هجوم بروفيسور عبد الله علي ابراهيم على قوي الحرية والتغيير: عداء ام اشفاق
تاريخ النشر: 1st, May 2024 GMT
اتابع منذ زمن بعيد كتابات البروفيسور عبد الله علي ابراهيم. فهو اكاديمي ومؤرخ واديب وكاتب موسوعي من صفوة المثقفين السودانيين، وكتاباته لها تأثيرها في توجهات الراي لدي الكثيرين. اضافة الي ذلك فهو سياسي مخضرم حاول الترشح لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية (2010م) في الحقبة الاسلاموية ولم يحالفه التوفيق في اكمال النصاب المطلوب للترشح.
منذ اندلاع حرب 15 ابريل 2023م بين الجيش السوداني والمليشيا التي قننها وشرعنها نظام المؤتمر الوطني المحلول (1989-2019م)، لم يترك البروفيسور عبد الله علي ابراهيم شاردة او واردة في مواقف قوي الحرية التغيير وتنسيقية القوي الديمقراطية المدنية "تقدم"، الا تناولها بالنقد والتحليل المفصل. هذا بالطبع امر طبيعي ومطلوب من اكاديمي موسوعي وسياسي مخضرم مهتم بالشأن الوطني مثله. ولكن في راي كاتب هذا المقال انه في غالب نقده لقوي الحرية والتغيير ومن بعدها "تقدم"، قد تخلي عن الادوات الاكاديمية الصارمة المتمثلة في اثبات الفرضيات والاستنتاجات التي يضعها في كل مسالة يتناولها بادلة قوية لا تحتمل الشك، لذا فان احكامه في كثير من الحالات كانت انطباعية. فادلته ضد قوي الحرية والتغيير او "تقدم"، مؤسسة اما علي استنتاجات غير مثبتة او علي المواقف والمقولات والكتابات الشخصية لمنتسبيها او الموالون لها والتي بالضرورة قد لا تعكس الموقف الرسمي لقوي الحرية والتغيير او "تقدم". وهذا ضعف بيّن في الحجة ضد كتلة واسعة من التنظيمات المدنية والاحزاب السياسية، حيث تختلف الرؤي بينها في كثير من المسائل، وكل من منتسبي هذه التنظيمات قد يعبر عن مواقفه الخاصة والتي قد تختلف عن الموقف الرسمي لحزبه. ففي راي كاتب هذا المقال فان كل الانتقادات والاتهامات التي لا تستدل بالمواقف الرسمية لقوى الحرية والتغيير او "تقدم" والتي تصدر من خلال بياناتها او فعالياتها الرسمية او تصريحات ناطقيها الرسميين لا يمكن الاعتداد بها كحجج ضد مواقف هذه القوي، وهذا ما يجعل حجج بروفيسور عبد الله علي ابراهيم في انتقادة لقوي الحرية والتغيير في كثير من المسائل لا تقف على ارضية صلبة. اسوق فيما يلي بعض الامثلة للتدليل على ما جاء عاليه:
1. فهو مثلاً يعتبر اجماع قوى الثورة في ان: "الاخوان هم من اشعل الحرب ليعودوا الي الحكم"، "ما هو الا عداء عشوائي محض لا يحول دون قائله والتحليل المحيط لظاهرة الحرب التي تكتوي بها البلاد فحسب، بل يخلي يده ايضا من حلول لها." [1] ، (انتهي الاقتباس). وهذه فرضية لم يتم اثباتها، لتصبح وصف انطباعي ليس الا، لانه لم يقل لنا وجه العشوائية فيما ذهبت اليه قوي الثورة في اتهامها لـ"الاخوان"، ولقد ذكرت هذه القوي مبرراتها لهذا الاتهام مرارا وتكرار وهي في راي كاتب المقال كانت لها معرفة بما كان يدور في اروقة السلطة اكثر من بروفيسور عبد الله علي ابراهيم، لانها كانت مشاركة في السلطة وعلي صلة وثيقة بطرفي النزاع. كما ان قوي الثورة كانت لها حلولها المطروحة، وحذرت من اندلاع هذه الحرب، وقدمت تلك الحلول ضمن ما عرف بالاتفاق الاطاري، والذي توافقت عليه الاطراف الرئيسية في المعادلة السياسية: الجيش والمليشيا، ومجموعة الاطاري وسعت حثيثا لضم اخرين وكانت قاب قوسين او ادني لتجنيب البلاد الكارثة التي يعيشها السودان الان. فاذا كانت الحلول التي قدمتها مجموعة الاطاري لا تتوافق معه فليقدم حلوله العملية وليس مجرد رفع شعارات مثل "العسكر للثكنات والجنجود ينحل" دون تقديم اليات قابلة للتنفيذ لتطبيق ذلك. فهذا سعيهم اصابوا هدفهم او فشلوا فقد قدموا جهدهم، وواجب قوي الثورة، خاصة من هم في قامة بروفيسور عبد الله علي ابراهيم وخبراته، تقديم النقد البناء لمثل هذه الجهود بغرض التقويم والتحسين. اما هذا النقد المثبط لكل صغيرة وكبيرة تصدر عن الفصيل الاهم من قوي الثورة دون تقديم حلول منطقية تسنده آليات قابلة للتطبيق، لا يصبح نقدا لا جدوي منه وغير مفيدا لمسيرة التحول نحو الحكم المدني فحسب، بل مفيدا لاعداء هذا التحول المنشود.
2. ويقول في مقال آخر [3]: "من الصعب على المرء في حرب السودان القائمة أن يصدق أن تنسيقية القوة الديمقراطية والمدنية "تقدم" واقفة على الحياد بين طرفيها، القوات المسلحة و"الدعم السريع"، فعسير أن يمنع هذا المرء، أقله، الانطباع بأن "تقدم" لا تخلو من ميل لـ "الدعم السريع"، وهي مكرهة في هذا لأن خصم "الدعم السريع" في توليفة القوات المسلحة والحركة الإسلامية (الفلول) مما نشأت "تقدم" وسلفها على بغضهما بغض التحريم "، (انتهي الاقتباس). فهو يقرر هنا ان "تقدم" لا تقف على الحياد في حرب السودان القائمة ولا تخلو من ميل الي المليشيا. والاتهام هنا غير مبني علي ادلة ملموسة، وانما الحجة هي انه طالما ان خصم المليشيا هو توليفة القوات المسلحة والحركة الاسلامية فان "تقدم"، التي تبغض "الفلول"، مكرهة في عدم حيادها وميلها للمليشيا، فاي حجة واي منطق هذا؟ فكيف تبنى المواقف السياسية علي العواطف؟ هذا حكم انطباعي محض، مبني علي فرضية لم يتم اثباتها. والثابت لدينا انه لم يصدر عن "تقدم" ما يقول انها غير محايدة في هذه الحرب.
3. ويضيف في نفس المقال [3]: " اما موضوعياً فـ "تقدم" لم تتأخر عن نسبة "عدالة الحرب" إلى "الدعم السريع، إذ رأت في حربها رداً شرعياً على عدوان الجيش والفلول عليه في الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023، وكثيراً ما غيبت أقلام بارزة من "تقدم" الجيش نفسه عن معادلة الحرب، وخصت "الفلول" بالهجوم على "الدعم السريع" هجوماً جرجرت الجيش إليه وأنفه مرغم، وعينت مطلب الفلول من الحرب وهو طي صفحة ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 والعودة لسدة الحكم، فربح "الدعم السريع" بدور الضحية من "تقدم"، وربح البيع."، (انتهي الاقتباس). لم يبيّن لنا البروفيسور عبد الله علي ابراهيم هنا في اي بيان او مستند صادر من "تقدم" قالت فيه ان حرب المليشيا ضد الجيش كانت ردا شرعيا علي عدوان الجيش. فتغييب اقلام بارزة من "تقدم" الجيش نفسه عن معادلة الحرب، وانها خصت "الفلول" بتوريط الجيش في هذه الحرب للعودة لسدة الحكم، لا يمكن اعتبارها كحجة لما ذهب اليه في حكمه. فما تكتبه هذه الاقلام البارزة من "تقدم" تعكس مواقف هذه الاقلام، ولا تمثل الموقف الرسمي لـ"تقدم"، وبالتالي "تقدم" غير معنية به، ولا يمكن الاستدلال بما تكتبه تلك الاقلام علي مواقفها السياسية.
