ها قد عاد مايو المخيف لأوروبا وأمريكا بعد ستة وخمسين عاما، مايو الساخن جوًا وطقسا بشريا كذلك، والعالم اليوم يموج في فتن لها أولٌ ولا يبدو أن آخرها قريب الانتهاء؛ فما علاقة كرة الثلج بهذا الشهر الساخن طقسا وأحداثا؟ وما علاقة أيام بيت الزبير الفلسفية بهذا كله؟ وهل للاعتصامات الطلابية في جامعة كولومبيا -التي احتضنت المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد- والجامعات الأمريكية فالعالمية دورٌ في الوصول إلى حلٍّ يوقف الإبادة على الأقل! هذا ما سنحاول مقاربته في هذه المقالة.
منذ نهايات العام المنصرم، تصدر قطاع غزَّة المشهد العربي والإسلامي فالإنساني، وبدا تأثير غزة وأهلها ووحشية وقذارة الاحتلال كما كرة الثلج المنفلتة من لسان جبلي شاهق. كانت البداية بانكشاف المواقف وتحولها من المغازلات السرية إلى ما يشبه المواعيد الغرامية على الملأ، فهذا وزير الخارجية الأمريكي يعلن أنه أتى للأرض المحتلة لا بوصفه وزير خارجية القوة المتحكمة في العالم، بل بوصفه يهوديا!. وهكذا حذت دول الاتحاد الأوروبي الكبرى حذو أختها الكبرى -أمريكا- ففي النهاية لا وجود لأمريكا دون المهاجرين الأوروبيين. فالمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا بل ورئيسة الاتحاد الأوروبي، كلهم أعلنوا وقوفهم الصريح مع الاحتلال الوحشي ضد ما بدا حينها أنه رد على المقاومة الفلسطينية؛ ولكننا تخطينا ربع القرن الحادي والعشرين، فما الحاجة إلى الأقنعة؟ هكذا تحوّل ما روّج له الاحتلال ومشايعوه بأنه رد على المقاومة وأحداث السابع من أكتوبر، إلى إبادة وحشية وصريحة تحت مرأى العالم الذي تبيّن أن شريعته ليست سوى شريعة الغاب، فلا ديمقراطية ولا حقوق حين يتعلق الأمر بالمصالح الأمريكية والأوروبية وقوى الاستعمار الكبرى.
كرة الثلج التي تدحرجت من غزة، كانت تكبر شيئا فشيئا، حتى صار التحكم بها أمرا مستحيلا يفوق قدرة الوحوش الكبيرة على الإمساك بها أو كبحها على الأقل. فبعدما انكشفت المواقف على الملأ، طفقت الأحداث تتوالى بسرعة جنونية رهيبة. فلم يعد حتى أكثر المناصرين والمنافحين عن «القيم الغربية» يستطيع تغطية العُري الأخلاقي والسياسي للغرب. فمن المواقف التي لا ترى في الفلسطيني كائنا بشريا موازيا لإنسان الاحتلال، إلى المواقف الفكرية والأخلاقية، وليس انتهاء بما تقوم به الشركات العالمية الداعمة للاحتلال من انتهاك لكل ما له علاقة بالأخلاق والأمانة، وأعني هنا طريقة صنع الأغذية التي تختلف محتوياتها إذا كانت مُصدَّرة للشرق أم الغرب! والتي تكشّفت في الأيام المنقضية بصورة رسمية تناولتها منظمة «بابلك آي» السويسرية في تقريرها المفصل عن شركة نستله للأغذية على سبيل المثال، في تجلٍ صريح وصارخ لعقيدة المركزية الغربية.
في يوم الاثنين المنصرم، قدم المفكر السوري هاشم صالح ورقة بحثية بعنوان «الفلسفة والتنوير في السياق العربي الإسلامي: الآفاق والتحديات» ضمن فعاليات ملتقى بيت الزبير الفلسفي الثاني، ثم تطرق إلى الحديث عن الفلسفات الغربية التي أوصلت العالم اليوم إلى هذه الرمادية في المواقف والاختيارات والحياة بأسرها. وكيف أن الفلسفة العدمية والمركزية الغربية أوصلتا الغرب الذي حارب كل أشكال الدين والتدين وأوغل في المادية حتى النخاع، أوصلتاه إلى أنه لم يعد يفرق بين الرجل والأنثى، الخير والشر، الظلم والعدل، فكل شيء نسبي ورمادي! بما في ذلك القضايا الكبرى كالقضية الفلسطينية العادلة. وقبل هذا الملتقى، كانت قد بدأت الاعتصامات الطلابية في جامعة كولومبيا الأمريكية وغيرها من الجامعات الأخرى التي أقضّت مضجع نتنياهو وبايدن وداعمي الاحتلال، فسقطت فجأة حقوق الحرية في التعبير والتظاهر وغيرها من الشعارات التي رددتها أمريكا كلما أرادت غزو بلد وجدت فيه ثروة طبيعية، فما بالك لو كانت تلك الثروة سوداء سائلة كالتي وجدتها أمريكا في العراق في تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، هنا يصبح دور شرطي العالم في نشر الحريات واجبا أخلاقيا وضرورة ملحّة يلوّح بها أمام كل من يقف ضد ظلمه وظلاميته.
