صراع الفضاء.. كيف يُدار بين أميركا وروسيا إستراتيجيا؟
تاريخ النشر: 1st, May 2024 GMT
عاد ملف تسليح الفضاء الخارجي إلى واجهة الأحداث بفعل المواجهة الأميركية-الروسية في مجلس الأمن، إذ استخدمت روسيا حق النقض ضد مشروع قرار قدمته الولايات المتحدة يوم الأربعاء 24 أبريل/نيسان 2024، بخصوص إعادة التصديق على معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967.
ووقّعت على هذه المعاهدة عدة دول، من بينها روسيا وأميركا، وهي تلزم جميع الأعضاء بالامتناع عن وضع أسلحة نووية أو أي نوع آخر من أسلحة الدمار الشامل في الفضاء الخارجي.
أثار ذلك الأمر اتهامات متبادلة بشأن نوايا الطرفين، إذ تتهم الولايات المتحدة روسيا بتطوير قنبلة نووية فضائية قادرة على إحداث إشعاعات كهرومغناطيسية تعمل على تعطيل شبكات واسعة من الأقمار الصناعية، وفقا لما نقلته وكالة رويترز عن مسؤولين في المخابرات الأميركية.
في حين تقول روسيا إنها تريد طرح مشروع قرار بديل يمنع وضع الأسلحة التقليدية وغير التقليدية في الفضاء.
وتلقي هذه المواجهة الدبلوماسية الضوء على الأهمية التي توليها الدولتان لموازين القوة في الفضاء الخارجي، باعتباره جبهة أساسية في الصراع الدولي، وتُطرح التساؤلات عن ماهية الرؤية الإستراتيجية تجاه الأمر، وكيف يسعى كل طرف إلى تطبيقها.
يسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ وصوله إلى السلطة إلى استعادة مكانة روسيا كقطب منافس للولايات المتحدة في النظام الدولي، إذ عانت بلاده من التهميش على الساحة الدولة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.
وفي هذا السياق، تدخلت روسيا عسكريا في سوريا، وتقاربت مع الصين رغم ما بينهما من تنافس إقليمي، وشنت حربا على أوكرانيا حينما قررت الانضمام إلى حلف الناتو، وبين الفينة والأخرى تلوح بامتلاكها السلاح النووي، محذرة من أي تصعيد ضدها.
وينسجم التمنع الروسي عن تجديد التصديق على معاهدة الفضاء الخارجي مع هذا السياق من المواجهة الإستراتيجية بين الطرفين.
وبالعودة إلى جذور هذا الملف، فقد كان "سباق الفضاء" أحد أهم أوجه الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي منذ الخمسينيات وحتى السبعينيات من القرن العشرين.
وكان ينظر عالميا إلى الإنجازات التي يحققها أي من الطرفين في هذا المجال باعتبارها مؤشرا على قوته العلمية والتكنولوجية، علاوة على دورها الدعائي واسع النطاق، والذي يؤثر في جذب الدول المترددة إلى أي من الطرفين.
واستفاد كلا الطرفين في جهودهما البحثية من علماء الصواريخ الألمان، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.
ووفقا "لموسوعة الأمن القومي الأميركي" فقد كان لهذا السباق دور أساسي في التوصل إلى اكتشافات واختراعات علمية دائمة.
فتكنولوجيا الكمبيوتر، على سبيل المثال، تقدمت بمعدل فلكي خلال سباق الفضاء، إذ كانت المركبة الفضائية تتطلب أجهزة كمبيوتر قوية بما يكفي للتحكم في الوظائف المعقدة، لكنها صغيرة بما يكفي لوضعها على متن كبسولة ضيقة.
كما أدت احتياجات رحلات الفضاء إلى مجموعة من الاختراقات في مجال الإلكترونيات والاتصالات والتوجيه وأنظمة التحكم عن بُعد، ومن ثم تطورت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات القادرة على حمل رؤوس حربية نووية إلى بعد آلاف الأميال.
وزادت أنظمة التوجيه التي تم تطويرها لرحلات الفضاء من دقة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، مما وفر القدرة على إيصال الرؤوس الحربية النووية بدقة إلى أهداف بعيدة.
ولمحاولة تنظيم هذا السباق، والحد من مخاطره، جاءت "معاهدة المبادئ المنظمة لأنشطة الدول في استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي" التي فتح باب التوقيع عليها في موسكو ولندن وواشنطن يوم 27 يناير/كانون الثاني 1967.