الملفت للانتباه في مواقف بروفيسور عبد الله علي ابراهيم، وهو مناضل اصيل من قوي الثورة، فيما يتعلق بالحرب القائمة ومنذ اندلاعها، انها تتماهي مع موقف القوي المعادية للثورة وعلى خلاف مع قوي الثورة المدنية التي ترفض الحرب وتنادي بايقافها فغالب قوى الثورة بما فيها احزاب اليسار تتخذ موقفا مناهضا للحرب واستمرارها وترفع شعار "لا للحرب". فموقفه الواضح والمساند للجيش لا يتبين منه انه ضد الحرب على خلاف احزاب "تقدم" واحزاب اخرى، وتكاد لا تخلوا كتاباته عن قوي الحرية والتغيير انتقاده لشعار "لا للحرب". فهو يري ان اندلاعها كان امر حتميا طال الزمن او قصر لوجود جيشين في الدولة ونتفق معه في ذلك. ويري ايضا - خلافا لاحزاب "تقدم" واحزاب اخرى – ان الحرب لها طرف واحد هو القوات المسلحة اما المليشيا "فزائدة دودية في الدولة" [3]. وفي نهاية مقاله الذي بين فيه موقفه المساند للجيش [3] يطلق عبارة حالمة متفائلة يقول فيها: "يسلم السودان ليخرج من هذه المواجهة وقد تكلل جهاده الطويل للديمقراطية والحكم المدني وقوات مسلحة وطنية مهنية حرة بالنجاح". وهو تفاءل مبني علي مجهول، حيث لم يقدم اسبابا تبرر هذا التفاءل وكيف يمكن ان يتحقق هذا الحلم. لعله قدّر ان الغلبة في الحرب الحتمية ستكون للجيش في استئصال زائدة الدولة الدودية. واذا سلمنا بحتمية الحرب، فهي في راي كاتب هذا المقال، قد تاخرت كثيرا لدرجة ان "الزائدة الدودية" كانت قد تضخمت كثيرا ثم انفجرت حتى سممت غالب جسم الدولة الحيوي، واصبح امر استئصالها صعب المنال وذو كلفة عالية. لذا فان خيار الحرب بعد ان وصلت المليشيا الي ما وصلت اليه من مقدرات مقابل مقدرات الجيش، كانت الخيار الاسوأ، ومن يري غير ذلك، في تقدير كاتب هذا المقال، ربما خذلته الحكمة وسوء التقدير ولم يتحسب للخسائر الفادحة في الاورواح والممتلكات التي قد تنجم عن مثل هذا النزال.
فبالرغم من موقف البروفيسور عبد الله علي ابراهيم المماثل في بعض جوانبه مع موقف "الفلول"، الا انه ليس في حلف معهم ولا يمكن اتهامه بانه يدعمهم او موال لتوجهاتهم السياسية. بنفس هذا المنطق لا يمكن اتهام قوي الحرية والتغيير او "تقدم" بانها تدعم المليشيا او انها في حلف معها لمجرد تماثل مواقفهما السياسية في بعض القضايا.
مما لا شك فيه ان كل قوى الثورة، وبروفيسور عبد الله على ابراهيم رقم لا يمكن تجاوزه فيها، تنشد القضاء على كل انواع الشمولية والديكتاتورية والتحول الي الحكم المدني في السودان. لا ادري لماذا لا تضع قوي الثورة هذا الهدف المشترك نصب اعينها وتؤسس عليه ائتلافا يعظم نقاط الاتفاق، ويتغاضى، الى حين، عن الاختلافات غير الجوهرية والكف عن تضخيمها؟ هذا التركيز غير المبرر في راى كاتب المقال علي الاختلافات بين قوي الثورة ومواقفها وابرازها في اكبر من حجمها الحقيقي ليس من الحكمة في شئ، ونتيجتها في النهاية وأد مشروع الثورة السودانية ودعم المشروع المعادي لها. فالتحولات الناجحة من الشمولية الي الحكم المدني الديمقراطي لبعض دول افريقيا (غانا، جنوب افريقيا)، وامريكا اللاتينية والوسطي (البرازيل، شيلي، المكسيك)، واروبا (بولندا، واسبانيا)، ما كانت لتنجح لولا التحالافات الواسعة بين القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي تناست خلافاتها وعملت معا نحو الهدف الاسمي وهو التحول نحو الحكم المدني والديمقراطي. ولم يتم التغيير هكذا مرة واحدة او بطريقة جذرية كما يحلم البعض، وانما كان متدرجا مع عمل دؤوب من المفاوضات والمساومات ، والضغوط عبر الوسائل السلمية لسنوات عديدة، حتي تم التغيير المنشود من داخل النظم الديكتاورية نفسها وبنفس آلياتها.
الركيزة الاساسية للوصول بالثورة السودانية الي اهدافها في التحول المدني هو ان تتجاوز اولا قوي الثورة خلافتها وتلتف حول ما يجمعها لتكوّن ائتلافا واسعا جامعا لكل من يؤمن باهداف الثورة، حينها فقط يمكنها ان تنجح. لعل الاكاديمين والمفكرين والمثقفين هي الفئة الاقدر والاكثر تأثيراً في قيادة اتجاهات الراي لدي الكثيرين نحو التوحد وتجاوز الخلافات في سبيل تحقيق اهداف الثورة. والامل ان يسخِّر امثال البروفيسور عبد الله علي ابراهيم خبراتهم ومعارفهم ورصيدهم الضخم من المتابعين نحو هذا الهدف.
سمير محمد علي
1 مايو 2024م
sameirali@live.com
المصادر:
[1] د. عبد الله علي ابراهيم، "لوثة عداء الكيزان: منزلق ثوري لقفزة في الظلام"، سودانايل، 23 مايو 2023م.
[2] د. عبد الله علي ابراهيم، "تنسيقية القوى التقدمية والمدنية (تقدم): إذا خرجت السمكة من النهر وقالت إن التمساح نفق فصدقوها"، سودانايل، 29 ابريل 2024م.
[3] د. عبد الله علي ابراهيم، "اليوم كلنا القوات المسلحة السودانية"، سودانايل، 16ابريل 2023م.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوی الحریة والتغییر القوات المسلحة الدعم السریع الحکم المدنی لا یمکن
إقرأ أيضاً:
“الثورة نت” ينشر نص كلمة قائد الثورة بمناسبة الانتصار التاريخي للشعب الفلسطيني
الثورة نت/..
نص كلمة قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، بمناسبة الانتصار التاريخي للشعب الفلسطيني، الإثنين 20 رجب 1446هـ / 20 يناير 2025م.
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْــــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَــنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
قال الله تعالى في القرآن الكريم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]، صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيم.
بمناسبة الانتصار التاريخي العظيم، الذي منَّ الله به على الشعب الفلسطيني، ومجاهديه الأعزاء في قطاع غزة، بعد خمسة عشر شهراً من الإبادة الجماعية، والعدوان الهمجي الإجرامي الوحشي الإسرائيلي، بشراكةٍ أمريكية، نتوجه أولاً: بالحمد والشكر لله تعالى، رب العالمين، ونصير المستضعفين، ومذل المستكبرين، وقاهر الجبابرة والطغاة الظالمين، الذي له الفضل والمِنَّة، فهو الذي أعان إخوتنا المجاهدين في قطاع غزة، وثبَّت أقدامهم، وسدَّد رميهم، وأنزل السكينة عليهم، وربط على قلوبهم، وأيّدهم بنصره، وهو الذي أمدَّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بالثبات والصمود، بالرغم من وحشية العدو وجبروته، وممارسته الإبادة الجماعية بكل وسائل الإبادة، والإجرام بمنتهى الإجرام.
