ربما تترنَّح الولايات المتحدة نحو تدهورٍ، قليلة هي القوى العظمي التي سبق لها أن تعافت منه. إنها تملك العديد من أدوات التعافي الوطني. لكن لم يتوافر لها بعد إدراكٌ عام بالمشكلة وطريقة حلها.
ما ذكرته أعلاه ليس اقتباسًا من إحدى نشرات حركة ماغا (حركة لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى) أو التقدميين ولكنه ملخص لدراسة جديدة أعدتها مؤسسة راند بتكليف من مكتب التقييم الشامل في البنتاجون.
دراسة راند التي يتصدرها عنوان هادئ هو «مصادر الدينامية الوطنية المتجددة» تنشر الثلاثاء (30 أبريل 2024) إنها جزء من سلسلة تقارير طلبها مكتب البنتاجون لتقييم الموقف التنافسي للولايات المتحدة فيما هي تواجه الصين الصاعدة. قُدِّمت لي نسخة منها؛ لأنني سبق أن كتبت عن هذا المشروع البحثي وعن مايكل مازار الذي يشرف عليه في مؤسسة راند.
على الرغم من أن التقرير الذي انطوت عليه الورقة كتب في معظمه بلغة علم الاجتماع الجافة إلا إنه يحوي نتائج مثيرة وغير متوقعة. وتقييمه الصريح يتّسق مع تقاليد مكتب التقييم الشامل الذي تأسس عام 1973 خلال أيام الحرب الباردة الكئيبة «لكي يفكر في اللا مُفَكّر فيه». كان المدير المؤسس للمكتب آندرو مارشال المفكِّر الذي اشتهر بآرائه المخالفة للسائد وغرابتها. ويتولى رئاسته الآن جيمس بيكر وهو ضابط متقاعد في القوات الجوية. يحظى بيكر باحترام واسع النطاق وسبق له أن عمل مستشارًا استراتيجيًا لاثنين من رؤساء هيئة الأركان المشتركة الأمريكية.
السؤال الذي طرحه التقرير هو «ما الذي قاد إلى التدهور النسبي في مكانة الولايات المتحدة»؟ الفصل الأول أوضح مشكلة أمريكا تمامًا. فموقفها التنافسي «مهدد من الداخل (بتباطؤ الإنتاجية وشيخوخة السكان والنظام السياسي الاستقطابي والبيئة المعلوماتية التي يزداد فسادها. ومهدد أيضًا من الخارج (بالتحدي المباشر والمتصاعد من الصين وانحسار خضوع عشرات البلدان النامية للنفوذ الأمريكي). يحذر التقرير من أن هذا التدهور «يتسارع». والمشكلة الجوهرية «يُنظَر إليها بطرائق مختلفة جدًا من جانب مختلف شرائح المجتمع وجماعات القادة السياسيين». فهنالك سردية يمينية عن التدهور وأخرى يسارية. وعلى الرغم من اتفاق الجانبين على أن هنالك شيئًا معطوبًا في أمريكا إلا أنهما يختلفان بشدة في أحايين كثيرة حول ما يجب عمله. ما لم يتمكن الأمريكيون من الاصطفاف على صعيد واحد لتحديد وعلاج هذه المشاكل سنخاطر بالسقوط في دوامة من التردِّي.
