الجزيرة:
2025-01-19@17:51:39 GMT

الحرب على غزة بين الجمود العسكري والعجز السياسي

تاريخ النشر: 1st, May 2024 GMT

الحرب على غزة بين الجمود العسكري والعجز السياسي

تشهد الحرب على غزة حالة من الجمود في الميدان العسكري، فلا قوى المقاومة، رغم الأداء البطولي، أو الجبهات المساندة في لبنان واليمن – قادرة على تصعيد المقاومة إلى حدّ يجبر الاحتلال على الاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني المحقّة والعادلة، ولا الاحتلال – وحلفاؤه وبالذات الولايات المتحدة الأميركية – قادر على فرض إملاءاته، أو تحقيق أهداف حربه الدموية.

لم يستطع هؤلاء القضاءَ على المقاومة وتجريدها من سلاحها، ولا استعادةَ الأسرى لدى المقاومة، كما أنهم لم يتمكنوا من فرض أية صيغة إدارية لقطاع غزة بعيدًا عن حركة حماس، فحتى يومنا هذا لم توافق أي من الدول على المشاركة في قوات دولية أو عربية تتولى إدارة القطاع، ولم تقبل أي من القوى الفلسطينية المحلية: العشائر والوجهاء ورجال الأعمال وقوى المجتمع المختلفة، التعاونَ مع الاحتلال في هذا الشأن، وما زال الشعب الفلسطيني ومقاومته يظهرون صمودًا استثنائيًا.

عجز دولي وإقليمي وعربي

بموازاة ذلك تستمر حالة الجمود والعجز في المشهد السياسي المرافق للمعركة على مختلف المستويات: المحلية والإقليمية والدولية، فلا مقاربات قادرة على تجاوز الأزمة، ولا مبادرات سياسية عملية مطروحة. لقد فرضت موازين القوى الدولية، التي ما زالت تميل بشكل كبير لصالح الولايات المتحدة الأميركية الحليف والراعي للكيان الصهيوني، استمرارَ تفرُّد الولايات المتحدة بملف الصراع، وأظهرت عجزًا واضحًا في سلوك المنظومة السياسية الدولية والإقليمية، ومؤسسات المجتمع الدولي، فلم يتمكن أي طرف من تقديم مخرج سياسي معقول ومقبول لدى الطرفين: "المقاومة والاحتلال".

وبما أننا نعيش في موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، بالإضافة للعوامل الأخرى الكثيرة التي تقف خلف الانحياز الأميركي المطلق للاحتلال الصهيوني، فإنّ الولايات المتحدة ترفض وتعيق ممارسة أي ضغط حقيقي وفعّال على حكومة الاحتلال – التي هي بطبيعتها يمينية فاشية – للقبول بصيغة يمكن أن تفتح أفقًا سياسيًا للفلسطينيين. فلا حديثَ جادًا عن الدولة، ولا نقاشَ لمشروع سياسي يعطي الأمل للفلسطيني بإمكانية إنجاز بعضٍ من حقوقه السياسية، وإنما يستمر الموقف الأميركي بالرضوخ والاستجابة والتماهي مع الحكومة الفاشية في إسرائيل.

يستمر القتال في غزة دون أن يستطيع أحد الطرفين حسمه، وذلك فيما يتواصل حال الجمود والعجز في المشهد السياسي الدولي والإقليمي والعربي، فإلى أين يمكن أن يقودنا ذلك؟

عربيًا أعاد العجز السياسي المرافق للحرب على غزة التذكيرَ بأن النظام العربي ما زال مفككًا وضعيفًا، حتى وإن حاول التحرك ولو شكليًا – كما يحدث في الجامعة العربية – فإنه لا يمتلك رؤية واحدة ولا توافقًا على القضية الفلسطينية ومستقبلها. وبدا أيضًا أن عددًا كبيرًا من دول العالم العربي وكأنها على غير ذي صلة بالموضوع، ومنفصلة تمامًا عن القضية الفلسطينية وتطوراتها. أما الدول التي تتفاعل وتهتمّ بالحرب فليس لديها القدرة، وقد يكون ليس لدى بعضها الرغبة في بلورة مشروع سياسي يمكن أن يشكل مخرجًا لهذه الحرب.