ثانياً: نتوجه بأطيب التهاني والمباركة للشعب الفلسطيني، بكل فصائله ومكوناته في الداخل والخارج، بدءاً بمجاهديه الأعزاء في قطاع غزة، كتائب القسام، ومعها سرايا القدس، وبقية الفصائل المرابطة المجاهدة، المضحية، التي اتَّحدت وتعاونت مع كتائب القسام جنباً إلى جنب وكتفاً بكتف، وقاتلت العدو الإسرائيلي، وتصدَّت لعدوانه الهمجي ببسالةٍ وتفانٍ وثباتٍ منقطع النظير، وكان لهذا التعاون القائم على قرارٍ حاسمٍ بالمواجهة للعدو، والتصدي لعدوانه، مهما كان حجم التضحيات، ومستوى التحديات، مع الصبر والاستبسال، كان لهذا التعاون القائم على هذا القرار أهميةٌ كبيرةٌ فيما منَّ الله به وتحقق من نتائج عظيمة.
وقد بارك الله تعالى ثبات إخوتنا المجاهدين في قطاع غزة، وصبرهم، وجهادهم، وتضحياتهم، بما أمدهم به من سكينةٍ، وربطٍ على القلوب، وتثبيتٍ، وعونٍ، وتسديد، ونصر، فقد كانوا على مستوى الإمكانات يقاتلون بإمكاناتٍ بسيطةٍ ومحدودةٍ مع حصارٍ شديد، في مقابل ما هو بحوزة العدو، وما شارك به الأمريكي، وهو الكثير، من أفتك السلاح، ووسائل التدمير والقتل الأكثر تطوراً على المستوى العسكري.
وعلى مستوى الظروف الصعبة المعقدة، من عدوانٍ مدمر، واجتياحٍ شامل، ورصدٍ جويٍ كثيف، ونشاطٍ استخباراتيٍ مطبق، وظروفٍ بالغة التعقيد، حشد لها العدو بمشاركةٍ أمريكيةٍ وبريطانية ما يساعده على تدمير أي نشاطٍ مقاوم، والقضاء على أي تحركٍ جهاديٍ للتصدي للعدو، مع ظروفٍ محيطةٍ صعبةٍ للغاية، فيما يستهدف به العدو كل محيطهم الشعبي، ومجتمعهم، وأهليهم في قطاع غزة، من قتلٍ، وإبادةٍ، وتجويعٍ، وتدميرٍ شاملٍ، وتدميرٍ أيضاً لكل مقومات الحياة… وغير ذلك.
ثم مع حجم التضحيات الكبيرة، بقوافل الشهداء من القادة، وفي طليعتهم الشهداء الأعزاء: إسماعيل هنيَّة، والعاروري، والسنوار “رَحِمَهُم الله”، وقادة في الميدان من الكوادر ومن بقية المجاهدين، وجرحى، مع كل ذلك لم تنكسر إرادتهم، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:146].
وبالرغم أيضاً من التخاذل العربي الرسمي الواسع، والموقف السلبي لبعض الأنظمة العربية، وأيضاً الموقف السلبي- وللأسف الشديد- للسلطة الفلسطينية.
بالرغم من كل ذلك وفَّقهم الله، وأعانهم، وثبَّتهم؛ فكانوا ثابتين وفاعلين في عملهم الجهادي، وتصديهم البطولي للعدو الإسرائيلي، وأبدعوا في التكيُّف مع مختلف الظروف العسكرية، وابتكار التكتيكات اللازمة، واستفادوا حتى من بعض قنابل العدو التي لم تنفجر، وقاتلوه حتى بالسلاح الأبيض، ونفَّذوا عملياتٍ بطوليةٍ وفدائيةٍ جهاديةٍ ستبقى في سجلهم التاريخي العظيم، مُلهِمةً للأجيال؛ ولـذلك فقد كانت عملية طوفان الأقصى بنفسها نقلةً نوعيةً في العمل الجهادي الفلسطيني، وكان أيضاً هذا الصمود العظيم على مدى خمسة عشر شهراً، بما تحقق فيه من إبداعات، وما كان له من نتائج، نقلةً عظيمةً ومهمةً، وتجربةً ناجحةً كذلك.
ثم بثبات حركات المقاومة في الموقف السياسي، حيث حملت حركة المقاومة الإسلامية حماس راية الجهاد السياسي بكل ثبات، ولم ترضخ لكل الضغوط ومحاولات الابتزاز، الرامية إلى إخضاعها للقبول بصيغة استسلامٍ تتنازل فيها عن حقوق الشعب الفلسطيني، وتعطي العدو في المفاوضات ما عجز عن الحصول عليه في الميدان العسكري، وقد كانت جولات التفاوض وما قبلها وما بينها ساحةً حقيقيةً للمواجهة السياسية، في مقابل حجم الضغوط الأمريكية والغربية، التي كانت ضغوطاً كبيرة، مع الضغط الحاصل في قطاع غزة، لكن حركة المقاومة الإسلامية حماس ثبتت، ومعها حركة الجهاد الإسلامي، وبقية الفصائل الفلسطينية، بتعاونٍ تامٍ وروحٍ أخوية، حتى تحققت النتائج المهمة، التي حافظت على الحقوق الفلسطينية، وعلى النتائج المهمة للفعل المجاهد المقاوم في قطاع غزة.
ثم أيضاً بثبات الحاضنة الشعبية الفلسطينية، بالرغم من الإبادة بكل وسائلها، من قتلٍ وتجويع، ومع الجراح والمرض، والبرد القارس، والحصار التام، والتدمير لكل مقومات الحياة.
ومع ذلك أيضاً ما قدمته الضفة الغربية من تضحيات، وعملياتٍ بطولية، والعمليات التي نفَّذها الاستشهاديون في مناطق متعددة من فلسطين.
فهذا الصبر، وهذه التضحيات، وهذا الجهد، وهذه الجهود، هو القربان العظيم إلى الله تعالى، والعطاء الكبير، والتقدمة المهمة التي باركها الله وحقق لها هذه النتائج المهمة، والتي ستستمر- إن شاء الله- في مسارٍ تصاعدي، وهي نقلةٌ حقيقية في ميدان المواجهة مع العدو الإسرائيلي إلى مستوىً متقدم، له أهميته الكبرى، في مستقبل الشعب الفلسطيني، وزوال الكيان الغاصب المؤقت، وتحقق الوعد الإلهي المحتوم.
قد لا يستوعب البعض أهمية ما تحقق من ذلك، لكن يكفيهم أن هناك إجماعاً إسرائيلياً على فشل المجرم [نتنياهو]، وأن اليوم التالي للحرب، الذي كثيراً ما كان يركز المجرم [نتنياهو] على الحديث عنه، ويرسم لهم صورة انتصارٍ إسرائيلي، بزوال حركة مقاومة الإسلامية حماس، وكتائب القسام، والفصائل الفلسطينية المجاهدة من قطاع غزة، والسيطرة الإسرائيلية التامة، كان اليوم (بالأمس) يوماً للانتصار الفلسطيني، وللمجاهدين الفلسطينيين بكل جلاء، كان يوماً حماسياً في غزة، ظهرت فيه فصائل المقاومة منتصرة.
