روايتها الأولى، تقدم نوف أنور قصة ثلاث فتيات تبدأ في أواخر التسعينيات من القرن العشرين، سحر وحصة وميسون، تربطهن صداقة قديمة بدأت منذ حرب الكويت واستمرت لسنوات مليئة بالتفاصيل والأسرار. سحر، التي تملك حدسًا قويًا، تعيش في فوضى بسبب امرأة غامضة تلاحقها، وتقلب حياتها إلى جحيم مليء بالألغاز. حصة تخفي سرًا كبيرًا يجعلها تبني عالماً من الأكاذيب، بينما ميسون، رغم حياتها الفوضوية وسعيها وراء الرفاهية، تمثل الأمان لصديقاتها. 
ومع مرور الوقت، تتشابك أحداثهن، حيث تتداخل خيوط الخوف والحب والصراعات. مما يدفعهن لمواجهة تحديات قاسية، تكشف أسرارًا، وتغير مسار حياتهن إلى الأبد.
 1

ارتفعت أصوات النساء بالأغاني والزغاريد، وهن يملأن المكان بالضجيج، تفرقن في ساحة منزل «بو علي» في مجموعات صغيرة يربطها الذهاب والمجيء والضحكات المرحة. يُزيدهن تألق تلك الأنوار التي تفترش النخيل، وأشجار اللوز. وتتلألأ على البيت أفواج من النساء، يلتحفن أجسادهن بـ«العباءة السوداء»، وهن في كامل زينتهن وأثوابهن المزرية بالخيوط الذهبية، والفتيات بأثواب النشل الملونة. بينما تفوح من المنزل رائحة الطيب من الدخون، والعود المخلوط برائحة المشموم، والياسمين والحناء.

امتلأ المكان بالأغطية المزخرفة بالزهور الملونة، وجلست صفوف من النساء بمواضع مختلفة بشكل منتظم، وخصص الوسط للرقص. وعلى الواجهة، كانت الجدران مغطاة بقماش أخضر من الزري، والأرائك الخضراء، وصينية دائرية تقليدية، مزينة بالمشموم والياسمين والنثور، ومعاصير الحنة الملفوفة بإحكام وتفوح منها الرائحة الخنينة.
كانت الفتيات قد صنعن دائرة حول المرأة العجوز التي ترسم الحناء ليُشاهدن الرسوم التي تُزيّن يد العروس، وتختلط أصواتهن ما بين الإعجاب والمطالبة بأن تكون كلٌ منهن هي التالية. وأخريات من النساء الكبار، الجالسات في وجود أم العروس وهي تتباهى بعطايا من سيصير في الليلة التالية زوج ابنتها. وطائفة ثالثة انهمكت في الغناء والرقص، صانعة أكبر قدر من الضجيج.

بكامل زينتها، كانت حصة تتوسط الجميع بجمالها الدافئ، ورغم رغبة والدتها الملحة بتغطية وجهها هذه الليلة -حتى لا يذهب نورها يوم زفافها- إلا إنها رفعت الغطاء عن وجهها، وسلّمت يديها الممتدتان للمرأة، لتقوم بنقشها بالأغصان المتفرعة بالأوراق والزهور.
كانت الفتيات يتراقصن بأثوابهن «النشل»، وشعور بعضهن مسدول على الأكتاف، وأخريات مجدلة ومزينة بالمشموم والريحان. وبالطبع لا تخلو أعناقهن وأياديهن من عقود الياسمين. إلا أن حرارة الجو زادت وجوههن احمرارًا ولمعانًا، وبالرغم من ذلك لم يمنعهن من التوقف عن الرقص، خاصة مع وجود فرقة «زبيدة» ودفوفها التي كانت تُلبي رغبة الفتيات بغناء أغاني سوق الكاسيت التي يرغبن بها، وفي الوقت نفسه، تُلبي رغبه الأمهات بالأغاني والأهازيج الشعبية.

