ثغرات أمنية وحوادث متكررة.. كيف أصبحت ألمانيا هدفا للتجسس؟
تاريخ النشر: 1st, May 2024 GMT
برلين- أثار كشف متكرر عن عملاء وقضايا تجسس مخاوف كبيرة في ألمانيا من أن تصير مكشوفة أمام التهديد الأجنبي، لا سيما بعد واقعة اعتقال 6 أشخاص، بينهم مساعد نائب في حزب "البديل من أجل ألمانيا"، الذي يُعدّ حاليا ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد.
وطرحت قضية التجسس الأخيرة تساؤلات من قبيل "هل ألمانيا هشّة أمام التجسس الأجنبي إلى هذا الحد، خصوصا من القوى التي تصنفها برلين معادية، وعلى رأسها روسيا والصين؟".
ووجد النائب الألماني في البرلمان الأوروبي ماكسيميليان كراه، عضو حزب البديل، نفسه تحت شبهات كبيرة وهو مطالب الآن بتفسير سبب توظيفه لـ"جاسوس صيني".
لكن كراه نفسه تحوم حوله عدة أسئلة، وسبق لموقع "تي أون لاين" الألماني الحديث عن إنشاء كراه لوبيا ألمانيا- صينيا لأجل زيادة نفوذ بكين في ألمانيا، وأنه سافر إلى الصين على نفقة شركة حكومية صينية، كما أنه دافع عنها على الدوام داخل البرلمان الأوروبي.
يقول العقيد المتقاعد رالف د. ثييله، رئيس الجمعية السياسية العسكرية، في مقال تعليقا على القضية، إن "السياسيين وشخصيات الأعمال يتم التجسس عليهم وتجنيدهم. لذلك، فإن خبرة المؤسسات والمراكز البحثية الألمانية، وخاصة على الصعيد الصناعي والاقتصادي وعلى صعيد الأسلحة، تجد طريقها بسهولة إلى المنافسة الصينية أو الروسية".
ويتابع "لا يقتصر الأمر على الأعداء النظاميين فحسب، بل كذلك المنافسين الأصدقاء الذين يلقون نظرة عميقة على معرفتنا واتصالاتنا وبنانا التحتية الحيوية. وإذا لزم الأمر، يمكن بعد ذلك إيقاف تشغيلها دون مشاركتنا".
وحث سنان سيلين، نائب رئيس المكتب الاتحادي لحماية الدستور (الاستخبارات الداخلية) الشركات الألمانية على الحذر، لافتا في ندوة صحفية هذا الأسبوع إلى أن "وجود مواقف إيجابية تجاه العلاقات التجارية مع الصين أدى نتائج وخيمة على الشركات" التي ليست على دراية كبيرة بأخطار التجسس، منتقدا كذلك الاعتماد الاقتصادي الألماني المفرط على الصين.
مساعد ماكسيميليان كراه في البرلمان الأوروبي الموقوف، اسمه الشخصي جيان غو، ويحمل الجنسية الألمانية، ويعمل في قطاع الأعمال.
وحسب الادعاء العام الألماني، فهو عميل منذ سنوات لصالح السلطات الصينية، وينشط في التجسس على المعارضة الصينية في ألمانيا وجمع معلومات عن الصينيين المقيمين في البلاد، وكذلك تبليغ النقاشات والقرارات المتخذة في البرلمان الأوروبي.
وحسب معطيات نشرتها صحيفة "تسايت" الألمانية، فإن هذا العميل الصيني عرض نفسه للعمل مخبرا للاستخبارات الألمانية منذ مدة، لكن كانت هناك شكوك في دوافعه، غير أنه استطاع التسلل إلى داخل مجموعات المعارضة الصينية والوصول إلى مهام رفيعة داخلها.
ونفت الصين رسميا هذه التقارير، وقالت إنها تهدف إلى الإضرار بعلاقتها مع أوروبا. لكن مزاعم التجسس لا تستثني حتى الألمان غير المجنسين؛ فمن بين من تم إيقافهم، شخص ألماني اسمه توماس.ر، كان عميلا للاستخبارات الصينية (إم إس إس)، ويُعتقد أنه حصل على معطيات مهمة للغاية حول تقنيات مبتكرة، واستخدم رجلا وامرأة ألمانيين يملكان شركة معلوماتية لها تواصل مع شخصيات مهمة، للوصول إلى هذه المعطيات.