من أهم أيضاً ما كان بارزاً وفارقاً في هذه الجولة من المواجهة مع العدو الإسرائيلي، من بعد طوفان الأقصى، وكان علامةً فارقةً في تاريخ الصراع مع العدو الإسرائيلي، هي: جبهات الإسناد، التي استمرت بالإسناد للشعب الفلسطيني، ومجاهديه الأعزاء، بشكلٍ غير مسبوقٍ في تاريخ هذا الصراع، وبشكلٍ مستمر:
جبهة الإسناد في لبنان، وما قدمه حزب الله من تضحياتٍ عظيمة، من قادته، وكوادره، وأفراده المجاهدين، وبشكل غير مسبوقٍ مع الشعب الفلسطيني، وما أسهم به على مستوى النكاية بالعدو الإسرائيلي، والالتحام في العمليات الكبيرة والمواجهات الشاملة، وحجم الاستنزاف الكبير جداً للعدو، وتنكيله الكبير بالعدو، وما ألحقه به من الخسائر الفادحة، والأضرار الكبيرة، في عمله الجهادي العظيم، وفي أثناء مرحلة مواجهته للعدوان الإسرائيلي على لبنان.
جبهة الإسناد في العراق، وعملياتها التي استمرت إلى الآونة الأخيرة، واستمرت بعض فصائلها دون توقف، إلى حين تحقيق الانتصار.
دور الجمهورية الإسلامية في إيران، التي استمرت بالدعم دون توقف، بالرغم من الضغوط والإغراءات، وكذلك عملياتها الكبرى، المدمرة، والكبيرة، والغير مسبوقة، في الوعد الصادق.
جبهة الإسناد في يمن الإيمان، التي فاجأت العالم بمستوى موقفها، واستمرارها، وثباتها، وبزخمها الشعبي، والسقف العالي للموقف.
ونتحدث هنا على نحوٍ من التفصيل، وبالاختصار عن الموقف اليمني، وحديثنا عن الموقف اليمني ليس للتمنن، ولا للمزايدات، فهو أداءٌ لواجبٍ مُقَدَّسٍ، وهو مسؤوليةٌ دينية، وهو بتوفيقٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولـذلك نقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ}[الأعراف : 43]، ولكنه يهمنا الحديث عن هذه التجربة المهمة، وللبناء على ما قد تحقق في الحاضر والمستقبل.
ونتحدث أولاً: عن مميزات هذا الموقف:
الميزة الأولى للموقف اليمني: أنه ثمرةٌ للانطلاقة الإيمانية، والتوجه القرآني لشعبنا العزيز، الذي هو مصداقٌ للحديث النبوي: ((الْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ))، هذه الانطلاقة، وهذا التوجه، الذي ارتقى بشعبنا العزيز، من مجرد العاطفة الوجدانية، والتعاطف النفسي، والمواقف الشكلية والمحدودة؛ إلى مستوى الشعور بالمسؤولية، والموقف العملي الجهادي الشامل في كل المجالات.
هناك الكثير من أبناء أمتنا الإسلامية، يحملون تجاه الشعب الفلسطيني، ومظلوميته الكبيرة ومعاناته، التعاطف بالشعور الوجداني، والعاطفة النفسية، ولكن لا يرقى هذا التعاطف لدى الكثير من الحالة النفسية إلى مستوى الموقف العملي، قد يرقى لدى البعض إلى مستويات محدودة بحسب ظروفهم وأوضاع بلدانهم، لكنه في واقعنا في اليمن ارتقى بشعبنا العزيز إلى ترجمة هذا التعاطف إلى مستوى أكبر، إلى أن يكون شعوراً بالمسؤولية الدينية، والإيمانية، والأخلاقية، والإنسانية، وأن يتحول إلى مواقف عملية جهادية شاملة.
الميزة الثانية في موقف اليمن: هي الاتجاه الرسمي والشعبي معاً، في توجهٍ واحد، وموقفٍ واحد، بسقفٍ عالٍ أيضاً؛ ولـذلك لم تنجح أمريكا ومن مع أمريكا في التأثير على هذا الموقف، من خلال أسلوبها الذي تستخدمه في بقية البلدان، حيث تُكَبِّل الموقف الشعبي من خلال الجانب الرسمي؛ فتحرك الأنظمة والحكومات والزعامات في بعض البلدان، للضغط على شعوبها، وتكبيلها وتقييدها من أي تَحَرُّكٍ، أحياناً من أي تحرك بأي مستوى، وأحياناً من أي تحرُّكٍ بالمستوى المطلوب، بمستوى المسؤولية وبما ينبغي، وأحياناً تستخدم أمريكا أسلوب الإثارة لمكونات شعبية، وللشعوب، تحت عناوين واصطناع مشاكل وأزمات وقضايا؛ من أجل الانتقام من الموقف الرسمي.
شاهدنا في بعض البلدان الإسلامية، أن يكون على رأسها زعيم، يتبنى موقفاً مناهضاً للسياسة الأمريكية والهيمنة الأمريكية، ومعادياً للعدو الإسرائيلي، ثم تصنع له أمريكا مشكلةً معينة، من خلال أجهزة في نظامه، أو من خلال جيشه، أو من خلال الواقع الشعبي، وتحرك ضده إمَّا انقلاب، وإمَّا موقفاً يطيح به، وينهيه وينهي تأثيره ووجوده.
لكن فشلت في اليمن؛ نتيجةً للتوجه الشامل على المستوى الرسمي والشعبي، فلا هي تمكنت من أن تحرك الموقف الرسمي لتكبيل وتقييد الموقف الشعبي، ولا هي نجحت في التأثير على الموقف الشعبي، ليكون ضاغطاً على الموقف الرسمي بأي عنوان، بافتعال أي قضايا أو عناوين؛ فكانت هذه ميزة: هذا التحرك الشامل المتناغم، وكان الموقف الرسمي يعبِّر بكل صدقٍ ووضوح عن الموقف الشعبي.
ثم الموقف العملي، الذي هو تحركٌ شاملٌ في كل المجالات، بدءاً من العمليات العسكرية، ومراحلها التصاعدية، بالرغم مما واجهته من تعقيدات، كان ما يرغب به شعبنا العزيز، وما يريده، وما طالب به، هو: التفويج، والاشتراك المباشر في القتال، جنباً إلى جنب مع المجاهدين في فلسطين، ولو تهيأت الظروف لذلك فقد كنا جاهزين لتفويج مئات الآلاف للجهاد في سبيل الله تعالى، نصرةً للشعب الفلسطيني، بالقتال المباشر مع المجاهدين في فلسطين، لكن التعقيد الذي حال دون ذلك هو بعد المسافة، والعائق الجغرافي، بوجود أنظمة وحكومات وبلدان فيما بيننا وبين فلسطين، لم تستجب لطلب أن تفتح طرقاً ومنافذ بريَّة آمنة للعبور منها، للوصول إلى فلسطين، والمشاركة مع الشعب الفلسطيني في غزة.
كُنَّا نرصد مسار الأحداث بعد عملية طوفان الأقصى، التي هي نقلة نوعية، وكبيرة، ومهمة جداً، وباتت فعلاً القضية الفلسطينية ببركتها في مرحلةٍ متقدمة، كنَّا نرصد مسار الأحداث، وننسق مع إخوتنا في محور المقاومة، وبقية جبهات الإسناد، واتخذنا قراراً أعلناه في كلمةٍ متلفزة: بأن العدو الإسرائيلي إذا اتَّجه إلى تجاوز الخطوط الحمر، فسنتجه إلى العمليات العسكرية، المساندة للشعب الفلسطيني ومجاهديه في غزة، الخطوط الحمر التي قصدناها، هي:
عندما يرتكب العدو الإسرائيلي المجازر الجماعية.
أو يعمل على الاجتياح البري لقطاع غزة.
أو يستهدف بنية المقاومة الإسلامية في غزة، بشكلٍ يضر بها ويؤثِّر عليها.