وتنص المادة الرابعة من المعاهدة على تعهد الدول الأطراف على:
عدم وضع أي أجسام تحمل أسلحة نووية أو أي نوع آخر من أسلحة الدمار الشامل في مدار حول الأرض، أو تركيب مثل هذه الأسلحة على الأجرام السماوية، أو وضع مثل هذه الأسلحة في الفضاء الخارجي بأي طريقة أخرى. استخدام القمر والأجرام السماوية الأخرى للأغراض السلمية حصرا. حظر إنشاء القواعد والمنشآت والتحصينات العسكرية، واختبار أي نوع من الأسلحة، وإجراء المناورات العسكرية على الأجرام السماوية.حددت وثيقة الأمن القومي الأميركي، التي أصدرها البيت الأبيض عام 2022، 3 أهداف لإستراتيجيتها بشأن الفضاء الخارجي، وهي:
حماية مصالح الولايات المتحدة في الفضاء. تجنب سباقات التسلح المزعزعة للاستقرار. إدارة بيئة الفضاء بشكل مسؤول.وفي سبيل ذلك ترى الإدارة الأميركية أنه يجب عليها أن تتولى:
الريادة في تحديث إدارة الفضاء الخارجي. إنشاء نظام لتنسيق حركة المرور في الفضاء. رسم مسار لقواعد الفضاء وتحديد الأسلحة في المستقبل.فيما تعِد في الوثيقة:
بتطوير السياسات واللوائح التي تمكّن قطاع الفضاء التجاري الأميركي المزدهر من المنافسة على المستوى الدولي. تعزيز مرونة أنظمة الفضاء الأميركية التي تعتمد عليها في وظائف الأمن الوطني والداخلي الحاسمة.وتظهر مكانة الفضاء الخارجي لديها أيضا ضمن "إستراتيجية الدفاع الوطني" التي تعتمد على الردع المتكامل، وهو "مزيج سلس من القدرات لإقناع الخصوم المحتملين بأن تكاليف أنشطتهم العدائية تفوق فوائدها".
مما يستلزم ذلك، وفقا للوثيقة، التكامل عبر المجالات، فكما أن إستراتيجيات منافسي الولايات المتحدة تعمل عبر المجالات العسكرية (البرية والجوية والبحرية والإلكترونية والفضائية)، وغير العسكرية (الاقتصادية والتكنولوجية والمعلوماتية)، فيجب عليها أن تفعل ذلك أيضا.
وفي سياق المواجهة مع روسيا أكدت الوثيقة على أن:
الولايات المتحدة تعمل على تقييد القطاعات الاقتصادية الإستراتيجية لخصمها التاريخي، بما في ذلك الدفاع والفضاء. سيتم إضعاف الجيش التقليدي الروسي، الأمر الذي من المرجح أن يزيد من اعتماد موسكو على الأسلحة النووية في تخطيطها العسكري. لن تسمح الولايات المتحدة لروسيا، أو أي قوة، بتحقيق أهدافها من خلال استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها. لدى أميركا مصلحة في "الحفاظ على الاستقرار الإستراتيجي وتطوير بنية تحتية أكثر اتساعا وشفافية، ويمكن التحقق منها للحد من الأسلحة، لإنجاح معاهدة ستارت الجديدة، وإعادة بناء الترتيبات الأمنية الأوروبية التي أصبحت في حالة سيئة بسبب تصرفات روسيا".تشير وثيقة الأمن القومي الروسي التي أصدرها الرئيس بوتين عام 2021، في قراءتها لاتجاهات السياسة الدولية إلى:
تزايد خطر تصاعد الصراعات المسلحة إلى حروب محلية وإقليمية، بما في ذلك تلك التي تشمل القوى النووية. يجري تطوير الفضاء الخارجي وفضاء المعلومات بشكل نشط باعتبارهما مجالين جديدين للعمليات العسكرية.وتظهر وثيقة "مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي"، التي أصدرها الكرملين في 31 مارس/آذار 2023، موقفا متحفزا تجاه السلوك الغربي في هذا الصدد.
إذ تقول الوثيقة في تحليلها للاتجاهات الرئيسية لعالم اليوم إن عامل القوة في العلاقات الدولية يتزايد، وتتوسع مناطق الصراع في عدد من المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية.