وسط كل هذا كانت سحر جالسة في سكون، بدت كزهرة حائط وحيدة بجمالها اللافت رغم شحوب وجهها ونظراتها الشاردة، ترفض بلباقة كل محاولات الأخريات في جذبها نحو الدائرة الراقصة أو رسّمة الحناء، تدير عينيها في الحاضرات وتكتفي بهزة رأس بسيطة كلما قابلتها عين إحداهن، تتجنب النظر إلى النسوة الكبار ممن يرمقنها بنظرات هي مزيج بين الفضول والإشفاق، لأنها لم تتزوج بعد رغم حُسنها الواضح.


تعلم ما يُفكرن فيه، البعض يراها «منحوسة»، والأخرى «ممسوسة»؛ وغيرهن لقّبنها بـ «الحسناء التعيسة». تعرف هذا وتتجاهله، ولولا أن الليلة هي حناء «حصة»- أعز صديقاتها منذ الطفولة- لما غادرت منزلها لتصطدم بتلك الوجوه المُشفقة، فقط حصة هي الوحيدة القادرة على إخراجها من العُزلة مهما عبست أيامها أو انشغل ذهنها.

"ألا زلتِ تحلمين بتلك المرأة؟

قطع السؤال أفكارها، فرفعت رأسها لتجد حصة واقفة أمامها. تأملتها فوجدتها بارعة الحسن كما اعتدن أن يظهرن، أمسكت بيدها وتأملت الرسم في إعجاب، وجذبتها لتجلس بجوارها وأشارت حولهن..

-الجميع سعداء من أجلك، وأنا أولهّن.

=لا تتجاهلي ما أقول.. سألتك عن تلك المرأة. أهي سبب شرودك وقت زفافي؟

-لا شيء يؤخرني عنك.

=إذن.. احك لي.

-اليوم؟! يا لك من مجنونة يا فتاة!!

=هو اليوم نفسه الذين تكتفين فيه بالجلوس كنبات الزينة. دون أن تُشاركيني الرقص، أو تمتد يد العجوز على يدك المرمرية لتصنع لوحة تُزيد من فتنتك. احك لي، فربما يُذهب الحديث ثِقَل ذهنك، وتشاركيني فرحتي.

شعرت سحر بالخجل من قولها، لكنها أقرت في نفسها بأن ما تقوله صحيح. حصة هي الوحيدة التي لا تصف هواجسها وأحلامها بالجنون. منذ حكت لها عن تلك المرأة الغامضة التي تشاهدها منذ شهور وتستحوذ على أحلامها وخيالات اليقظة.
- تطاردني دومًا.. هي نفسها، بعباءتها السوداء الطويلة، وغطاء وجهها الذي لا يبدو منه سوى عينين فاتنتين. تثير الرعب فيَّ بنظرتها الثاقبة. ثم سُرعان ما تختفي. أراها في كل موضع، وتذوب مع فزعي.

= وتكتفي بالصمت؟

- ليس اليوم، ربما هذا ما جعلني أبدو في هذا الارتباك.

= لِمَ؟ ماذا حدث؟

- فيما بعد، لا أريد أن أبدو كطائر شؤم في يوم عرسك، دعينا نعود إلى النساء ثم أستكمل الحكي في يوم آخر.

= سأنشغل كثيرًا في الأيام المُقبلة.

- يا حبيبتي، أسعد الله وقتك وحفظ سرك، لا يوجد لديَّ أكثر من الوقت، ولا توجد حكاية أخرى تؤرق مضجعي. لا تهتمي، فسوف أنتظر.

تبادلتا الابتسام، وقامت أم العروس وأمسكت بيدها، تصاعدت الزغاريد، وارتفعت أصوات النساء بالغناء وكأن طاقتهن تضاعفت مع مشاركة سحر التي طافت ترقص حول حصة، ورسمت على وجهها ابتسامة لتُخفي توترها الزائد من تلك المرأة التي لا تنفك عن مطاردة ذهنها.

"قلت أوقفي لي وارفعي البوشيه... خليني أروي ضامر العطشاني

شفت الجدايل وأحسبك رومية.. ثاري الزلوق مقرضة ياخواني

الخد ياضي لي برق وسميه.. والعين تشبه ساعة الربان"..

لم تقاوم النساء الرقص على هذه الأغنية رقصة «الخماري»، فالفتيات وضعن الأكمام الواسعة لثوب النشل على الرأس، والنساء استعّن بالبوشيه لتغطية جزء من وجوههن؛ وبدأن يتمايلن بأجسادهن جانبًا بهدوء وبعدت خطوات إلى الوراء.