عندما ارتكب العدو الإسرائيلي جريمته الكبرى، بالاستهداف للمستشفى الأهلي المسمَّى بـ (المعمداني)، قررنا في تلك الليلة بنفسها التدخل بالإسناد العسكري؛ لأن العدو الإسرائيلي تجاوز الخطوط الحمراء، وارتكب مجزرة إبادة جماعية، كُنَّا نريد في تلك الليلة أن تكون أول عملية عسكرية مساندة، مباغتةً ومفاجئةً للأعداء، لكن الأمريكي مع نشاطه التجسسي في الأجواء اليمنية رصد التحركات والاستعدادات للعملية؛ وبالتالي أرسل برسالةٍ إلينا فيها التهديد، والوعيد، والتحذير، فكان ردنا عليه- بتوفيق الله- رداً قوياً، وأكدنا على ثباتنا على موقفنا، وقررنا تنفيذ العملية في صباح ذلك اليوم، بالرغم من معرفتنا أن الأمريكي سيسعى إلى اعتراض الصواريخ والمسيَّرات، فقررنا تنفيذ العملية بالصواريخ والمسيَّرات باتَّجاه أم الرشراش وجنوب فلسطين، وكانت هذه هي مرحلتنا الأولى في عمليات الإسناد العسكرية، وكان ذلك أقصى ما نمتلكه، وما يتوفر لدينا من إمكانات، هو: القصف إلى ما يسميها العدو بـ [إيلات] إلى أم الرشراش في جنوب فلسطين، الأمريكي كان مستعداً للاعتراض، وتعاون مع بعض الأنظمة العربية، وسعى لاعتراض ما تمكن من اعتراضه من تلك الصواريخ، ومن تلك الطائرات المسيَّرة، ووصل ما وصل.
اتجهنا على أساس الاستمرار في هذه العمليات، مع دراسة خيارٍ إضافي؛ من أجل فاعليةٍ أكبر، وضغطٍ أكبر على العدو، وتقرر لدينا أن نعتمد العمليات البحرية، على أساس أن تكون مساراً إضافياً، مع الاستهداف بالقصف الصاروخي إلى فلسطين المحتلة، لاستهداف العدو في أم الرشراش وجنوب فلسطين، وكانت هذه مرحلةً ثانية.
العمليات البحرية بدأت بدايةً موفقة، بتوفيقٍ من الله تعالى، ومباركة، ومفاجئةً للعدو الإسرائيلي وغيره، وللأمريكي، وللعالم، بدأت بالسيطرة المباشرة على سفينةٍ إسرائيلية، وكانت السيطرة عليها، ومشاهد العملية التي وُثِّقَت أثناء تنفيذ العملية، كان لها صداها الكبير، وتأثيرها الكبير، وتمهيدها المهم لما بعدها من عمليات.
الأمريكي قلق بشكلٍ كبير، وكثَّف من تواجده بقطعه الحربية في البحر، ونشاطه البحري؛ من أجل حماية السفن الإسرائيلية. الإسرائيلي اغتاظ جداً، ومن لحظة السيطرة على تلك السفينة الإسرائيلية، كان هناك تصريحات من المجرم [نتنياهو]، تصريحات من قادة الجيش الإسرائيلي، من كبار المجرمين الإسرائيليين، التي تُعبِّر عن شدة غيظهم، وعن مدى ما كانوا فيه من القهر والضيم، وما كانوا فيه من الغيظ الشديد، لكن العمليات البحرية استمرت، بالرغم من تحرك الأمريكي الواسع لحماية السفن الإسرائيلية، وكانت بتعاونٍ كامل ما بين القوات البحرية، التي كانت في مقدمة من يُقدِّم الشهداء في سبيل الله تعالى في هذه العمليات، والقوات الصاروخية، والطيران المُسيَّر، هذه القوى الثلاث في القوات المسلحة اليمنية لها الدور الكبير جداً في هذه العمليات العسكرية، والذي كان بجهدٍ مستمر، وبتضحيات، وبثبات، وبعملٍ دؤوب، نسأل الله تعالى أن يكتب أجرهم، وأن يتقبل منهم جهادهم وتضحياتهم.
الأمريكي كثَّف الانتشار في البحار، واستعان بالأوروبيين في ذلك، وكان تركيزه مع من يتعاون معه من الأوروبيين على عمليات الاعتراض للصواريخ، وللطائرات المُسيَّرة، وعلى مرافقة السفن الإسرائيلية التي تتحرك في البحر، لكنه بالرغم من كل ذلك فشل، كانت تُقَابَل استراتيجيتهم في الاعتراض بكثرة إطلاق المسيَّرات والصواريخ، فكانوا إن اعترضوا البعض منها، وصل البعض الآخر؛ ولـذلك نجحت العمليات البحرية بالاستهداف للسفن الإسرائيلية، وأثَّرت على حركتها ونشاطها.
ما بعد ذلك تم الانتقال إلى تطوير الصواريخ، وتطوير الطائرات المسيَّرة، وتطوير الزوارق البحرية، وكل هذا تحقق فيه نتائج مهمة ونقلات مهمة، تفاجأ الأعداء بشكلٍ كبير (الأمريكي، وتفاجأ معه الآخرون أيضاً) من استخدام الصواريخ البالِسْتِيَّة في العمليات البحرية، لأول مرة في التاريخ، لم يسبق أن تستخدم الصواريخ البالِسْتِيَّة، التي تستخدم عادةً لاستهداف أهداف ثابتة في البر، ولكن أن تستخدم لاستهداف أهداف بحرية متحركة في البحر، فكان هذا مفاجئاً لهم جداً، وكان هذا بتوفيق الله تعالى، وبجهدٍ تقنيٍ بذله الإخوة في الصاروخية، كذلك تحققت نتائج مهمة في تطوير الطائرات المسيَّرة، والزوارق البحرية بموازاة ذلك؛ ولـذلك كانت عمليات الاعتراض ضعيفة، بعد هذا التطور، على مستوى الصواريخ البالِسْتِيَّة، واستخدامها في العمليات البحرية، وعلى مستوى تطوير الطائرات المسيَّرة والزوارق البحرية، فكان تأثيرها تأثيراً كبيراً، وصل إلى تخوّف العدو الإسرائيلي من حركة أي سفن تابعةٍ له بشكلٍ مباشر، وتوقف عن ذلك.
يعني: بفضل الله تعالى، في تلك المرحلة المهمة، نجحت قواتنا المسلحة بإيقاف النشاط المباشر الملاحي للعدو الإسرائيلي عبر البحر الأحمر بشكلٍ كامل، من خلال سفنه التي يمتلكها، وانتقل العدو الإسرائيلي إلى استخدام طريقةٍ أخرى، هي: نقل بضائعه في سفن لشركات أخرى، ولدول أخرى، بحيث تُنْقَل فيها بضائعه، بدلاً من النقل لها في سفن يمتلكها هو، بالرغم من أنه ما قبل ذلك كان يعتمد على أسلوب التمويه، التمويه لسفنه، من خلال أنها لم تكن تحمل العلم الإسرائيلي وهي تمر في البحر الأحمر وباب المندب، ثم يُمَوِّه أيضاً باسم دول أخرى، وشركات أخرى، فلم ينجح في ذلك، تم الاكتشاف لها، من خلال نشاط معلوماتي مُنَظَّم وقوي، واختراق معلوماتي مهم، بجهدٍ مهم، نجحت فيه القوات المسلحة، ثم انتقل إلى تلك الطريقة، التي هي: نقل بضائعه في سفن لدول أخرى، ولشركات أخرى، وكان الاستهداف لها يمثل أيضاً خطوةً جديدة، ومرحلةً جديدة ذات حساسية كبيرة، لكن كان يترافق مع ذلك تحذير للشركات، وتحذير للدول التي تتبعها تلك الشركات، وتحذير أيضاً للسفن نفسها أثناء تحركها، ثم تستهدف.
كان الانتقال إلى هذه المرحلة أمراً مزعجاً بشكلٍ كبير للأمريكي وللإسرائيلي؛ لأن معناه: المنع للإسرائيلي من نقل بضائعه في التصدير، أو في الاستيراد، بشكلٍ نهائي عبر البحر الأحمر وباب المندب بأي وسيلة من الوسائل، لا في سفنه المباشرة، مع تمويهها، ثم فشل في ذلك، ولا عبر سفن أخرى، وهذا له تأثيره المباشر على العدو الإسرائيلي في اقتصاده.