وتضيف أن الحشد المزعزع للاستقرار وتحديث القدرات العسكرية الهجومية، وتدمير نظام معاهدة الحد من الأسلحة يقوض الاستقرار الإستراتيجي.
وتشير الوثيقة إلى:
استخدام القوة العسكرية في انتهاك للقانون الدولي. استكشاف الفضاء الخارجي وفضاء المعلومات كمجالات جديدة للعمل العسكري. عدم وضوح الخط الفاصل بين الوسائل العسكرية وغير العسكرية للمواجهة بين الدول. تصعيد العمليات المسلحة التي طال أمدها.لتخلص إلى أن الصراعات في عدد من المناطق تزيد من التهديد للأمن العالمي، وتعزز خطر الاصطدام بين الدول الكبرى، بما في ذلك بمشاركة القوى النووية، واحتمال تصاعد مثل هذه الصراعات وتحولها إلى حرب محلية أو إقليمية أو عالمية.
وفي التعامل مع هذا الواقع تنص الوثيقة على ضمان مصالح الاتحاد الروسي في الفضاء الخارجي، وتقدم لذلك مقاربة غير عدوانية، إذ تنص على السعي إلى تعزيز مكانة روسيا كإحدى القوى الرائدة في مجال الفضاء.
بالإضافة إلى تعزيز مواقع روسيا القيادية في أسواق السلع والأعمال والخدمات الفضائية، والدراسة السلمية للفضاء الخارجي واستخداماته، من خلال إعطاء الأولوية لـ"تعزيز التعاون الدولي بهدف منع حدوث سباق تسلح في الفضاء الخارجي، وذلك في المقام الأول من خلال تطوير وإبرام معاهدة دولية ذات صلة، وكخطوة وسيطة، من قبل جميع الدول الأطراف التي تتعهد بألا تكون أول من يضع أسلحة في الفضاء الخارجي".
إلا أن القراءة السياسية التي تقدمها الوثيقة، وواقع المواجهة العسكرية في أوكرانيا، وتاريخ عدم الثقة بين الولايات المتحدة وروسيا ترجح أن تكون هذه المقاربة مناورة تغطي على اهتمام روسي بردع الغرب من خلال تعزيز حضور الردع النووي في مواجهة الضغوط الإستراتيجية التي يتعرض لها من قبل أوروبا والولايات المتحدة.
وبذلك فإن روسيا تطبّق ما توقعته الإدارة الأميركية في وثيقة الأمن القومي، من تعزيز مكانة الردع النووي لمواجهة استهداف قوتها العسكرية التقليدية ونفوذها الدولي.
كما أنها تحوّل ملف تسليح الفضاء إلى ورقة ضغط وتفاوض تسعى من خلالها إلى استصدار اعتراف غربي بمكانتها في السياسة الدولية، وبمصالحها الإستراتيجية، وعلى رأسها الاحتفاظ بمحيط حيوي آمن، وهو ما يتطلب وقف تمدد حلف الناتو قرب حدودها، والوصول إلى تسوية بشروط مقبولة منها للأزمة الأوكرانية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات الأمن القومی الأمیرکی فی الفضاء الخارجی الولایات المتحدة أسلحة فی من خلال
إقرأ أيضاً:
عودة دوائر النفوذ.. صراع القوى الكبرى
لم تكن الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2022 مجرد صراع إقليمي، فقد شكّل ضمه لشبه جزيرة القرم عام 2014 اختبارًا واسع النطاق لما يُسمى بالنظام الدولي القائم على القواعد، مستكشفًا مدى استعداد الغرب للدفاع عنه.
أجبرت الحرب التي تلت ذلك أوروبا على إعادة النظر في اعتمادها على الولايات المتحدة، وأرغمت القادة الأمريكيين على إعادة تقييم التزاماتهم الخارجية، كما دفعت الصين إلى لعب دور جديد كداعم لروسيا، وجعلت دولًا بعيدة آلاف الأميال تواجه أسئلة جوهرية حول مستقبلها: كيف يمكنها موازنة شراكاتها مع القوى الكبرى المتصارعة؟ وما المواقف المادية والمعنوية التي تُتخذ اليوم وستبدو حكيمة بعد عقود؟
خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب الباردة، بدت هذه الأسئلة أقل إلحاحًا.