فلسطينيًا فإن عجز القيادة السياسية الرسمية الفلسطينية، وهامشية دورها، إن وُجد، في هذه الحرب، هو من أبرز ملامح هذه المرحلة، ولعلّه من أهم نقاط ضعف الحالة الفلسطينية. فقد حرصت قيادة منظمة التحرير، والسلطة الفلسطينية على أن تظهر وكأنها ليست جزءًا من المعركة، وغير معنية بما يجري من حرب في قطاع غزة، ولا بالصمود الاستثنائي للشعب الفلسطيني، ولم تتصرف استنادًا لكونها قيادة، ولم تتحرك للحديث عن دورها القيادي إلا في إطار المناكفة السياسية الداخلية أو التعطيل.

فلا وجود لمبادراتٍ سياسية على المستوى الوطني، ولا تحركٍ سياسي على المستوى الإقليمي والدولي، ولم تقدِم على أية خطوة سياسية أو حركة عملية يمكن أن تساهم أو تشكل مدخلًا لوقف العدوان وإنهاء الحرب. وتتواتر الأخبار عن الإصرار على إدارة الظهر لكل المبادرات الوطنية الفلسطينية، وحتى العربية والإسلامية الهادفة للمّ الشمل، وترتيب البيت الفلسطيني كمتطلب أساسي لوقف الحرب. وفي هذا الإطار، يمكن الادعاء بأنّ استمرار الواقع السياسي الفلسطيني كما هو عليه، يزيد من أمد الحرب ويعيق الوصول إلى اتفاق لوقفها.

 سيناريوهان محتملان

وعليه فالجمود في المشهد العسكري والذي يوازيه عجز وجمود في المشهد السياسي، حال دون التوصل إلى مخرج لهذه الحرب، وبالتالي لن تضع هذه الحرب أوزارها في المدى القريب، وفي ذات الوقت فإن الصيغة القائمة لا تصلح للاستمرار طويلًا؛ لاعتبارات كثيرة مرتبطة بكافة أطراف الصراع والمتأثرين والمؤثرين فيه.

وبالتالي سنكون أمام السيناريوهين التاليين:

الأول: التصعيد النوعي وتوسع المعركة
إذ قد يلجأ أحد طرفي الصراع لتصعيد نوعي كبير؛ كي يجبر الطرف الآخر على الاستجابة لشروطه والنزول عند مطالبه السياسية، وهنا إما أن تقوم المقاومة وحلفاؤها في المنطقة بالتصعيد النوعي الذي يجبر الاحتلال على التجاوب مع مطالب المقاومة، المتمثلة في وقف الحرب والخروج من قطاع غزة، وإنجاز صفقة التبادل وإعادة الإعمار، وما إلى ذلك. أو قد تقدِم الولايات المتحدة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي على تصعيد نوعي في المنطقة، بشنّ حرب على لبنان، أو تصعيد الاشتباك بشكل مباشر مع إيران واستهداف الأراضي الإيرانية؛ بهدف الضغط من أجل فرض الإملاءات، ومساعدة الاحتلال الإسرائيلي على إنجاز أهدافه المعلنة للحرب.

في كلتا الحالتين سنكون أمام تصعيد استثنائي، نوعي، ولا يمكن التنبؤ بنتائجه، ولا بالمنتصر فيه. لكن يمكننا – استنادًا إلى طبيعة الأشياء وحقائق التاريخ – أن نتوقع – وكون الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق، وهو الذي يقاتل دفاعًا عن حقوقه الأساسية، ويدافع عن أرضه وحريته وكرامته – أن يصمد في مواجهة أي تصعيد للعدوان، ويواصل مقاومته وصولًا لإنجاز أهدافه الوطنية المشروعة.

كما أن الولايات المتحدة الأميركية لديها سجل طويل من الفشل في المنطقة في التعامل مع القضايا القومية والوطنية، والاحتلال الإسرائيلي أصبح دولة غير قادرة، بل وعاجزة عن إنجاز أهدافها بذاتها، وعليه فإن تطورًا من هذا النوع، على الأرجح، سيصبّ في صالح القضية الفلسطينية ومقاومتها.