الأمريكي انتقل للتصعيد مع ذلك في مرحلة جديدة من التصعيد، وحاول أن يحشد لها الآخرين، ولكنه فشل في ذلك، فقط تحرك معه البريطاني، انتقل إلى مرحلة من التصعيد بالعدوان على بلدنا إسناداً للإسرائيلي، وأعلن عن ذلك، ولأنه أصبح يفشل في مسألة الاعتراض، أراد أن يستهدف البنية الصاروخية، في منصات الإطلاق، في المصانع، في المخازن، وأن يستهدف العمليات التي يتم فيها إطلاق الصواريخ والمسيَّرات في داخل بلدنا.
ترافقت العمليات العدوانية على بلدنا، التي ينفذها الأمريكي، مع رصدٍ جويٍ كثيفٍ جداً، بالأقمار الصناعية، وكل أنواع طائرات التجسس التي يعتمد عليها الأمريكي؛ بهدف الاكتشاف للبنية الصاروخية التحتية، لمنصات الإطلاق، لمرابض الإطلاق، للمخازن، للمصانع، وحاول الأمريكي أن يكثِّف من استهدافه للبنية التحتية، لكنه فشل في ذلك، وتوسَّعت دائرة العمليات من البحر الأحمر، وباب المندب، وخليج عدن، إلى بحر العرب، وكانت هذه أيضاً نقلة في العمليات، ومرحلةً مهمةً وجديدة، وتوسَّعت بأكثر من ذلك إلى أقصى البحر العربي، وإلى المحيط الهندي، وبمحاذاة سقطرى، وهذه أيضاً إنجازات كبيرة، وتصعيد في العمليات، له تأثيره على الأعداء.
توسَّعت العمليات البحرية إلى البحر الأبيض المتوسط، وهذه الخطوة تمت بناءً على التنسيق ما بيننا وبين الإخوة في المقاومة الإسلامية في العراق، لكن هذا المسار واجه الكثير من العراقيل، نتيجةً لحجم الضغوط على الإخوة في المقاومة الإسلامية في العراق؛ ولـذلك لم يكن هذا المسار فعَّالاً بقدر ما كُنَّا نريد، وكُنَّا نأمل الاستمرار في تقوية هذا المسار.
أيضاً فيما يتعلَّق بالمحيط الهندي: نجحنا في مستويات معينة، لكن الأعداء عملوا على الابتعاد أكثر في أقصى المحيط الهندي، بمسافات بعيدة، وكان هذا أيضاً يتطلب المزيد من تطوير القدرات؛ للوصول إلى مسافات أبعد في المحيط الهندي.
ثم كذلك فشل الأمريكي في حماية السفن بشكلٍ نهائي، السفن التي تتبع العدو الإسرائيلي، أو التي تحمل بضائع له، وتوقف النشاط الملاحي الذي يتبع العدو الإسرائيلي بشكلٍ نهائيٍ عبر البحر الأحمر، وباب المندب، وخليج عدن، والبحر العربي، في هذا المسار توقف بشكلٍ كامل؛ وبالتالي توقف بشكلٍ كامل ميناء أم الرشراش، التي يسميها العدو [إيلات]، توقف بشكلٍ نهائيٍ عن العمل، وهو الميناء الفلسطيني الوحيد المطل على البحر الأحمر، الذي كان يستفيد منه العدو استفادةً كبيرة في كل مساره الملاحي عبر البحر الأحمر، كان لهذا تأثيره الكبير على العدو في الجانب الاقتصادي، في خسارته لما كان يحصل عليه من إيراد مالي من هذا الميناء، وفيما كان يصدِّره عبره أيضاً، للحركة التجارية، أيضاً كان للعمليات تأثيرها الكبير على جنوب فلسطين، وعلى أم الرشراش، وتحوَّل الوضع هناك إلى منطقة شبه مهجورة ومشلولة من أي نشاط اقتصادي ونشاط سياحي، وكان لهذا تأثيره الكبير على العدو.
فيما يتعلَّق بالصاروخية والمسيَّرة: استمرت العمليات بالاستهداف للعدو إلى فلسطين، مع التطوير المستمر لتجاوز حالات الاعتراض، التي ينشط فيها الأمريكي، وأيضاً لتطوير القدرات لتجاوز الاعتراض الإسرائيلي نفسه، فكان النجاح في تطوير الطائرة المسيَّرة (يافا)، التي تمَّ الاستهداف بها في مرحلة متقدَّمة بالوصول إلى يافا المحتلة، التي يسميها العدو [تل أبيب]، إلى المركز الذي يمثِّل مركز الثقل لدى العدو، على المستوى الإداري في كيانه المحتل، ثم بتطوير صاروخ (فلسطين)، الذي كان نقلةً حقيقية فيما يتعلق بالصواريخ، وكذلك للوصول به إلى يافا المحتلة، وإلى أي مكان في فلسطين المحتلة؛ لاستهداف أي أهداف تابعة للعدو الإسرائيلي.
كانت هذه النقلة مزعجة جداً للعدو الإسرائيلي، الذي يرى نفسه يواجه هذه العمليات دون أن يتمكَّن من منعها، أصبحت جبهةً قويةً، مؤرِّقةً للعدو، مؤثرةً عليه، ودون أن يتمكَّن من التخلص منها، من خلال الاستناد على الأمريكي، والاعتماد على الأمريكي والبريطاني، وأصبح العدو الإسرائيلي في وضعٍ صعب؛ وبالتـالي كان يوبِّخ الأمريكي ويلومه: [لماذا لم ينجح في توفير الحماية له؟!].
الأمريكي كان منزعجاً جداً؛ ولـذلك اتَّجه إلى التصعيد في عدوانه على بلدنا، واستخدم وسائل جديدة في تصعيده العدواني على بلدنا، منها:
طائرات الشبح، التي- ربما- هي آخر ما لدى الأمريكي في الطيران الحربي، يأتي بها من أمريكا رأساً لتنفذ عمليات قصف عدوانية في بلدنا، ثم تعود إلى أمريكا؛ لأنها- كما بلغنا، وكما هو منشور ومتداول عن هذه الطائرة- أنها ليست موزَّعةً في القواعد العسكرية الأمريكية في بقية البلدان؛ لأهميتها الكبرى لدى الأمريكي، ولما لها من مميزات كبيرة جداً، يحتفظ بها في أمريكا، وتنفذ عمليات من هناك، ثم تعود إلى أمريكا، وهذا يعتبر- يعني- تصعيداً كبيراً بالنسبة للأمريكي، وخطوةً يعتبرها خطوةً كبيرة، في محاولات ضغطه لمنع العمليات اليمنية المساندة للشعب الفلسطيني ومجاهديه.
واستخدم أيضاً قاذفات الـ (بي-52)، وهي أيضاً من أهم ما بحوزة الأمريكي من سلاحٍ جويٍ مدمِّر، يعتمد عليه، وله هيبته عند مختلف الدول الكبرى، وجيوشها الكبرى بما تمتلكه.
الأمريكي كثَّف أيضاً من الرصد الجوي، مع كل ذلك فشل، يعني: عمل على مستوى سلاح الجو على التصعيد حتى باستخدام هذه الوسائل، التي لا يستخدمها إلا نادراً، في حالات نادرة، في حالات استثنائية، مع ذلك فشل، استمرت العمليات: سواءً بالقصف الصاروخي، أو بالمسيَّرات، في العمليات البحرية، والعمليات المساندة إلى فلسطين المحتلة؛ لاستهداف أهداف تابعة للعدو الإسرائيلي.