جعلتني هذه الاعتصامات الطلابية أستعيد شيئا قرأته للفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران حول الثورة الطلابية في باريس في شهر مايو من العام 1968، وأسباب تلك الثورة الطلابية ونتائجها. والحق يقال بأن هذا الفيلسوف المعاصر يذكرني بالفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، فكلامها ناقد شرس للاحتلال الصهيوني، وكلاهما داعمان للقضية الفلسطينية العادلة، وما يمنح آراءهما مزيدا من الأهمية، كونهما يهوديا الأصل وهو ما يفنّد ادعاء الصهيونية السياسية بأنها يهودية، أي ادعاء العقيدة السياسية بأنها ديانة ينبغي مناصرتها! ومما يستفزني للاستطراد هنا أيضا، أن الشمّاعة التي استهلكها الاحتلال ومناصروه ردحا طويلا من الزمن، أعني مصطلح «معاداة السامية» وهو مصطلح فكاهي بامتياز، فيكفي أن ينتقد المرء إسرائيل ليصبح معاديا للسامية! وإذا ثبتت تهمة «معاداة السامية» -من السخرية أن العرب ساميّون، ولكنهم معادون للسامية لعدم رضوخهم للوجود الإسرائيلي- فسيتم سحل المرء اجتماعيا وسياسيا نظير هذه التهمة. ولكن هذه المسرحية الهزلية مما جرفتها كرة الثلج، فبعدما كان شطر كبير من الشباب الأمريكي والأوروبي المغيّب عما يحدث حقا في «أرض الميعاد»، وكان يتم تلقينهم الرواية التي تقول بأن الإسرائيليين مساكين وسط وحوش من العرب الهمجيين؛ جاء طوفان الأقصى كاشفا للحقيقة وفاتحا الباب على مصراعيه لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فلم يعد بمقدور الأحزاب السياسية السيطرة على الإعلام الذي صار حرا بالكامل وينقل الحقيقة كما هي ببشاعتها وبلا أدنى زيف، مما قَلَب السحر على الساحر أخيرا.
في حوار له في مجلة الدوحة القطرية العدد 128، حاوره إرسيلا غوتييه وشارل كيول عن مايو 68، وهو حوار يستحق الوقوف عليه من رجل عاصر الأحداث في إرهاصات قدومها وأثناء حدوثها والنتائج المنبثقة منها وعنها بعدما انتهت وصارت تاريخا. فقد كان موران «المثقف الفرنسي الوحيد الذي درس وفكَّ شفرة أحداث مايو -حال وقوعها- ضمن سلسلة مقالات نشرت بجريدة لوموند بدءا من منتصف مايو 1968» بعبارة المحاورَين واقتباسا من المجلة. يتحدث موران في حواره كمن يبسط خريطة واضحة المعالم لكل ما حدث ولكل ما كان يبدو سرابا لرجل بعيد في قلب الصحراء، فهو لا يُرجع المسألة -وهذا منهجه- إلى حدثها الآنيِّ؛ بل يكشف لك النشأة وأسباب الظهور. ولا يمكن أن نغفل أن أوروبا حينها، قد نفضت عنها دخان الحربين العالميتين الأولى والثانية، لكن التراب والرماد الناتجين عنها ظلا ينخران ذلك الكيان المهترئ بطريقة غير طريقة السلاح الفوري الدموي القاتل، بل هو سلاح أشد فتكا ولكن آثاره بطيئة الظهور؛ سلاح الأفكار والمعتقدات الهدّامة.