الخطر الأكبرأكثر ملفات التجسس التي تفجّرت في ألمانيا، كانت لها علاقة بروسيا، إذ تم تسجيل ما يقارب 10 حالات، ومن ذلك محاكمة ضابط احتياط عام 2022، زوّد عسكريين روسا -قال إنه لم يدرك هويتهم- بمعلومات حساسة تخصّ الجيش الألماني.
ووصلت الشبهات إلى مسؤولين ألمان كبار في مواقع حساسة، فقد أقالت الداخلية الألمانية عام 2022 رئيس وكالة الأمن السيبراني آرنه شونبوم، بعد نشر القناة الألمانية الثانية تقريرا حول شركة استشارية أسهم في تأسيسها، لها صلات بالاستخبارات الروسية.
أصرّ شونبوم على براءته، ورفع دعوى ضد القناة، وكذلك ضد الوزارة، ولا تزال القضية معروضة أمام القضاء.
وأدين موظف ألماني عام 2021، كان يعمل في شركة للخدمات الأمنية تقدم خدمات للبرلمان الألماني، إثر تسليمه قرصا مدمجا للسفارة الروسية يتضمن مباني البرلمان. وما قد يفسر سلوكه، أنه كان ضابطا سابقا في ألمانيا الشرقية التي كانت صلاتها قوية بالاتحاد السوفياتي حينها.
وآخر ملف هز الرأي العام، نشر الإعلام الروسي تسجيلا صوتيا مطولا في مارس/آذار الماضي، يتحدث فيه ضباط ألمان عن إمكانية قصف شبه جزيرة القرم، وهو التسجيل الذي أكدت برلين صحته، وتبين أن أحد الضباط لم يحترم البروتوكولات الأمنية، وشارك في الاجتماع من سنغافورة، عن طريق وسيلة اتصال غير آمنة.
أدت هذه الاعتقالات إلى انعقاد جلسة خاصة في البرلمان الألماني، ووجهت عدة أحزاب اتهامات لحزب "البديل"، واتهمته بـ"الوطنية الكاذبة"، خصوصا أن هذا الحزب يرفع دوما شعارات تمجّد القومية الألمانية.
لكن في المقابل، هناك شكوك في مصداقية عدد من هذه الاتهامات بحكم محاولات الأحزاب الألمانية عزل حزب "البديل" ومنعه من الانتشار في البلاد بمبرّر "خطره على النموذج الألماني".
أما رالف د. ثييله، فيشير إلى أن الأمر يتعلق بثغرات خطيرة في البنية الأمنية الألمانية، لافتا إلى أنها تفتقر إلى أساس واضح يحدد من يقوم بأدوار الحماية من هجمات تأتي من روسيا والصين، خصوصا عدم وجود تنظيم للقرارات بين الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية، مؤكدا أن الأمر لا يخص فقط هذه الهجمات، بل كذلك الاضطرابات في إمدادات الطاقة والمياه والاتصالات.
يقول كونستانتين فون نوتز، رئيس "لجنة مراقبة الأجهزة السرية" في البرلمان الألماني، في جلسة برلمانية "علينا أن نأخذ هذا التهديد على محمل الجد مرة أخرى، لأن مسألة النجاح في مكافحة التخريب والتجسس والدعاية المناهضة للديمقراطية لا تتعلق بأقل من مستقبل ديمقراطيتنا وحريتنا".
وحسب دراسة لجمعية "بيتكوم"، وهي ائتلاف اقتصادي ألماني، فإن 75% من الشركات الألمانية تعرّضت ما بين 2017 و2019 لهجمات سيبرانية، خصوصا منها الشركات الصغيرة، وعبرّت 21% من الشركات عن سرقة بيانات حساسة.
وتضمنت الهجمات على الخصوص سرقة كلمات المرور، أو إرسال برمجيات خبيثة، وتسببت بخسائر اقتصادية للشركات تقدر بـ100 مليار يورو سنويا.
ومما توصلت إليه الدراسة، أن مصدر الخطر الأكبر هو الموظفون السابقون الذين يقصدون الإضرار بالشركة بنسبة 33%، يليهم الموظفون الذين يتم استغلالهم دون علمهم بنسبة 23%.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات فی البرلمان الأوروبی فی ألمانیا
إقرأ أيضاً:
كيف أصبحت الصومال حجر الزاوية باستراتيجية تركيا في أفريقيا؟
نشر موقع "إنسايد أوفر" تقريرًا سلط فيه الضوء على الدور التركي المؤثر في الصومال باعتبارها بوابة رئيسية للاستراتيجية التركية في أفريقيا، مشيراً إلى الدور الإنساني لأنقرة بعد زيارة الرئيس رجب أردوغان إلى مقديشو عام 2011، والتي تحولت فيها بعد ذلك لمؤثر اقتصادي وعسكري رئيسي في البلاد.