فقد قلل انهيار الاتحاد السوفييتي بشكل كبير من مخاوف الغرب بشأن اندلاع حرب عالمية أخرى، وهي مخاوف دفعت القادة الغربيين سابقًا إلى التسامح مع مناطق النفوذ السوفييتية في وسط وشرق أوروبا. كما أمل العديد من القادة والمحللين أن تقلل التعددية والجهود المبذولة لتعزيز الأمن الجماعي من أهمية التنافسات الجيوسياسية الصفرية إلى الأبد. لكن مع الأزمة المالية العالمية (2008-2009) التي أثرت على الاقتصادات الغربية، وترسيخ بوتين لسلطته في روسيا، والتوسع السريع لنفوذ الصين عالميًا، عادت الجغرافيا السياسية بسرعة إلى ديناميكية القوة الصلبة. وأصبحت الدول الكبرى مجددًا تستخدم تفوقها العسكري، ونفوذها الاقتصادي، وقوتها الدبلوماسية، لتأمين مناطق نفوذها، تلك المناطق التي تُمارس فيها دولة ما نفوذًا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، دون فرض سيادة رسمية عليها بالضرورة.
ورغم أن حربًا عالمية جديدة لا تلوح في الأفق، إلا أن المشهد الجيوسياسي اليوم يشبه إلى حد كبير ما كان عليه في نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما سعى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، إلى تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ.
واليوم، تسعى القوى الكبرى إلى التفاوض على نظام عالمي جديد، فيما بينها بالأساس، تمامًا كما فعل قادة الحلفاء عندما أعادوا رسم خريطة العالم في مفاوضات يالطا عام 1945. ولا يشترط أن تُعقد هذه المفاوضات في مؤتمر رسمي، فلو توصل بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينج إلى تفاهم غير معلن بأن القوة أهم من الخلافات الأيديولوجية، لأعادوا إنتاج سيناريو يالطا، مقررين سيادة ومستقبل جيرانهم القريبين.
على عكس يالطا، حيث تفاوضت ديمقراطيتان مع نظام استبدادي واحد، لم يعد نوع النظام يشكل عائقًا أمام المصالح المشتركة.
القوة الصلبة وحدها هي التي تحكم المشهد، في عودة إلى المبدأ القديم القائل بأن «القوي يفعل ما يشاء، والضعيف يعاني ما يجب عليه». في عالم كهذا، ستتراجع المؤسسات متعددة الأطراف مثل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وستتقلص استقلالية الدول الصغيرة. وليس من قبيل الصدفة أن الدول التي تقود عودة سياسات القوة خلال العقدين الماضيين، الصين وروسيا والولايات المتحدة، يحكمها جميعًا قادة يتبنون شعار «لنجعل بلادنا عظيمة مجددًا». هؤلاء القادة ينظرون إلى حاضر بلادهم وكأنه مقيد بخصوم أجانب ومحليين، مقارنة بماضٍ يرونه أكثر حرية ومجدًا. هذا الإحساس بالإذلال يغذي اعتقادهم بأن خلاص بلادهم لا يتحقق إلا من خلال القوة الصلبة، حيث يصبح تأمين مناطق النفوذ وتوسيعها وسيلة لاستعادة العظمة المفقودة.
بالنسبة لروسيا، لن تكفي أوكرانيا لتحقيق رؤية بوتين لمكانة روسيا في العالم. أما الولايات المتحدة، فقد بدأت تتطلع إلى ضم كندا. ومع ذلك، لا يزال هناك مسار آخر محتمل- مسار يتكيف فيه الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بدلًا من أن يضْمَرا. في هذا السيناريو، قد يواصلان العمل كقوة موازنة أمام المساعي الأمريكية والروسية والصينية لاستخدام القوة الصلبة لخدمة المصالح القومية الضيقة، والتي تهدد السلام العالمي وأمنه وازدهاره. لكن تحقيق هذا البديل يتطلب خوض صراع حقيقي- واستغلال العقبات التي يفرضها عالم أكثر عولمة على القوى العظمى التي تسعى إلى تمزيقه.