المشهد ما زال مرشحًا لمثل هذا التطور ما لم تبادر قوى إقليمية ودولية فاعلة وقادرة على بلورة رؤية سياسية تخدم المشروع الفلسطيني، والقضية الفلسطينية، وتتحرك بشكل جادّ وفاعل، وتضغط في كل اتجاه، من أجل إعطاء الفلسطينيين ما يمكن أن يقنعهم بوقف هذه الحرب، وإنجاز حدّ معقول من الحقوق للشعب الفلسطيني بعد كل ما قدّموه من تضحية وبطولة وصمود، ويلجم هذا التوحّش والإجرام والممارسات الدموية التي يقترفها الاحتلال منذ ما يقارب سبعة أشهر.

الثاني: حرب استنزاف ممتدة 
الممكن الآخر هو الاستمرار بذات الوتيرة من المواجهة مع تغيّر نسبي في المستوى بين الحين والآخر. مما يعني أن تتحول المواجهة إلى ما يشبه حرب الاستنزاف طويلة الأمد، أو موجة نضال ومواجهة فلسطينية جديدة، تشبه إلى حد كبير ما حدث في الانتفاضة الأولى عام 1987م، والانتفاضة الثانية عام 2000م، ما فارق في طبيعة ومستوى المواجهة، وهو أمر معتاد في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، فلكل مرحلة نضالية سماتها وخصائصها التي تميزها عن غيرها. وهذا السيناريو مرتبط بشكل كبير بعوامل ومؤثرات غالبيتها ليست فلسطينية.

فإذا كانت الدول المؤثرة في المواجهة – وبالذات الولايات المتحدة الأميركية، وإيران، وحكومة الاحتلال – لديها قرارات قاطعة بعدم المشاركة في حرب إقليمية واسعة ومباشرة، وغير معنية لأي سبب كان بأن تنخرط في تلك المواجهة، فسيبقى المشهد على حاله، وستستمر هذه الدول وغيرها في إسناد المعركة، وممارسة أقصى أنواع الضغط ضمن سقوف محددة متفق عليها ضمنًا، ويبقى كل طرف يعوّل على عامل الزمن وما قد يفعله بعدوّه.

مما يعني الدخول في مرحلة استنزاف طويلة الأمد قد تستمر أشهرًا طويلة، إن لم تكن سنوات. هذا السيناريو على ما يحمله من تحديات ومخاطر على الفلسطينيين، فإنه قد يفتح المجال أمام الشعب الفلسطيني؛ كي يتحول إلى مواجهة شاملة ينخرط فيها كل الشعب الفلسطيني، ولا تقتصر على قطاع غزة وحده. كما أنه أيضًا قد يشكل فرصة لقوى كثيرة في المنطقة للاستثمار في هذه اللحظة التاريخية والانخراط في المواجهة مع المشروع الصهيوني، بوصفه مشروعًا استعماريًا يستهدف المنطقة برمتها.

فقد ترتفع وتيرة المواجهة الحالية وتتوسع لتطال ساحات ومواقع متعددة في الإقليم. كما أن هذه المواجهة الممتدة ستحمل في ثناياها مخاطر جمّة، على مشاريع دولية وإقليمية، وكذلك على عدد من الأنظمة والدول في المنطقة؛ لأنَّ التباين الواضح في المواقف بين الشعوب والأنظمة سيتطور ويزداد مع الوقت، مما يشكل خطرًا على استقرار عدد من الدول في المنطقة.

إن الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته وقواه، وكذلك القوى والشعوب والدول الداعمة للحق الفلسطيني والمدافعة عن القيم الإنسانية، أمام فرصة تاريخية لمواجهة قوى الهيمنة والاستعمار والعنصرية والتطرف ولجم هيمنتها ونفوذها، وإن الاستثمار في هذه اللحظة التاريخية هو مسؤولية كل المؤمنين بقيم العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، فقد أضحت القضية الفلسطينية هي المعبّر الحقيقي العالمي عن هذه القيم، وعليه فواجبُ نصرة غزة والفلسطينيين هو واجب، وطني وقومي وأخلاقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الولایات المتحدة الأمیرکیة القضیة الفلسطینیة الشعب الفلسطینی فی المنطقة فی المشهد هذه الحرب حرب على سیاسی ا یمکن أن کما أن

إقرأ أيضاً:

من حق الشعب الفلسطيني أن يفرح باتفاق وقف الحرب

قبل أكثر من ستة شهور، وفي صباح السبت 13 تموز/ يوليو 2024، كتبت ونشرت مقالا في هذا المكان نفسه، عن احتمالات عقد صفقة وقف النار في «غزة»، قلت فيه ببساطة؛ إنه لا فرصة لاتفاق من هذا النوع، إلا مع أجواء تنصيب دونالد ترامب رئيسا في 20 كانون الثاني/ يناير 2025، ولم أكن وقتها أقرأ الرمل ولا أضرب الودع، بل كان التوقع مبنيا على سلوك بنيامين نتنياهو رئيس وزراء العدو، وعلى فرصه المتاحة للمناورة مع ساكن البيت الأبيض المنصرف جو بايدن. كان بايدن وقتها قد لقي هزيمة مخزية في المناظرة الأولى مع ترامب، وكانت الأصوات تتعالى لإخراجه واستبداله في سباق الرئاسة، وكان بايدن في وضع «البطة العرجاء» بل المشلولة تماما.

وفي عام الرئاسة الأمريكية الأخير كالعادة، يصعد نفوذ اللوبي الصهيوني ـ «الأيباك» وأخواتها ـ إلى أعلى ذراه، وهو ما يفهمه جيدا نتنياهو، الذي صعد دوره إلى درجة إذلال إدارة بايدن، مع استغلال طموح ترامب لنيل رضا «اللوبي الصهيوني» ونتنياهو شخصيا، وبالغ ترامب على طريقته الفجة في إبداء المحبة والولاء لكيان الاحتلال الإسرائيلي، ولقي نتنياهو استقبالا حافلا عامرا بمئات نوبات التصفيق خلال خطابه في الكونغرس، بمجلسيه يوم 24 تموز/ يوليو 2024، وبدا كأنه سيد البيت الأبيض الأول، إضافة لرئاسته حكومة «إسرائيل» الفرعية في تل أبيب.

ومن موقع القوة المتضخمة، واصل نتنياهو تنفيذ خطته، أي (استمرار الحرب في غزة، وربما مدّ الحرب إلى لبنان، حتى يأتي ترامب إلى البيت الأبيض) كما كتبت حرفيا في مقال 13 تموز/ يوليو الماضي، ونفذ ما أراد، ذهب إلى الحرب البرية مع «حزب الله»، وإن لم يتمكن من جلب صورة «نصر ساحق» كان يحلم بها.

واضطر للموافقة على «اتفاق هدنة»، وواصل بشراسة حرب الإبادة الجماعية على غزة، ولم يتمكن هنا أيضا من تحقيق أهداف حربه المجنونة، وإن أعاق التفاوض مرات حول اتفاق وقف النار وتبادل الأسرى، وتصدى بصلف وعجرفة لكل رغبات إدارة بايدن، ولكل اقتراحاتها الإسرائيلية أصلا.

وأطاح بما عرف بعنوان «صفقة بايدن» المعلنة مساء 31 أيار/ مايو 2024، ولترجمتها الحرفية في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735، ولكل مسودات اتفاقات التفاوض في باريس والقاهرة والدوحة، التي شارك وضغط بها كل مبعوثي إدارة بايدن، وأولهم مايكل بيرنز مدير المخابرات المركزية الأمريكية، وكان الاتفاق المطروح في كل هذه الجولات، هو نفسه الذي اضطر أخيرا للموافقة عليه، بعد أن تغيرت معادلة التفاعل مع البيت الأبيض بعد فوز ترامب على نحو ساحق في الرئاسة والكونغرس، فبعد أن ظل نتنياهو لشهور آمرا مطاعا يخضع له بايدن وترامب معا، انقلبت الموازين إلى صيغة أخرى، يتحكم بها ترامب وحده، ويخضع له بايدن ونتنياهو معا، وبدا ظل ترامب حاضرا في اتفاق هدنة لبنان وأكثر في مفاوضات اتفاق غزة.