وقال الموقع، في التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن الصومال تحتل موقعًا محوريًا في الإستراتيجية الأفريقية لتركيا، فبفضل موقعها في القرن الأفريقي على طول طرق تجارية حيوية، وامتلاكها موارد بحرية غنية، حظيت الصومال باهتمام أنقرة لسنوات عديدة.
ويعود الارتباط الحديث بين تركيا والصومال إلى لحظة رمزية، ففي عام 2011، قام أردوغان، الذي كان آنذاك رئيس وزراء تركيا، بزيارة مقديشو في ذروة مجاعة مدمرة.
وكان أول زعيم غير أفريقي يطأ أرض الصومال بعد عقود من النزاعات، حيث جلب معه مساعدات إنسانية وسلط الضوء على معاناة البلاد أمام المجتمع الدولي. ورغم تقديم تلك الزيارة آنذاك على أنها بادرة إنسانية بحتة، فقد شكلت الأساس لشراكة تطورت بمرور الوقت لتصبح أكثر إستراتيجية.
منذ إعلان تركيا عام 2005 "عام أفريقيا" وحتى اليوم، سعت أنقرة إلى تعزيز علاقاتها مع العديد من الدول الأفريقية، لكن الصومال تبرز كحالة نموذجية لهذه الإستراتيجية. ففي أقل من عقد ونصف، انتقلت تركيا من كونها مجرد صديق إغاثي إلى أن أصبحت لاعبًا مهيمنًا في الصومال.
واليوم، تعد مقديشو المركز الرئيسي للوجود التركي في شرق أفريقيا، حيث تمثل مختبرًا يجمع بين التعاون والمصالح الوطنية التركية.
كيف استطاعت أنقرة دمج المساعدات والاستثمارات والقوة العسكرية والدبلوماسية لتوسيع نفوذها في الصومال وأفريقيا؟
التغلغل الاقتصادي: من التعاون إلى الاستثمار
أوضح الموقع أنه عقب زيارة 2011 مباشرة، قدمت تركيا نفسها كشريك سخي في عملية إعادة إعمار الصومال. ومن خلال وكالتها للتعاون تيكا (TIKA) ومنظمات إنسانية أخرى، موّلت أنقرة مشاريع حيوية شملت:
إعادة تأهيل مطار آدم عدي الدولي في مقديشو
تحديث ميناء العاصمة ليصبح أكثر حداثة وكفاءة
بناء بنية تحتية صحية متطورة، بما في ذلك مستشفى ضخم يحمل اسم رجب طيب أردوغان
وفي غضون سنوات قليلة، وبفضل مئات الملايين من الدولارات في صورة مساعدات واستثمارات، نجحت تركيا في كسب ثقة الشعب الصومالي والحكومة، مقدّمة نفسها كحليف غير متحيز يسعى إلى تحقيق رفاهية البلاد.
ووراء واجهة التعاون، ضمنت أنقرة تدريجيًا هيمنة مباشرة على قطاعات إستراتيجية من الاقتصاد الصومالي. فقد حصلت شركات تركية مقربة من حكومة أردوغان على امتيازات طويلة الأجل دون مناقصات لإدارة البنية التحتية الرئيسية.
على سبيل المثال، حصلت مجموعة "ألبيرق" على إدارة ميناء مقديشو لسنوات، بينما تولت شركة "فافوري إل إل سي" التركية تشغيل مطار آدم عدي الدولي.
وقد منحت هذه الامتيازات إسطنبول موقعًا متميزًا على أهم المنافذ التجارية الصومالية. وإلى جانب الأرباح الناتجة عن تشغيل الموانئ والمطارات، تمنح هذه السيطرة نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا كبيرًا، حيث إن من يتحكم في هذه البنى التحتية يمتلك تأثيرًا واسعًا على حكومة مقديشو.
بالتوازي مع ذلك، استثمرت تركيا في قطاع التعليم كأداة لاختراق ثقافي واقتصادي طويل الأمد. خلال السنوات الأخيرة، حصل العديد من الشباب الصوماليين على منح دراسية لمتابعة تعليمهم في الجامعات التركية، كما قامت أنقرة بتمويل مدارس وبرامج تعليمية داخل الصومال.
