شيء غريب يحدث لي حين يموت فجأة ممثل مصري شهير أحبه، أدمنت على أفلامه ومسلسلاته، شيء يشبه فقدان عزيز عشت قربه وعرفت عنه كل شيء.
كانت لدي في صغري عادة غريبة، في أواسط الثمانينيات، كانت تصل إلى فلسطين مجلات مصرية كثيرة، كنت مغرمًا بمجلة الكواكب وهي مجلة تعنى بحياة وأخبار الممثلين المصرين ومجلة أدب ونقد وهي مجلة تعنى بالأدب والثقافة، وكان أبي يستغرب كيف أجمع بين حب هاتين المجلتين اللتين تبدوان متناقضتين، إذ إن مجلة الكواكب كانت تنشر أخبار وعلاقات الفنانين بطريقة قريبة من النميمة والتدخل في الحياة الخاصة للفنانين، وهذا حسب رأي أبي (وهو شاعر) يتناقض مع مجلة رصينة وجدية تنشر قصصًا وشعرًا لعبد الحكيم قاسم ويوسف أبو رية والخراط وخيري شلبي وآخرين مهمين.
خمسة ممثلين مصريين تأثيرهم على روحي واضح: أولهم صلاح السعدني ونور الشريف، وعبدالله غيث، وسميحة توفيق، وفاتن حمامة، كنت أرسم قصصًا وأخيط حيوات عن هؤلاء الأعزاء الذين شاهدت معظم أفلامهم، وشاهدت حوارات كثيرة معهم، وأعرف عائلاتهم اسما اسما، وحفظت أدوارهم وراقبت كيف يبتسمون وكيف يغضبون، ماذا يحبون وما الذي لا يحبونه.
وكنت في سري، وأحيانا في علني، أتمنى لو أن الله خلقني قريبًا من عائلات هؤلاء النجوم، كجار أو ابن أخت أو حتى كصاحب بقالة في الجوار.
أدمنت مع عائلتي تحديدًا حب صلاح السعدني، شاهدت له عشرات المسلسلات، وتابعت أخباره، كانت أمي تحبه وتخاطبه بـ(أبو الصلح) وحين يحين موعد مسلسله، نجتمع حول التلفاز، ونسعد بدوره حتى لو كان شريرًا، كانت أمي تقول: (صلاح طيب بس هو بمثل دور الشر، أوع اتفكروه شرير)، كنت أقول لأمي: لماذا لم يكن صلاح شقيقك؟ أريده شقيقك لأخاطبه خالي صلاح، ضحكت أمي -رحمها الله- وصارت كلما حان مسلسل فيه صلاح تناديني: (يلا زياد خالك أجا).
ترك صلاح السعدني حيوات كثيرة داخلنا، حيوات من دم وجمال وخوف وخيانات وأعصاب وبكاء وفرح، حيوات عميقة صدقتها تمامًا، وعشت جزءًا منها واقعيًا فيما بعد، الأمر الذي شكّكني وشكك معلميّ وأهلي بإصابتي بانفصام في شخصيتي، وتصدع غريب في علاقاتي.
غيّرت أفلام صلاح ومسلسلاته، كانت مراهقتي عنيفة، المخيم محاصر بمنع التجوال أغلب الأيام، والمدارس مقابر جاهزة بطبيعتها الأوامرية والعقابية، ورام الله ثمينة وبعيدة، كان الوصول إليها يكلفني طابورًا من الحجج والأسباب، لإقناع أبي، ووقتًا يتخلله ركوع ودموع عند قدمي أب كان يخاف عليّ من رام الله، البعيدة والثمينة والغريبة. كانت أفلام صلاح نوافذنا للحلم والمتعة، بصدق الأداء وجماليات التصوير، كان الحب حبًا، والغضب غضبًا، والموت موتًا، والإغواء إغواءً.
وكانت سببًا كبيرًا لي لأنسى، بل وأتجاهل، طلقات الجنود في ليل المخيم المحاصر.
مات صلاح الحبيب بعد عزلة وابتعاد طويل عن الإعلام والفن، ابتعاد أرهقني وعائلتي ونحن نتساءل عن سبب اختفائه، وكنا نرسل الرسائل لأصدقائنا في مصر، نسأل عنه وعن أمراضه وسبب عزلته.
ما زلت مريضًا بالسينما المصرية تحديدًا بأفلام ومسلسلات صلاح، بصوته وطيبة قلبه التي يخفيها في أدوار الشر، باستقرار عائلته وحبه لأبنائه ومواقفه الوطنية تجاه فلسطين.
أربعون عامًا من تصديق الكذبة الصادقة الرائعة، ما زلت لا أسمع طلقات الأعداء في الخارج ووقع «بساطيرهم» في الأزقة، ما زلت غير مكترث لمنع التجوال الذي يعلنه الآن (حسبما يقول شقيقي)، بلغة ركيكة، جندي يظن أنه قادر على خطفي من دنياي التي اخترتها، ما زلت غائبًا عن وعيي، هاذيا بالعائلة الخرافية وقصص الحب والموت والانتقام. رحمة الله عليك يا خالي يا صلاح السعدني.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صلاح السعدنی ما زلت
إقرأ أيضاً:
مجلة الجيش: الأمن المائي أولوية إستراتيجية
أكدت افتتاحية مجلة الجيش في عددها الصادر بشهر مارس، أن الجزائر الجديدة المنتصرة تعيش على وقع انجازات كبرى ومشاريع استراتيجية ومنها تلك التي اشرف على تدشينها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون نهاية الشهر المنصرم والمتمثلة في محطات تحلية مياه البحر التي دخلت حيز الخدمة في خطوة عملاقة نحو تعزيز أمننا المائي وتأمين احتياجات المواطنين من المياه الصالحة للشرب.
إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور
إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور