تطهير المصطلحات.. في قاموس الشأن الفلسطيني!
تاريخ النشر: 3rd, May 2024 GMT
ما أكثر ما يغيظ مما يبدو من أفواه المطبعين وشانئي الحق الفلسطيني وخاذلي قضيته العادلة.. غير أن ثمة ملاحظة ينبغي استحضارها، إذ ربما اضطرت المحرر إكراهات لغة الإعلام إلى استخدام عبارات من نوع "مسؤول إسرائيلي"، لعدم وجود -أو تبادر- معادل مناسب لأداء الدور التعبيري لكلمة "مسؤول"، إذا ما تعلق الأمر بعضو في حكومة الاحتلال، أو شخصية ذات موقع رسمي، لكن اللفظة -على كل حال- لا تحيل إلى مدلول "المسؤولية" الذي هو الأمانة والرزانة، بل تعبر عن تقلد المنصب -أو إمساك الموقع- لا أكثر!
ومما يرد على ألسنة الإعلاميين وأقلام الصحفيين إطلاق عبارة "ماء وجه نتنياهو"، وإنما يسوغ ذلك الإطلاق تبعا للسياق، فإن ورد في معرض نفي الوجود ارتفع الإشكال واستبان المخلص، كما في عبارة "يحاول نتنياهو حفظ ماء وجهه"، فإنما ذكر هنا "ماء الوجه" -المنعدم- على سبيل المجاز، ومن باب "التسليم الجدلي"، وإلا فإنه لا حياء لرئيس حكومة الاحتلال ولا ماء لوجهه أصلا!
ومما لا يصدر عن مؤمن بالقضية، ولا مسلم بمعطيات التاريخ وحقائق الواقع، إطلاق عبارة "دولة إسرائيل"، ولا سيما إن كان في سياق سافر "بحيث لا يبقى السامع منتظرا شيئا آخر" على حد تعبير النحاة!
على أن الإعلامي قد يجد نفسه مضطرا إلى إطلاق عبارة "الاحتلال الإسرائيلي"، أو "دولة الاحتلال" أو استخدام مصطلح "جريمة دولة"، ليس اعترافا بوجود شيء اسمه "دولة إسرائيل" أو "أرض إسرائيل"، ونحن في زمن حائر خنق فيه "حق القوة" "قوة الحق"، وزاحم الادعاء الإثبات على منابر الإعلام الدولي ومنصات الإعراب العالمية، حتى أصبح الإعلامي محاطا بحقل ألغام مفرداتي، لا يكاد ينزع منه لغم حتى ينفجر آخر!.
وإن الإعلامي -المتحرر من إصر "الخط التحريري" الضاغط- ليجد نفسه مدينا لمن دشنوا -ومهدوا- طريق "تحرير المصطلحات الإعلامية" باستحداث معادلات لفظية، ومقابلات مصطلحية للكلمات التي دستها دعاية الغزو الغربي الحديث، وورثها آخر احتلال -مباشر- للعالم العربي، وأقرب مثال على ذلك كلمة "الاستعمار" ومشتقاتها..
فقد طويت صفحة استعمال تلك اللفظة "الملغومة"، وسمي "الاستعمار" "احتلالا"، كما هي حقيقته في "الفطرة اللغوية"!
ومن تجليات تحرير المصطلحات في قاموس الشأن الفلسطيني إحلال كلمة "المغتصبات" مكان لفظة "المستوطنات"، حتى يطابق الاسم التوصيف.. كما أن من أبرز أمثلة المقابلات المصطلحية تلك العبارة المركبة "الكيان الصهيوني"، ولاجتناب النسبة لـ"إسرائيل"، يستخدم إعلاميو الخط التحريري المقاوم عبارات سائرة من قبيل "الصحيفة العبرية"، "المحلل العبري"، "الرأي العام العبري"، "الشارع العبري"..