ظهر مصطلح «مجال النفوذ» لأول مرة في مؤتمر برلين (1884-1885)، حيث وضعت القوى الاستعمارية الأوروبية قواعد تقسيم إفريقيا، لكنه كان جزءًا من الاستراتيجية الدولية منذ زمن بعيد. خلال الحروب النابليونية (1803-1815)، سعت فرنسا إلى توسيع نفوذها عبر الغزو وتنصيب أنظمة عميلة، لكن تحالفات بقيادة بريطانيا والنمسا تصدت لها. في آسيا الوسطى، خاضت بريطانيا وروسيا صراعات طويلة للهيمنة، بينما أرسى مبدأ مونرو (1823) أمريكا اللاتينية كمجال نفوذ أمريكي، مدفوعًا جزئيًا بمخاوف القيصر ألكسندر الأول من تصاعد التنافس الأوروبي في الأمريكيتين.
استمرت القوى العظمى في تشكيل مناطق نفوذها خلال القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، مما أسهم في اندلاع الحرب العالمية الأولى. لكن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون سعى لاحقًا إلى نزع الشرعية عن الاستعمار باعتباره قمعًا لحق تقرير المصير، مما أضعف قبضة فرنسا وبريطانيا على مستعمراتهما. وبنهاية الحرب العالمية الثانية، بدا مفهوم مناطق النفوذ رجعيًا ومثيرًا للصراعات. إلا أن مؤتمر يالطا أعاده مؤقتًا كضرورة لمنع حرب عالمية أخرى، إذ رضخت بريطانيا وأمريكا لمطالب ستالين لتجنب أي مواجهة عسكرية جديدة.
في القرن التاسع عشر، اعتمدت سياسات القوة على النفوذ العسكري والاقتصادي، لكن في النصف الثاني من القرن العشرين، برزت القوة الناعمة: استخدمت الولايات المتحدة هيمنتها الثقافية والتعليمية والمساعدات الخارجية لتعزيز نفوذها، بينما روّج الاتحاد السوفييتي للشيوعية عبر الدعاية و«التدابير الفعالة» لاستقطاب الرأي العام الديمقراطي.
لكن بعد 1991، ومع تراجع الانقسامات الأيديولوجية أمام العولمة والديمقراطية، بدت مجالات النفوذ أقل أهمية. اعتقد العديد من المحللين أن العالم سيتجه نحو ترابط اقتصادي يحل المشكلات عبر التعاون الجماعي، خاصة مع دمج دول الاتحاد السوفيتي السابق في المؤسسات الدولية. عزز «قانون تأسيس حلف الناتو وروسيا» عام 1997 هذا التوجه، حيث التزمت الأطراف بعدم إنشاء مجالات نفوذ، سعيًا لإقامة «مساحة أمنية مشتركة في أوروبا دون قيود على سيادة أي دولة».
في الواقع، عادت سياسات القوة للظهور قبل الحرب الروسية لأوكرانيا بوقت طويل. فقد أشار تدخل الناتو بقيادة الولايات المتحدة في كوسوفو (1999) وغزو العراق (2003) إلى استمرار نهج التصعيد العسكري عندما لا تحقق القوى الكبرى ما تريد. لاحقًا، تصاعدت المنافسة بين الولايات المتحدة والصين على الهيمنة التكنولوجية والاقتصادية، حيث فرضت واشنطن عقوبات على عمالقة التكنولوجيا الصينيين، بينما استثمرت بكين في مبادرة الحزام والطريق وعسكرت بحر الصين الجنوبي. في المقابل، كثفت الولايات المتحدة وحلفاؤها استخدام العقوبات المالية لتقييد الخصوم.
واصلت روسيا استراتيجياتها الهجينة رغم ضعفها النسبي، مستخدمة الهجمات الإلكترونية وحملات التضليل للتأثير على استفتاء بريكست (2016) والانتخابات الأمريكية. لم يتخلَّ بوتين عن مفهوم مناطق النفوذ، معتبرًا توسع الناتو في أوروبا الشرقية تهديدًا مباشرًا. منذ هجومها على جورجيا (2008)، اعتمدت روسيا على الحرب الهجينة والقوات المسلحة بالوكالة، وهو نهج تصاعد مع ضم القرم (2014) وبلغ ذروته في حرب أوكرانيا.
تؤكد حرب أوكرانيا وملامح تسويتها المحتملة عودة الجغرافيا السياسية بأسلوب القرن التاسع عشر، حيث تفرض القوى الكبرى شروطها على الدول الأضعف. إذا أُجبرت أوكرانيا على قبول الخسائر الإقليمية والبقاء خارج التحالفات الغربية، فستتحول فعليًا إلى دولة تابعة لروسيا، مما يُطبع استخدام القوة العسكرية كأداة ناجحة لتحقيق المصالح الوطنية. وهو تحول خطير، إذ كانت المحاولات السابقة - من أفغانستان والعراق إلى التدخل الروسي في سوريا - إخفاقات مكلفة. لكن الحرب الحالية أعادت تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، ومنحتها تفوقًا استراتيجيًا غير مسبوق.