استخدم الأمريكي حاملات الطائرات، التي كان يُرعِب بها كبار منافسيه ومناوئيه من الدول الكبرى في العالم، وأتى بها إلى البحر الأحمر، وإلى البحر العربي، ومع ذلك تم استهداف حاملة الطائرات، وأصبحت في حالة الدفاع، بدلاً من أن تكون في موقع الهجوم، بل تزامنت كثيرٌ من عمليات الاستهداف لها، مع تحضيرها وترتيبها لتنفيذ عمليات عدوانية على بلدنا، مع قوة الاستهداف، وكثافة العمليات التي تستهدفها، اضطُر الأمريكي إلى أن يهرب بحاملة الطائرات [روزفلت] من البحر الأحمر، ثم حاملة الطائرات [لينكولن] حتى من البحر العربي، ثم أتى بحاملة الطائرات [ترومان]، وهي تهرب باستمرار في كل عملية اشتباك معها إلى أقصى شمال البحر الأحمر، وتتموضع بعيداً جداً عن السواحل اليمنية، بما هو أبعد من ألف كيلو متر؛ ولـذلك كلما اقتربت من أجل تنفيذ عملية، يتم الاشتباك معها، ثم تهرب على الفور، وتغادر تشكيلاتها الجوية من الطائرات التي تقلع من فوقها لتنفيذ عمليات، تعود على الفور إلى فوقها، وتهرب وتغادر مسرح عملياتها.
هذا المستوى من التصعيد أيضاً لم ينجح به الأمريكي في الضغط على العمليات اليمنية لإيقافها، مع أنه من الخطوات المتقدِّمة جداً للضغط الأمريكي العسكري، فشلت حاملات الطائرات في أن توفر حالة ردع، لمنع العمليات اليمنية، أو أن تنجح في إيقافها بالفعل، لا بالردع، ولا بالفعل، ولا بالاعتراض؛ ولـذلك استمرت العمليات العسكرية بالقصف الصاروخي، والطائرات المسيَّرة، والعمليات البحرية، ولم تتوقف حتى تمَّ هذا النصر بفضل الله تعالى.
القوات البرية في القوات المسلحة كانت أيضاً في جهوزية مستمرة، ومرابطة دائمة، واستعداد للتصدي لأي محاولات عدوانية برية، وبذلت الجهد المستمر في المرابطة، في الانتباه، في الحضور، في الاستعداد، في التدريب والتأهيل، في كل ما تتطلبه الجهوزية العالية للتصدي لأي تصعيدٍ عسكريٍ عدوانيٍ يشمل الجانب البري، هذا في المسار العسكري، وكانت فيه نقلات وخطوات بفضل الله تعالى، ومواجهة أيضاً لكثير من التكتيكات الحربية الأمريكية، ووسائل التصعيد وأساليب التصعيد التي اعتمد عليها الأمريكي.
وصل الموضوع إلى اشتراك الإسرائيلي، بعد عجز الأمريكي عن حمايته، وعجزه أيضاً عن التصدي للصواريخ التي كانت تخترق الأجواء، ولم تتمكن المنظومات الإسرائيلية المتوفرة للعدو الإسرائيلي من اعتراضها ومنعها، فكان لها تأثيرها الكبير، الضاغط جداً على العدو الإسرائيلي، على مستوى الفزع والرعب الذي تصاعد، وكان يسبب في طرد ملايين المستوطنين الصهاينة من على فراش نومهم إلى الملاجئ، أحياناً خمسة مليون صهيوني أو أكثر يهربون في منتصف الليل، أو في آخر الليل، إلى الملاجئ، في حالة من الرعب والتدافع يهلك فيها بعضهم، وكذلك الأضرار المباشرة، والأضرار على الوضع الاقتصادي، وكذلك التأثير على حركة الرحلات الجوية إلى مطار [بن غوريون]… وغير ذلك من التأثير المباشر على العدو، مع تأثير العمليات البحرية.
العدوان الإسرائيلي الذي تكرر لعدة مرات، لم يحقق أي نتيجة، ولم ينجح أبداً في الضغط لإيقاف العمليات اليمنية، التي استمرت بتصاعد وتصعيدٍ ملحوظ، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة، التي كانت بشكلٍ شبه يومي، هذا في مسار العمليات العسكرية، والتي كانت بأعلى سقف، وبكل جرأة، من منطلقٍ إيماني، بإحساسٍ بالمسؤولية الإيمانية، وأداءٍ جهاديٍ في سبيل الله تعالى، وبجهدٍ وتضحيات قدَّمتها القوة الصاروخية، وقدَّمها الإخوة المجاهدون في الطيران المسيَّر… وبقية التشكيلات التي كان لها إسهام كبير في هذه العمليات، رأس الحربة كان هو: الإخوة المجاهدون في القوات الصاروخية.
فيما يتعلَّق بالتحرك الشعبي: كان التحرك الشعبي مميزاً، ومختلفاً عن غيره في كل الشعوب والبلدان، والمفارقة كبيرة ما بين حال البلدان المتخاذلة، والصامتة، والمكبَّلة، والمقيَّدة، وما بين هذا المستوى العالي من التحرك الشعبي في اليمن.
كان هناك نشاط واسع جداً، من ضمنه:
مسار التعبئة العسكرية، وهو مسار في غاية الأهمية، تمَّ فيه تدريب مئات الآلاف من أبناء الشعب اليمن، مع أنشطة متنوعة، من: المناورات العسكرية، والعروض العسكرية، والمسير العسكري، ولا يزال هذا المسار مستمراً، وإن شاء الله بما هو أكبر وأقوى.
كان هناك مئات الآلاف من الوقفات المتنوعة، ومنها: وقفات كثيرة جداً، بالآلاف، وقفات نسائية، هناك وقفات لمختلف أبناء اليمن، وقفات لطلاب الجامعات، وقفات على مستوى النشاط الاجتماعي، وقفات قبلية عظيمة وكبيرة ومهمة… وقفات متنوعة لكل فئات المجتمع، أمسيات وندوات، كل هذا كان بمئات الآلاف من الأنشطة المكثفة.
كان هناك أيضاً الخروج المليوني الأسبوعي، الذي استمر على مدى خمسة عشر شهراً، بزخمٍ شعبيٍ هائل، في مئات الساحات، وفي مقدِّمتها: ميدان السبعين في صنعاء، بما لا مثيل له أبداً في أيِّ بلدٍ في العالم، ولا لنصرة أي قضية، هذا الخروج المليوني في كل أسبوع استمر أولاً بدون كللٍ، ولا مللٍ، ولا فتور، وبقيت الصورة الهائلة جداً لملايين اليمنيين في ميدان السبعين، وفي غيره من مختلف الساحات، صورةً أسبوعيةً يشاهدها العالم دون أن تتراجع، دون أن تضمحل أو تتلاشى.
كان هناك أيضاً مع هذا الاستمرار، الذي هو ميزة عظيمة جداً؛ لأن الكثير من الناس وبالذات العرب، من أكبر السلبيات التي يعاني منها العرب هي: الملل، والكلل، والفتور، والتوالي، لكن هذا النشاط الكبير في الحضور الأسبوعي دون كلل، كان وراءه إيمان، دافعٌ إيماني، كان هناك استمرار في كل الأحوال:
في شدة الحر، وفي المناطق التي تعاني من شدة الحرارة، في المناطق الشرقية، في الجوف، في صحاريها ومناطقها، التي هي في ذروة الصيف في شدة الحرارة، ومنتهى الحرارة، في مأرب، في الحديدة، كذلك في بعض مديريات محافظة حجة، في كل تهامة، في مناطق كثيرة.
مع حالة البرد الشديد في المناطق الباردة، وفي أوقات البرد.
في حالات المطر، المطر يصب، والمتظاهرون يخرجون، والسيل يتدفق في الشوارع، وهم يسيرون بينه إلى المظاهرات.
في شهر رمضان في فترة الصوم.
في مراحل القصف والتصعيد العدواني، كان أحياناً يأتي التصعيد في الليل ويخرج الناس في النهار، يأتي التصعيد أحياناً في الصباح، ويخرج الناس في الظهيرة، ثم أتى القصف والتصعيد بالتزامن مع المظاهرات، كما حصل مؤخراً في صنعاء، وعمران، والحديدة، وخرج الناس والقصف في صنعاء بجوارهم، وثبتوا، واستمروا، ولم يتزحزحوا، في مشهدٍ عظيم، من أعظم المشاهد للثبات، ورباطة الجأش، والتماسك، والشجاعة.