وتحت هذا "التطهير الإعلامي" خدمة لغوية جليلة، إذ هو -في جانب منه- "تحرير للألفاظ" من أسر الاستعمال وزنزانة التداول.. كما أن ثمة ملمحا آخر من ملامح العناية بدقة التعبير ومراعاة الذوق الاستخدامي، سأضرب له مثلا: عدول رهيفي الذوق من المحررين عن الفعل "لف" إلى مقابله "سجّى" عند التعبير عن تغطية الشهيد بالعلم الوطني الفلسطيني، ولا يخفى ما تبعثه كلمة "لف" -في النفس- من إيحاء بالجفاء، مع ما فيها من الاستهلاكية والسطحية، ويغتفر لتقرير الشأن الفلس????طيني ما لا يغتفر لغيره من الأحداث الرسمية والأخبار الجافة.. فليس على محرره جناح إذا ما وصله بكهرباء الأدبية، تبعا لصبغة الموضوع وطبيعة الحدث، من دون إسراف ولا توعر!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
من الطاعة إلى الهيمنة: كيف تُستخدم المصطلحات السياسية والدينية لإخضاع الشعوب
لم يكن الاستبداد يومًا مجرد سلطة خشنة تُمارَس بالحديد والنار، بل هو هندسة متقنة للوعي، معماريّة للذهن تُشيَّد بالمفاهيم قبل السجون، وباللغة قبل البنادق. فالكلمات ليست محايدة، إنها دواليب الزمن، وقاطرات التاريخ، وأحيانًا، قيود لا تُرى. ومنذ أن أدرك الطغاة أن العنف العاري يخلق المقاومة، لجأوا إلى ما هو أكثر مضاءً: تفخيخ المصطلحات، وإعادة تعريفها بحيث تبدو كما هي، لكنها تحمل نقيضها. فالطاعة ليست طاعة، بل “استقرار”، والخضوع ليس خضوعًا، بل “مصلحة وطنية”، واحتكار السلطة ليس استبدادًا، بل “وحدة الصف”.
يبدأ كل استبداد بعملية إعادة تأويل ممنهجة للمفاهيم، حيث تتحول اللغة إلى أداة ضبط لا تُمارِس القمع المباشر، لكنها تشكل العقل ببطء، كما ينحت النهر الصخور بصبر لا ينفد. منذ لحظة دخول الإنسان إلى فضاء السلطة، سواء عبر الدولة أو المؤسسة الدينية، يجد نفسه محاطًا بمفاهيم لا يملك رفاهية مساءلتها، لكنها تشكل حياته بأدق تفاصيلها. فالطاعة ليست فقط علاقة بين الفرد والسلطة، بل منظومة تُعاد هندستها في المدارس، ودور العبادة، والبرامج التلفزيونية، والوثائق الرسمية، وحتى في الأحاديث اليومية التي تجري بلا اكتراث، لكنها تحمل في طياتها ترسبات قرون من الإخضاع الممنهج.
حين قال أفلاطون إن الحاكم ينبغي أن يكون “راعيًا” لشعبه، لم يكن يدرك أنه يضع حجر الأساس لاستعارة قاتلة. فالراعي لا يكون إلا إذا كان الناس قطيعًا، والقطيع لا يسير إلا بوهم الطاعة أو بسوطها. ولذا، شُيِّدت النظم السلطوية على مصطلحات تُعيد إنتاج هذه العلاقة، فأُفرغت السياسة من معناها الجدليّ، وأُعيد تعريفها كعلاقة رأسية، لا تقوم إلا على الطاعة والتسليم.
في السياق الديني، تحولت عبارات مثل “طاعة أولي الأمر” و*“درء الفتنة”* و*“الخروج على الجماعة”* إلى أسلحة مفاهيمية تضمن للسلطة بقاءها، لا بالحجة، بل بإرهاب الفكرة نفسها. هكذا أصبح الحاكم ظلّ الله، وأي مساس به مساس بالعقيدة. حتى أن الغزالي، رغم تأملاته العميقة، سقط في فخ هذه الصياغة حين قال: “السلطان ضروري في نظام العالم”، رغم أن السلطان لم يكن يومًا إلا الضرورة الوحيدة في خراب العالم.
أما في الحقل السياسي، فالأمر أكثر تعقيدًا، إذ يتخذ الخطاب أشكالًا أكثر حداثة، لكنها لا تقل قِدَمًا في جوهرها. فمصطلحات مثل “الأمن القومي” و*“المصلحة العليا للدولة”* تُستخدم اليوم بذات الطريقة التي استُخدمت بها في عصور السلاطين، لكن في لبوس جديد. في القرن العشرين، لم يكن القمع في الأنظمة السلطوية يُمارَس بذريعة الحق الإلهي، بل تحت راية “حماية الاستقرار”. ومن السودان البشير إلى عراق صدام، ومن سوريا الأسد إلى ليبيا القذافي، ظل “الاستقرار” حجر الأساس في قمع كل ما يهدد احتكار السلطة.