في الوقت نفسه، يترسخ نمط قديم من سياسات القوة. فمناطق النفوذ تعني تقليص سيادة الدول المجاورة، كما يسعى ترامب إلى فرضه على كندا وجرينلاند والمكسيك، أو كما تحاول الصين مع تايوان. كما يستند هذا النظام إلى اتفاق ضمني بين القوى الكبرى بعدم التدخل في مناطق نفوذ بعضها البعض.
رغم تراجع قوتها الاقتصادية والعسكرية، لا تزال روسيا تُعامل كقوة عظمى بفضل إرثها السوفييتي وقدراتها النووية. في حال اتفقت الولايات المتحدة والصين وروسيا على تجنب الحرب النووية، فقد يصبح الاعتراف بمناطق النفوذ وسيلةً لردع التصعيد. قد تشبه مفاوضات إنهاء حرب أوكرانيا مؤتمر يالطا الجديد، حيث تلعب الصين دورًا شبيهًا ببريطانيا في 1945، موازنةً بين المصالح الأمريكية والروسية.
لكن تحديد مناطق النفوذ اليوم أكثر تعقيدًا مما كان عليه في يالطا، إذ لم تعد الموارد الاستراتيجية محصورة في مناطق محددة. تُعد تايوان نقطة صراع رئيسية، حيث تسعى واشنطن لمنع بكين من السيطرة على صناعتها المتقدمة في أشباه الموصلات. كما لا تريد الولايات المتحدة أن تستفيد روسيا استفادة حصرية بالمعادن النادرة في أوكرانيا. في هذا السياق، تزداد أهمية القوة البحرية، حيث تعمل الصين على تعزيز نفوذها البحري لمواجهة التفوق الأمريكي.
إذا تطورت علاقة أكثر تعاونًا بين ترامب وبوتين وشي، فقد تجد أوروبا نفسها مضطرةً لحماية أمنها ذاتيًا. قد تضطر ألمانيا وفرنسا إلى تطوير استراتيجيات أمنية مستقلة، بينما تسعى دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا ودول البلطيق، إلى تعزيز دفاعاتها. قد يؤدي ذلك إلى تقويض دور الناتو، وإجبار حلفاء أمريكا في آسيا على البحث عن ترتيبات أمنية بديلة، وربما حتى تطوير قدرات نووية. كما قد يدفع الاتحاد الأوروبي نحو تكامل سياسي أعمق، ليصبح كيانًا فيدراليًا أكثر استقلالية.
أما في حال تحالف الولايات المتحدة وروسيا ضد الصين، فقد تضطر اليابان وكوريا الجنوبية إلى تبني سياسات أكثر استقلالية، وتنويع تحالفاتهما الأمنية والاقتصادية. قد تعزز اليابان قدراتها العسكرية وتوثق علاقاتها مع الهند وأستراليا، بينما قد تسعى كوريا الجنوبية إلى تقوية علاقاتها مع الصين لحماية مصالحها. على العكس، إذا اقتربت روسيا من الصين وبقيت أوروبا متحالفة مع الولايات المتحدة، فقد يتعزز نظام ثنائي القطب شبيه بالحرب الباردة. أما في سيناريو أكثر توازنًا، فقد تعمل روسيا والدول الأوروبية كقوى متأرجحة بين القوتين العظميين، مما قد يؤدي إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.
إعادة تشكيل مناطق النفوذ ليست ثابتة، بل تخضع لصراعات دائمة. قد تعود السياسة الدولية إلى نموذج قائم على القوة والمصالح المتنافسة، أو قد يستعيد العالم نظامًا يعتمد على القواعد والتعاون المتعدد الأطراف. لكن في الوقت الحالي، لم تعد الولايات المتحدة عامل استقرار موثوقًا. وبينما كانت سابقًا الرادع الرئيسي للتوسع الإقليمي، تبدو اليوم وكأنها تتبنى نهجًا مماثلًا، مما يفتح الباب إما لتوازن جديد أو لفترة طويلة من عدم الاستقرار والصراع.