وبعد عام 2016، عقب القطيعة بين أردوغان وحركة غولن، عززت تركيا وجودها في المجال التعليمي عبر الاستحواذ على مؤسسات تعليمية محلية.
وهذا التطور يعني أن نخبة صومالية جديدة تنشأ حاليًا بتعليم ولغة وشبكات علاقات تركية. ومن منظور مستقبلي، فإن الأطباء والمهندسين والمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الصوماليين، الذين تلقوا تعليمهم في إسطنبول أو أنقرة، سيكونون حلفاء طبيعيين وشركاء اقتصاديين لتركيا.
الحضور العسكري: بين التدريب والحرب علي "الإرهاب"
وذكر الموقع أنه على الصعيد العسكري، انتقلت تركيا من تقديم الدعم إلى أن أصبحت عنصرًا أساسيًا في أمن الصومال. ويعد كامب تركسوم أبرز رمز لهذا التحول، وهي قاعدة عسكرية ضخمة افتتحت في مقديشو في أيلول/ سبتمبر 2017، بتكلفة بلغت حوالي 50 مليون دولار، تمتد القاعدة على 400 هكتار بالقرب من الميناء والمطار، مما يجعلها أكبر منشأة عسكرية تركية خارج البلاد.
في هذه الأكاديمية العسكرية الحديثة، يقوم مدربون أتراك بتدريب القوات الصومالية بشكل مستمر، حيث تشير التقديرات إلى أن جنديًا صوماليًا من بين كل ثلاثة قد تلقى تدريبه على يد الجيش التركي.
ويتم تدريب مئات المجندين والضباط سنويًا، بما في ذلك وحدات النخبة مثل كوماندوز غورغور التابع للجيش، ووحدات الشرطة الخاصة "حرمد". ولا يقتصر الأمر على التدريب الفني فقط، بل تتضمن مراسم أداء اليمين لبعض الفرق الصومالية عزف النشيد الوطني التركي باللغة التركية، وهو ما يعكس التأثير الثقافي والعسكري المتزايد لأنقرة على القوات المسلحة الصومالية.
وبذلك أصبح الهدف لهذا الوجود العسكري المكثف هو مساعدة الصومال في محاربة الإرهاب الجهادي، وخاصة تهديد حركة الشباب، وهي جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة ونشطة منذ عام 2006. في هذا السياق، لم تقتصر التعاون العسكري التركي-الصومالي على تدريب القوات البرية فقط، بل بدأت تركيا في تزويد حكومة مقديشو بأسلحة متطورة، وعلى رأسها الطائرات المسيّرة الهجومية "بيرقدار تي بي 2".
بالنسبة للصومال، التي تفتقر إلى سلاح جو فعال، فإن امتلاك هذه المسيّرات التركية يعني القدرة على استهداف معاقل المسلحين بسرعة ودقة، وتقليل الاعتماد على الغارات الجوية التي ينفذها الشركاء الغربيون.
هذه الإستراتيجية تحقق مكاسب مزدوجة لتركيا: فمن ناحية، أصبحت الصومال منصة دعائية لصناعتها العسكرية، حيث تُستخدم أسلحتها في معارك حقيقية، مما يزيد من سمعتها عالميًا. ومن ناحية أخرى، يعزز الوجود العسكري التركي في الصومال مكانة أنقرة كقوة إقليمية، مما يوسع نطاق نفوذها الاستراتيجي في منطقة ذات أهمية جيوسياسية كبرى.
الهدف الطاقي: الاستفادة من الموارد الصومالية
وأشار الموقع إلى أن الوجود التركي في الصومال يبدو للوهلة الأولي ذو بعد إنساني وجيوساسي ولكن مع مرور الوقت أصبح واضحا أن هناك شراكات اقتصادية ملموسة، تتعلق بالموارد الطاقية الصومالية؛ ويُعتقد أن المياه الإقليمية الصومالية وأيضًا باطن الأرض تخفي احتياطات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي، والتي ظلت غير مستغلة لعقود بسبب الحروب وعدم الاستقرار.
ولم تغفل أنقرة عن هذه الإمكانيات، وعملت بشكل ممنهج لتصبح الشريك المفضل لمقديشو في هذا القطاع، ففي عام 2016، نجح أردوغان في إبرام مذكرة تفاهم مع الحكومة الصومالية للتعاون في مجالي الطاقة والتعدين. وعلى الرغم من أن هذا الاتفاق ظل مجمدًا بسبب الاضطرابات السياسية، وخاصة بعد محاولة الانقلاب في تركيا في تموز/ يوليو 2016، إلا أنه عاد إلى الواجهة خلال السنوات الأخيرة.