صنعت مع الفتيات دائرة كبيرة، توسطها العروس والمرأة العجوز، التي ما انفكت تصيح مُباركة العروس بكلمات لم تتبين أكثرها. أصرت العروس على والدتها أن ترقص لأنها تعرف أن والدتها تتقن «الخماري»، لكنها كانت تخشى من أحاديث النساء، فعادة أم العروس لا ترقص وتكون أقرب إلى الرصانة والثقل؛ إلا أن حصة أصرت قائلة «الزمن تغير يما»، بينما قامت سحر لتمسك بيدها وترقصان سويًا.

بعد قليل، اندمجت سحر مع الفتيات، وبدأت صورة المرأة تنزاح عن ذهنها فشعرت أنها أكثر حيوية، خرجت من الدائرة وأمسكت بيد والدة حصة واندمجتا في الرقص، حركت جسدها أكثر فزاد انطلاقها، بدأت تدور حول نفسها في مرح.

فجأة شعرت وكأن كل ما حولها اختفى، بدأت الدنيا في الإظلام لكنها لم تستطع أن توقف جسدها عن الدوران، بدت الأصوات من حلوها كأنها تأتي من بئر سحيقة، فارتجف جسدها بقوة لكنها لم تتوقف.

ثم ظهرت المرأة..

بدت تمامًا كما تراها من بعيد، عباءتها السوداء الطويلة والغطاء الشفاف الذي لا تُدرك ماهيته بينما عيناها لمعان من خلف الغطاء اقتربت منها المرأة فارتعبت وحاولت الصراخ لكنها لم تستطع، بدت في عيناها اللامعتين جذبة غريبة، أطبقت فمها وهي تتساءل كيف تراها في كل الاتجاهات رغم دوران جسدها.

شعرت بيد ثقيلة توضع على كتفها والأضواء تعود إلى بصرها شيئًا فشيء، انتفض جسدها وهي تسمع همسات تتعالى باسمها لتجد حصة أمامها ترمقها بنظرة قلقة، انتفضت مرة أخرى ثم أطلقت صرخة عالية وسقطت فاقدة الوعي.
«لم أشعر بنفسي إلا والنساء يُحطن بي وهن فزعات، كانت حصة أكثرهن فزعًا، لمحت في عينيها الخوف واللهفة لا الضيق والغضب رغم أني- بشكل ما- أفسدت ليلتها الجميلة. تلفت حولي لأجدنني مُستلقية على الأريكة وقد ابتل وجهي وغرق أنفي في مزيج من العطور استُخدمت لإفاقتي، نهضت مُرتبكة بعد تلك الفوضى التي أثرتها وشكرت حصة وكررت أسفي عشرات المرات قبل أن أستقل سيارتي وأغادر. أعلم أنها ليست غاضبة، فنحن أصدقاء منذ كنا في الثانية عشرة من عمرنا، لكني لا أستطيع منع نفسي من الضيق والخجل؛ ولا أستطيع كذلك أن أمحو من ذهني تلك المرأة الغامضة».

مقالات مشابهة

  • هل من الضروري الكشف عن الماضي؟.. ننشر فصلا من رواية "الرغبة الأخيرة"
  • حكايات مر بها أبطال مسلسل «6 شهور» مع موظفي «السيلز».. ماذا قالوا؟
  • نادين نجيم.. حكايات من القلب عن حبها لمصر وذكريات الطفولة
  • أبرزها غياب عبد اللطيف عبد الحميد.. مخرج «سلمى» يكشف عن الصعاب التي واجهها خلال العمل
  • حكايات الإبداع بـ«أيادي مصرية».. عم ربيع يحول «العرجون» لتحف فنية و«ملك» ترسم بالرمال الملونة
  • ثلاث فتيات وامرأة غامضة.. ننشر الفصل الأول من رواية «البوشّيه»
  • حكايات السكان والمقاعد: كيف تُرسم خارطة العراق من جديد؟
  • رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
  • مخيلة الخندريس . . رواية غير
  • خبيرة : الطاقة الإيجابية تعتمد على ترتيب المكان وليس على الخرافات