هذا الاستمرار في كل الأحوال، في كل الظروف، خروج أيضاً لكل الفئات: شيباً، من الطاعنين في السن، من الآباء، وشباناً، وصغاراً، وكباراً، وبتفاعل كبير، تعبِّر الاستصراحات، والهتافات، والبنادق، والخناجر، عن هذا التفاعل، وحتى ملامح الوجوه.
قدَّم هذا الخروج المليوني الشعبي المستمر رسالةً قويةً للأعداء، في حجم مستوى التفاعل الشعبي، وكان محبطاً للأعداء؛ لأن الأعداء ينظرون إلى هذه الصورة، التي تعبِّر عن تفاعل هذا الشعب، ثم يحبطون: [كيف سيتعاملون مع ذلك؟! وماذا سيفعلون؟!].
قدَّم رسالة تضامنٍ قوي مع الشعب الفلسطيني، الذي يجد شعباً يهتف معه، يصرخ له، يناصره، يحمل آلامه وآماله، يتضامن معه تضامناً صادقاً، وكان لهذا أهمية كبيرة جداً.
قدَّم هذا الخروج الأسبوعي المليوني دعماً كبيراً للعمليات العسكرية، والمسارات التصعيدية، والمراحل التصعيدية، وتكاملاً معها، وللموقف الرسمي.
مع الخروج المليوني كان هناك أيضاً الإنفاق بالمال، جهاد في سبيل الله بالنفس وبالمال مع الظروف الصعبة جداً، حتى من الفقراء، والشعب اليمني بأكثره يعيش حالةً من الظروف الصعبة، والفقر، مع الحصار الذي له فترة طويلة جداً، ومع سيطرة الأعداء على ثرواته النفطية وغيرها.
لم يتأثر الموقف الشعبي بالحملات الدعائية، بالرغم من أنَّ الأمريكي نظَّم أكبر حملة إعلامية دعائية موجَّهة لاستهداف الشعب اليمني؛ بهدف التأثير على موقفه، من تشكيك، من إثارة قضايا، من تشويه… من غير ذلك، على مدار أربعة وعشرين ساعة لا تتوقف أبداً، ولا مثيل لها، ومع ذلك فشل فشلاً ذريعاً وكاملاً في التأثير على الموقف الشعبي.
لم يتأثر الموقف اليمني بكل أنواع الضغوط: الضغوط العسكرية، الضغوط السياسية، الضغوط الاقتصادية، الضغوط حتى على الملف الإنساني، التهديدات المستمرة، واستمر وهو مستمرٌ في موقفه والأيدي على الزناد.
فيما تحقق حتى الآن، ومع ما منَّ الله به حالياً من الانتصار الكبير لإخوتنا المجاهدين في قطاع غزة، ومع دخول الاتِّفاق في مراحل التنفيذ، نحن الآن نرصد ما يتم، ونرصد مراحل تنفيذ الاتفاق، ونحن في هذه المراحل بكلها جاهزون للتصعيد، في أي مرحلةٍ يعود العدو الإسرائيلي فيها إلى التصعيد، وينكث بالاتفاق، نحن في جهوزية مستمرة، والأيدي على الزناد، وعملياتنا مرتبطة بمدى تنفيذ العدو للاتفاق.
نحن فيما تعلق بما بعد ذلك، يعني: في المرحلة الحاضرة والمستقبلة، القضية الفلسطينية قضية باقية، المسجد الأقصى والمقدسات، الشعب الفلسطيني، حقه في الحُرِّيَّة والاستقلال، تطهير وتحرير فلسطين كل فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، قضية باقية، والمسؤولية فيها مسؤوليةٌ مستمرة، علينا وعلى كل المسلمين؛ ولـذلك نحن نركز على الاستعداد للجولات الآتية، حتماً لابدَّ من جولات آتية، ما تمَّ حتى الآن هو جولة على مدى خمسة عشر شهراً، هذه جولة من المواجهة مع العدو الإسرائيلي، هناك جولات قادمة، نسعى أيضاً للاستعداد لها، مع الجهوزية المستمرة الآن للتدخل الفوري، في أي وقتٍ يعود العدو الإسرائيلي فيه إلى التصعيد، وجرائم الإبادة الجماعية، والحصار لقطاع غزة، ومنع الغذاء والدواء عن أهالي غزة، جاهزون للعودة إلى التصعيد مرةً أخرى مع إخوتنا المجاهدين في فلسطين، ومستعدون، وعاملون باستمرار للاستعداد للجولات الآتية الحتمية، في كل المجالات؛ من أجل أداءٍ أقوى من هذه الجولة- بإذن الله تعالى- على كل المستويات.
أيضا سنتصدى لكل محاولات الأعداء، ولكل أجندتهم الرامية إلى إزاحة شعبنا عن موقفه وتوجهه، بمختلف الأساليب التي يستخدمها الأعداء، الأعداء لهم أجندتهم لهذه المرحلة، التي سيتحركون فيها، سواءً ضد الشعب الفلسطيني ومجاهديه الأعزاء، أو ضد جبهات الإسناد، ومنها: جبهة اليمن.
نحن أيضاً ندعو الجميع من أبناء أمتنا الإسلامية، في المنطقة العربية وغيرها، للوقوف الصادق والجاد مع الشعب الفلسطيني؛ باعتبار ذلك مسؤوليةً على الجميع كما قلنا، تجاه المقدسات، وعلى رأسها: المسجد الأقصى الشريف، تجاه الشعب الفلسطيني، الذي هو جزءٌ من هذه الأمة، يجب عليها نصرته، والوقوف معه، ومساندته؛ حتى يحظى بكامل الاستقلال والحُرِّيَّة، وأيضاً لتطهير فلسطين كل فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي، هذه مسؤولية الجميع، على الجميع أن يستشعر هذه المسؤولية، من تجاهل؛ لا يفيده تجاهله.
إذا كان البعض نظراً للهجمة الإسرائيلية، والتدخل الأمريكي الذي كان بشراكة تامة مع العدو الإسرائيلي، في عدوان الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، كان البعض من الأنظمة وبعض النخب يائسون من إمكانية انتصار الشعب الفلسطيني، فما حدث من انتصار تاريخي هو درس للجميع، ويفترض أن يبعث الأمل في نفوس الجميع، وأن يكون حافزاً لاستشعار المسؤولية من جديد، والتحرك من الجديد من قبل الجميع.
نحن أيضاً نقول لكل الذين يحاولون- نصرةً للأمريكي والإسرائيلي- أن يشككوا بمواقفنا، أو أن يقللوا من أهميتها: الميدان مفتوحٌ أمامكم، عليكم أنتم مسؤولية، تفضلوا، اعملوا أكثر مما نعمل، أقوى مما نعمل، أفضل مما نعمل، ولن يكون موقفنا تجاهكم مثل موقفكم تجاهنا، سنكون إيجابيين جداً تجاه أي عمل جاد وصادق ومؤثِّر لنصرة الشعب الفلسطيني؛ أمَّا موقف شعبنا فتأثيراته ونتائجه واضحة، يعترف بها العدو، ترتبط بها حقائق في الواقع العسكري، والواقع الاقتصادي… وغير ذلك.
نحن في الختام قلنا لإخوتنا في فلسطين في بداية الأحداث، قلنا لهم: لستم وحدكم، الله معكم، ونحن معكم حتى النصر، وثبتنا بتوفيق الله تعالى، ثبت شعبنا العزيز بتوفيق الله تعالى مع الشعب الفلسطيني ومجاهديه حتى تحقق هذا الانتصار في غزة، ونقول لهم أيضاً من جديد: لستم وحدكم، ولن تكونوا وحدكم، الله معكم، ونحن معكم حتى النصر بتحرير فلسطين كل فلسطين، واستعادة المقدَّسات.
أَسْأَلُ اللهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ ينصرنا بنصره، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