وفي كانون الثاني/ يناير 2020، صادقت تركيا رسميًا على تلك الاتفاقية، في وقت وافقت فيه الصومال على قانون جديد للنفط، وأنشأت هيئة البترول الصومالية (SPA)، المسؤولة عن إدارة عقود الاستكشاف. وأدى هذا التطور إلى فتح الباب أمام تعاون مباشر بين أنقرة ومقديشو، حيث تمت دعوة شركة البترول التركية الحكومية رسميًا لإجراء عمليات استكشاف الهيدروكربونات في المياه الصومالية. وبذلك، ضمنت تركيا لنفسها حق استكشاف، وربما في المستقبل، الاستفادة من الثروات النفطية البحرية الصومالية، بالشراكة مع السلطات المحلية.
ولفت الموقع إلى أن الإمكانيات المطروحة هائلة، فوفقًا لدراسات جيولوجية وأبحاث زلازل حديثة، يُعتقد أن الأحواض البحرية الصومالية قد تحتوي على احتياطات ضخمة، حيث تُقدر بحوالي 30 مليار برميل من النفط المكافئ، وهو كنز طاقي من شأنه أن يثير اهتمام أي قوة عالمية.
تشمل المناطق الأولى المستهدفة للاستكشاف 15 بلوكًا على الأقل تمتد على طول ساحل المحيط الهندي وخليج عدن.
ومع ذلك، فإن هذه المشاريع ليست بمعزل عن التوترات الجيوسياسية، إذ إن بعض المناطق البحرية الواعدة تتداخل مع مناطق متنازع عليها مع دول مجاورة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، المنطقة البحرية عند الحدود الجنوبية للصومال، والتي تعد محل نزاع مع كينيا، وهو خلاف وصل حتى محكمة العدل الدولية.
وقد أثار دخول تركيا في السباق النفطي الصومالي انتباه وقلق العديد من القوى الإقليمية، التي تخشى أن تتمكن أنقرة من تحقيق تفوق استراتيجي جديد في قطاع الطاقة داخل القرن الأفريقي.
وإدراكًا لأهمية تأمين الأنشطة الاستخراجية المستقبلية، تعمل تركيا على دعم الصومال في تعزيز قدراته البحرية، فخلال السنوات الأخيرة، أطلقت أنقرة برامج لمساعدة مقديشو في إعادة بناء سلاح بحري فعال، بعد أن اختفى فعليًا منذ انهيار الدولة في التسعينيات؛ حيث يقوم مستشارون أتراك بتدريب عناصر خفر السواحل الصوماليين، ولا يُستبعد أن تقدم تركيا مستقبلاً زوارق دورية أو معدات بحرية. فحماية السواحل الصومالية ليست مجرد قضية وطنية، بل هي ضرورة استراتيجية لحماية الاستثمارات التركية من تهديدات مثل القرصنة، التي لا تزال نشطة في المنطقة، أو عمليات التخريب المرتبطة بالنزاعات الإقليمية.
الدبلوماسية التركية: من وسيط إلى منسق للسياسة الأفريقية
وأكد الموقع أن التحرك التركي في الصومال لا يقتصر فقط على الاقتصاد والجيش، بل استخدمت أنقرة أيضًا ورقة الدبلوماسية، مستغلة الصومال كنقطة انطلاق لترسيخ نفسها كوسيط سياسي، بل وحتى كمنسق في الديناميكيات السياسية الأفريقية الأوسع، فتعتمد الإستراتيجية التركية في أفريقيا على تقديم نفسها ليس كقوة معادية أو استعمارية جديدة، بل كفاعل يسعى إلى حل النزاعات، وتعزيز الحوار، ودعم اتفاقيات تحقق المكاسب للجميع – وهي سياسة "رابح-رابح" التي تهدف إلى تعظيم النفوذ التركي مع تقليل عدد الخصوم المباشرين.
وفي القرن الأفريقي، لعبت تركيا دور الوسيط الدبلوماسي في بعض الملفات الأكثر تعقيدًا. ومن الأمثلة البارزة تورطها في العلاقات المتوترة بين الحكومة المركزية الصومالية والمناطق ذات النزعة الانفصالية مثل أرض الصومال (صوماليلاند). هذه المنطقة، التي كانت مستعمرة بريطانية سابقة وأعلنت استقلالها من طرف واحد عن الصومال، أصبحت ساحة تنافس بين قوى متعددة، مثل الإمارات العربية المتحدة التي تسعى إلى إقامة قواعد عسكرية في ميناء بربرة.