وربما تنطوي القصة على مفارقة ظاهرة، فقد بدأ ترامب سيرته مع قصة غزة على نحو مختلف، وأطلق تهديدا بالذهاب إلى «جحيم»، تصوره ضاغطا على «حماس» وأخواتها في التفاوض، وبدا التهديد وقتها مثيرا للسخرية، فما كان بوسع حكومة «إسرائيل» في واشنطن أن تفعل أكثر، وهي شريك كامل الأوصاف في حرب الإبادة الجماعية، وفعلت كل ما بوسعها من «جحيم» عبر نحو 16 شهرا من الحرب البربرية، ومن دون أن يتحقق شيء من الأهداف المعلنة والضمنية للعدو الأمريكي «الإسرائيلي»، اللهم إلا مضاعفة التوحش في إبادة الحجر والبشر والشجر، ووضع أهل غزة في عذاب أسطوري.

ولكن من دون أن يخفت صوت المقاومة الأسطورية، التي زادت في تحديها البطولي لقنابل وحمم متفجرات بلغت زنتها نحو مئة ألف طن، ألقيت على رأس غزة، وقتلت وأصابت وقطعت أشلاء نحو مئتي ألف فلسطيني معلوم ومفقود، أغلبهم من النساء والأطفال الأبرياء، في أبشع مجزرة ومحرقة شهدتها الحروب، فقتلت الأبرياء بالقصف والتجويع والتجمد في الصقيع، وحرمت الضحايا من كل إغاثة طبية بالتدمير شبه الكامل للمرافق والمستشفيات والمدارس والبيوت وحرق الخيام، ومنع فرق الإسعاف المدني من الوصول إلى المصابين والشهداء، وترك الجثث في الخلاء تنهشها الكلاب الضالة.
المقاومون من حماس وأخواتها، يبدعون على نحو مذهل، ويعيدون تدوير قذائف العدو.
وقتل النازحين في كل مكان يذهبون إليه، حتى في الأماكن الموصوفة كذبا بالآمنة، ورغم كل هذا الهول الأفظع، كانت قوات الاحتلال تتلقى الهزائم المتلاحقة في ميادين القتال المتلاحم، وكان المقاومون من «حماس» وأخواتها، يبدعون على نحو مذهل، ويعيدون تدوير قذائف العدو التي لم تنفجر، ويضيفون زادا جديدا إلى ورش التصنيع الحربي الذاتي، ويدبرون الكمائن المميتة لنخب قوات الاحتلال من شمال غزة إلى جنوبها، ويفشلون «خطة الجنرالات» الهادفة للتطهير العرقي الشامل في جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون شمال مدينة غزة، وإلى حد دفع العدو الأمريكي «الإسرائيلي» إلى حافة جنون، عبر عنه أنتوني بلينكن وزير خارجية بايدن، بإعلانه قبل أيام، أن قوات «حماس» عادت إلى حجمها الأول صباح 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وأن آلافا متكاثرة جرى تجنيدها من قبل «حماس» وأخواتها.

بينما ذهب الجنرال جيئورا آيلاند إلى إعلان فشل «خطة الجنرالات» التي وضعها بنفسه، وقال؛ إنه لا أمل في تنفيذها، وإنه لا بديل عن الانسحاب «الإسرائيلي» بالكامل من غزة، وكان ترامب وإدارته يتابعون حقائق الميدان عن قرب، وأدركوا أن حرق «حماس» وأخواتها في الجحيم غير ممكن ومحض وهم، فالمقاومة تنمو وتتوالد ذاتيا، ودونما حاجة إلى مدد لم يأت عبر الحدود، وأن استنزاف قوات العدو ماض إلى نهايته، وهو بعض ما دفع ترامب البراغماتي إلى وجهة أخرى، تضغط على نتنياهو لتجرع سم اتفاق وقف النار، بعد أن ثبت مرارا وتكرارا أن القوة الأمريكية «الإسرائيلية» الإبادية، لم ولن تفوز أبدا في المنازلة النارية مع الشعب الفلسطيني ومقاومته.