منذ فجر التاريخ، كان للسلطة قدرة خارقة على التكيف، على تغيير جلدها دون تغيير جوهرها. ففي الدولة الأموية، حين أراد عبد الملك بن مروان أن يُحكم قبضته على الخلافة، لم يُشهر سيفه فحسب، بل أشهر مفهومًا: الجبرية، التي صاغها وعّاظ السلطان لتصبح أيديولوجيا تخدم الخليفة. فصار الحاكم هو قَدَر الأمة، ورفضه هو رفض لإرادة الله. هذه الصياغة لم تكن سوى صورة أولية لما سيأتي لاحقًا في الأنظمة الحديثة، حيث يُعاد إنتاج الطغيان لا بالسيوف، بل بالمفاهيم.
وما الجبرية سوى نواة لأشكال أخرى من إعادة إنتاج الطاعة؟ في العصر الاستعماري، كانت “رسالة الرجل الأبيض” هي الجبرية بثوب حديث، حيث صُوّرت الهيمنة الغربية كقدر لا يُردّ، ومهمّة حضارية لا تقاوم. أما في الدولة الوطنية، فقد تحول الاستعمار إلى استعمار داخلي، حيث استبدلت الشعارات، لكن البنية بقيت كما هي. فالقائد الضرورة هو ذاته الحاكم بأمر الله، والدولة الأمنية هي امتداد للحامية الاستعمارية، وإن تغيّرت الأسماء.
لكن هل يمكن قلب الطاولة؟ هل يمكن للمصطلحات أن تُحرر بدل أن تُكبِّل؟ هنا يأتي دور المثقف، ليس بوصفه مصلحًا اجتماعيًا، بل بوصفه مُخرِّبًا للخطابات المستقرة. فالتفكيك ليس رفاهية فكرية، بل ضرورة سياسية، وهو فعل مقاومة بحد ذاته.
حين قال غرامشي: “الهيمنة تبدأ بالثقافة”، كان يضع أصبعه على الجرح. فالسلطة لا تحكم بالسلاح فقط، بل بمنظومة كاملة من الخطابات التي تجعل الطاعة أمرًا بديهيًا. ومن هنا، فإن تفكيك اللغة ليس تمرينًا لغويًا، بل مواجهة للهيمنة في أعمق مستوياتها.
لكن هذا التفكيك لا ينبغي أن يكون هدمًا فحسب، بل إعادة بناء. فالمفاهيم لا تزول، بل تتحول، وما يُفكَّك اليوم يمكن أن يُعاد تشكيله غدًا. فالمصلحة الوطنية، مثلًا، ليست مفهومًا سلطويًا في جوهرها، بل أداة يمكن أن تُستعاد لصياغة مشروع شعبي، والأمن القومي ليس سلاحًا لقمع المعارضين، بل يمكن أن يكون ضمانًا لحماية الجماهير من الدولة نفسها.
غير أن السلطة تتكيف، وها هي تعيد إنتاج نفسها في الفضاء الرقمي. فمن كان يظن أن وسائل التواصل الاجتماعي ستكون منبرًا للتحرر، وجدها تتحول إلى ساحة جديدة للرقابة، حيث يُعاد تعريف “حرية التعبير” وفق شروط السوق والتوجهات الأيديولوجية السائدة. فمن يحكم اللغة يحكم الوعي، ومن يحكم الوعي يحكم المصير.
في الصين، على سبيل المثال، صيغ مصطلح “التناغم الاجتماعي” ليبرر الرقابة على الإنترنت، وفي الغرب، أُعيد تعريف “الأخبار المزيفة” بحيث أصبحت أداة لإسكات الأصوات غير المرغوبة. أما في العالم العربي، فما زالت المصطلحات تُستخدم بذات الحيلة القديمة: فمن يرفع صوته يُتهم بأنه “عميل”، ومن يطالب بحقوقه يُتهم بأنه “مخرّب”، وهكذا تدور الدائرة.
التاريخ ليس قدرًا، والمصطلحات ليست محايدة، واللغة ليست أداة للتعبير فقط، بل هي أداة للتحكم أو للتحرر. وما دام الاستبداد قادرًا على إعادة إنتاج نفسه عبر الخطاب، فإن المقاومة تبدأ من تفكيك الكلمات التي صيغت لخدمته، وإعادة تعريفها بحيث تصبح في خدمة الإنسان، لا الطاغية.
فالطاعة ليست استقرارًا، والاستبداد ليس قدَرًا، واللغة ليست حكرًا على السلطة. ومن هنا، فإن استعادة الوعي لا تبدأ فقط من تحرير الأجساد، بل من تحرير الكلمات، لأنها أول ما يُسلب، وآخر ما يُستعاد.
zoolsaay@yahoo.com