واستفادت أنقرة من الثقة التي اكتسبتها في مقديشو وعرضت نفسها كوسيط، حيث عينت مبعوثين خاصين واستضافت محادثات لمحاولة التوصل إلى اتفاق سلمي بين مقديشو وهرجيسا (عاصمة صوماليلاند)، بهدف إعادة توحيد البلاد أو على الأقل إيجاد صيغة تفاهم مشتركة. في هذا المسعى، كان على تركيا أيضًا موازنة مصالح قوى إقليمية أخرى، وعلى رأسها إثيوبيا. فالعلاقات بين أديس أبابا والصومال كانت متقلبة تاريخيًا، ولكن اليوم، تُعد إثيوبيا شريكًا لكل من مقديشو وأنقرة، خاصة بعد أن بنى أردوغان علاقات قوية مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد.
لهذا السبب، تحركت أنقرة بحذر شديد، من خلال إجراء حوارات متوازنة مع الطرفين لضمان أن أي استقرار في الصومال لا يهدد المصالح الإثيوبية. وساعد هذا النهج المتوازن في تعزيز صورة تركيا كقوة قادرة على التحدث مع جميع الأطراف في منطقة ممزقة بالصراعات الوطنية والعشائرية.
ولفت الموقع إلى أن الطموحات الدبلوماسية التركية تمتد إلى ما هو أبعد من القرن الأفريقي، ففي السنوات الأخيرة، عرض أردوغان مرارًا الخدمات الدبلوماسية التركية للتوسط في نزاعات بعيدة عن نطاق النفوذ التقليدي لأنقرة.
وأحد الأمثلة البارزة هو الصراع بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، الذي اندلع مجددًا بسبب تمرد مجموعة إم 23 في منطقة كيفو، وسط اتهامات متبادلة بين كيغالي وكنشاسا بالتدخل في شؤون بعضهما البعض. بينما كانت المجتمع الدولي يكافح لإيجاد حل، بادرت تركيا بعرض وساطتها، حيث أعلن أردوغان استعداده لتقديم "أي دعم ضروري" لحل النزاع، مستغلًا مكانته المتزايدة على الساحة الدولية.
ورغم أن العرض التركي لم يُقبل (حيث نظرت إليه الكونغو بريبة، مفضلة وساطات أفريقية)، إلا أن الرسالة السياسية كانت واضحة: أنقرة تسعى لأن يُنظر إليها كوسيط للسلام في وسط أفريقيا، مما يمنحها موطئ قدم دبلوماسيًا في مناطق لم يكن لها فيها أي وجود سابق.
وشدد الموقع أن أنقرة تتبنى خطابًا يقوم على التعاون المتكافئ، مع التركيز على مشاريع التنمية المتبادلة، والاستثمارات في البنية التحتية، والتبادل الثقافي، والتعليم، دون استخدام نبرة وعظية أو تدخلات سياسية مباشرة في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية.
هذا النهج القائم على سياسة "رابح-رابح" مصمم لكسب القلوب والعقول دون إثارة مخاوف أو عداءات؛ تحرص أنقرة على تجنب خلق أعداء مباشرين، حيث تبني علاقات مع الحكومات المستقرة كما تحافظ على قنوات تواصل مع الدول المعزولة دوليًا، استنادًا إلى مبدأ المنفعة المتبادلة.
فعلى سبيل المثال، رغم كونها حليفًا وثيقًا للحكومة الصومالية، أبقت تركيا على علاقات دبلوماسية مع كينيا وغيرها من القوى الإقليمية، وتجنبت تحويل الصومال إلى ساحة صراع مفتوحة مع القوى المنافسة مثل الإمارات أو السعودية.
واختتم الموقع تقريره بالتأكيد على أن صعود تركيا في الصومال يمثل حالة دراسة حول كيفية تمكن قوة متوسطة الحجم من توسيع نفوذها بذكاء ومثابرة. فخلال أكثر من عشر سنوات بقليل، نجحت أنقرة في بناء قاعدة استراتيجية متكاملة داخل الصومال، تشمل وجودًا اقتصاديًا ووجودًا عسكريًا ووجودًا سياسيًا ودبلوماسيًا، وكل ذلك مدعوم بـخطاب تعاوني قائم على الأخوة والمصالح المتبادلة، يخفي لكنه لا يمحو حقيقة أن تركيا تسعى بلا هوادة لتحقيق مصالحها الوطنية.