وأنها لن تنجح في تهجير الشعب الفلسطيني إلى خارج أرضه المقدسة، رغم كل هذا العذاب الأسطوري، وأنه لا سبيل لاجتثاث حركات المقاومة الأسطورية، وأن ما أخفقوا في إحرازه بقوة السلاح قد يكون أيسر في التحقق، لو تحولوا إلى السياسة، وانتقلوا إلى اتفاق ثلاثي المراحل لوقف الحرب، تدور عناصره الأساسية، كما صمم عليها المفاوضون الفلسطينيون، حول التدرج في وقف النار من الموقوت إلى المستديم، وحول فتح سبل إغاثة الشعب الفلسطيني وإعادة الإعمار اللاحقة، وإطلاق سراح آلاف من الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب قوات الاحتلال من غزة على مراحل، وفتح معابر الإمداد الإنساني، وإعادة كل النازحين الفلسطينيين من جنوب «غزة» إلى سكناهم في الشمال، وهذه هي الملامح الكبرى للاتفاق الجديد القديم، الذي دأبت حكومة الاحتلال على رفضه وإعاقته لثمانية شهور مضت، ثم يخضع له اليوم ترامب ونتنياهو معا، ربما على أمل الاستعاضة عن فشل حرب غزة، والانتقال إلى حرب العصف بالضفة الغربية، وعقد اتفاقات «إبراهام» جديدة مع دول عربية مضافة.

ومع وقف النار في حرب غزة، وضعف الثقة في ضمانات تنفيذ أي اتفاق مع كيان الاحتلال، إلا أن تكون المقاومة على الموعد في أحوال الإخلال الإسرائيلي الوارد طبعا، وفي كل الأحوال، فجولة الحرب الأخيرة لم تكتب كلمة النهاية، ولم يحقق العدو فيها نصرا بأي معنى، رغم كل ما جرى من دمار وقتل، وهذه هي الخاتمة ـ التي صارت معتادة ـ لكل حرب تخوضها «إسرائيل» مع المقاومة الجديدة، وفي صورة حروب غير متناظرة، يملك فيها العدو ما لا تملكه المقاومة، والعكس بالعكس، لكن النتائج تظل كما هي.

فالعدو ينهزم حين لا تتحقق أهدافه، والمقاومة لا تهزم حين لا تفنى، وحين تثبت قابليتها للتجدد، رغم قسوة الظروف، فبقاء المقاومة يعني المقدرة على استئناف المواجهات الحربية، وبقاء المقاومة يعني تجدد الأمل في نصر كامل، تستعاد به الحقوق المقدسة للشعب الفلسطيني المظلوم، الذي أثبت مقدرته اللانهائية على الصبر وتحمل التضحيات بغير حدود، فقد أثبتت تجربة الحرب بعد «طوفان الأقصى»، أن بوسع الشعب الفلسطيني المحاصر أن يتفوق ويهتدي بتجارب كفاح الجزائريين والفيتناميين، وأن يواصل الاستمساك بمقاومته العنيدة حتى تعود النجوم إلى مداراتها، ويستعيد حقه كاملا في الحياة والحرية، مهما بلغت التضحيات وتضاعفت العذابات، ومهما خذله المتخاذلون، ومن حق الشعب الفلسطيني اليوم أن يفرح بالاتفاق الجديد، وأن يفخر بدماء الشهداء التي هزمت سطوة وجبروت سيف العدو، وأن يحلم بالنصر الكامل في قابل الأيام والحروب.

القدس العربي

مقالات مشابهة

  • الجمهورية اليمنية تُبارك للشعب الفلسطيني ومجاهدو فصائل المقاومة الفلسطينية إنجاز الاتفاق المشرف
  • شكوى إسرائيلية من زيادة العداء للاحتلال حول العالم.. ورواج الرواية الفلسطينية
  • مدفعية الاحتلال تقصف المناطق الشرقية بمدينة رفح الفلسطينية جنوبي غزة
  • الحصادي: تشكيل سلطة تنفيذية جديدة هو المفتاح لكسر الجمود السياسي في ليبيا
  • من حق الشعب الفلسطيني أن يفرح باتفاق وقف الحرب
  • راشد عبد الرحيم: عقوبات نمر الورق
  • توكل كرمان: آن الأوان لحل القضية الفلسطينية وعلى العالم أن يقف إجلالاً لنضالهم
  • اتفاق غزة يضع نتانياهو أمام معركة "المستقبل السياسي"
  • دعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد": نتنياهو فشل في القضاء على حماس في غزة والسلطة الفلسطينية ينقصها التوافق
  • مصطفى بكري: الشعب الفلسطيني يعي جيداً دور مصر في الحفاظ على القضية الفلسطينية