كرة الثلج التي ثقبت جدار الفصل العنصري بين المحتل والأرض المحتلة خرجت للعالم، وباتت تذكر القوى الظلامية بأن جدار برلين ونظام الفصل العنصري -الذي كان سائدا وطبيعيا في جنوب إفريقيا- اللذين سقطا يوما وصارا ثقبَ مسمار في حائط التاريخ؛ هما المآل الطبيعي للاحتلال الإسرائيلي الآيل للسقوط لا محالة. وسنتعرف في الجزء الثاني من هذه المقالة بشكل أكبر وأوضح على الدور الطلابي المهم والمفصلي للتخلص من هذا الاحتلال الذي سيظل وصمة عار في جبين التاريخ الإنساني، كما سنتعرف على عدد من الكتب المفصلية والمهمة في سياق الأفكار والقضايا العادلة. على الإنسان أن لا يكلّ عن نصرة الحق، فكما يقول غاليانو في الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية «..كل فعلِ تدميرٍ في تاريخ البشرية، يجب أن يتم الرد عليه، إن عاجلا أو آجلا بفعلٍ خلَّاق». وكما عادت كل بلاد العالم إلى بهائها بعدما استنزفها وأهلكها الاستعمار، ستعود فلسطيننا العربية بهيةً وهي تنفض عنها دنس المستعمر وبقايا الإمبريالية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کرة الثلج
إقرأ أيضاً:
إعلان الفائزين بجوائز المعرض المركزي للشركات الطلابية
توجت شركة "كوفي باك" الطلابية من تعليمية الداخلية كأفضل شركة طلابية في ختام المعرض المركزي الأول للشركات الطلابية "تكنو ابتكار 2024"، الذي أقيم في متحف عُمان عبر الزمان، ونظم المعرض مركز التوجيه المهني والإرشاد الطلابي بوزارة التربية والتعليم بالتعاون مع هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وغرفة تجارة وصناعة عمان.
رعى حفل الختام سعادة الشيخ الدكتور فيصل بن علي الزيدي، والي منح، الذي قام بتوزيع الجوائز على الشركات الفائزة، وحصلت شركة "دروب تاكس" الطلابية من تعليمية شمال الشرقية على جائزة أفضل منتج مستدام، في حين فازت شركة "شاركون" من تعليمية ظفار بجائزة أفضل منتج مبتكر.
واستمر المعرض لمدة ثلاثة أيام بمشاركة 22 فريقا من مختلف المحافظات التعليمية، مما أتاح للطلبة عرض إبداعاتهم في مجالات الابتكار وريادة الأعمال.
وعبر الزوار عن إعجابهم بالمشروعات الطلابية التي ركزت على استخدام الذكاء الصناعي، واستغلال الموارد البيئية، وتطوير التقنيات الحديثة، وقد تمثل المعرض في تطبيقات المعرفة التي اكتسبها الطلبة من مناهجهم الدراسية، مع التركيز على إيجاد حلول للمشكلات وتطوير تقنيات جديدة، بما يتماشى مع "رؤية عمان 2040" في تعزيز الابتكار ودعم الشركات الناشئة.
كما تم الإعلان عن الشركات الطلابية التي حصلت على دعم ورعاية من الشركات الكبرى، وهي شركة "زيرو ون" الطلابية من تعليمية مسقط، وشركة "آرتمست" الطلابية من شمال الباطنة، وشركة "فالكون أكس" و"الحدائق الذكية" من تعليمية البريمي.
وأشار الدكتور عبدالعزيز بن مبارك الهاشمي، أخصائي نظم ثانٍ بوزارة التربية والتعليم إلى آليات التحكيم للمشروعات الطلابية قائلا: "كان تركيزنا في تقييم المشروعات على عدة جوانب رئيسية، منها فكرة المشروع ومدى إبداعيتها وملاءمتها لاحتياجات السوق، بالإضافة إلى روح الفريق والتعاون بين الأعضاء، كما أخذنا بعين الاعتبار جودة العرض التقديمي وأهداف الشركة الاستراتيجية ومدى تأثير المشروع على المجتمع، بما في ذلك مساهمته في التنمية المستدامة".
وعبرت منيرة بن أحمد التوبية وعهد بنت عيسى البهلانية من محافظة الداخلية، صاحبتا مشروع "كوفي باك"، عن سعادتهما بالفوز، وأوضحتا أن فكرة المشروع تقوم على إعادة تدوير بقايا القهوة لتحويلها إلى أكياس وأوراق قابلة للتحلل، بدلا من استخدام الأكياس البلاستيكية، مما يعكس التزام المشروع بالاستدامة والحفاظ على البيئة.