يشير معدُّو التقرير الى أن «التعافي من تدهور طويل الأجل وكبير شيء نادر ومن الصعب رصده في سجلات التاريخ». فكِّروا مثلا في روما أو إسبانيا تحت حكم سلالة هابسبورج أو الإمبراطوريتين العثمانية والمجرية -النمساوية أو الاتحاد السوفييتي. فعندما تفقد «القوى العظمى موقع التفوق والزعامة بسبب عوامل محلية نادرا ما تستعيد مكانتها». ما الذي يتسبب في التدهور الوطني؟ يشير مؤلفو تقرير راند إلى أسباب معهودة جدا في عام 2024. إنها «إدمان الترف والانحطاط والفشل في مواكبة المطالب التقنية والبيرقراطية المتكلِّسة وفقدان الفضائل المدنية والتمدد العسكري المفرط والنّخَب الأنانية المتحاربة والممارسات البيئية غير المستدامة». هل هذا يبدو مثل أيِّ بلد تعرفونه؟ يحاجج التقرير بأن التحدي هو «الإحياء الوطني الاستباقي». بكلمات أخرى إنه معالجة المشاكل قبل أن «تعالجنا». ويحدد استعراضه للأدبيات التاريخية والسوسيولوجية أدواتٍ جوهرية للإحياء مثل التعرف على المشكلة وتبني موقف يسعى إلى حلها بدلا من اتخاذ موقف أيديولوجي وأن تكون هنالك هياكل حوكمة جيدة وأيضًا (وربما هذا هو الأصعب منالًا) الحفاظ على التزام النخبة تجاه الصالح العام. لسوء الحظ يعتبر معدو تقرير راند في قائمة الإصلاحات هذه أداءَ الولايات المتحدة «ضعيفًا» و«مهدَّدًا» وفي أفضل الأحوال «بَيْنَ بين». وإذا نظرنا بأمانة إلى المرآة الوطنية فإننا في الغالب سنشاطرهم هذا التقييم. إذن ما المخرج؟ يقدم تقرير مؤسسة راند مثالين للدرس والاعتبار تقضي فيهما الإصلاحات العاجلة على أوضاع الفساد والفوضى والتي ربما أصبحت كارثية بخلاف ذلك. المثال الأول بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر. لقد أسَّست امبراطورية ناجحة على نحو باهر. لكن بحلول منتصف القرن التاسع عشر كانت تتفسخ في الداخل «من التكلفة البشرية والبيئية الباهظة للصناعة والفساد المتصوَّر وانعدام فعالية المؤسسات السياسية والتحكم في السياسة من قبل مجموعة صغيرة من نُخَب ملاَّك الأراضي وتصاعد اللامساواة الاقتصادية وغير ذلك». لكن بريطانيا نهضت بموجة من الإصلاحات التي اكتسحت الحياة البريطانية وأحدثت تحولا في السياسة. وشارك قادة الفكر في هذا الشغف بالإصلاح من توماس كارلايل إلى شارلس ديكنز.
المثال الثاني يمكن إيجاده في الولايات المتحدة نفسها بعد عصر الثراء الفاحش والفقر المفرط (العصر المُذهَّب) في أواخر القرن التاسع عشر. أحدث الازدهار الصناعي وقتها تحولا في أمريكا. لكنه أوجد أوضاعًا مؤذيةً من اللامساواة وأضرارًا اجتماعيةً وبيئيةً وفسادًا فادحًا.
قاد الرئيس الجمهوري ثيودور روزفلت حركة «تقدمية» أصلحت السياسة والعمل التجاري وحقوق العمل والبيئة وجففت المستنقع السياسي للفساد.
نقل معدُّو تقرير راند عن المؤرخ جاكسون ليرز قوله: إن التقدميين كان لديهم توق إلى الإحياء وسعوا إلى بثّ شيء من الحيوية العميقة في ثقافة حديثة بدت هشة وعلى وشك الانهيار». الرسالة التي تبعث بها هذه الدراسة بالغة الوضوح. فأمريكا تنزلق في منحدر يمكن أن يقضي عليها. ما يمكن أن ينقذنا هو التزام عريض، يبدأ بالنخبة، بالعمل للصالح العام والإحياء الوطني. لدينا الأدوات لذلك لكننا لا نستخدمها. وإذا لم يكن بمقدورنا إيجاد قادة جدد والاتفاق على حلول مناسبة للجميع ستأفل شمسُنا.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
«الفيتو» الأمريكي الخامس.. استمرار الإبادة
خاب أمل المتفائلين بأن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن يمكن أن تتخذ موقفاً أكثر أخلاقية وعدالة قبل أسابيع من رحيلها وتسليم السلطة إلى الرئيس دونالد ترامب.
سقط الرهان يوم أمس الأول، إذ أكدت من جديد إنها ستواصل دعمها لحرب الإبادة التي تمارسها ضد الفلسطينيين. وكان «الفيتو» الخامس الذي استخدمته في مجلس الأمن بالضد من الأعضاء ال 14 الآخرين في المجلس، الدائمين والمنتخبين، هو ضوء أخضر جديد لإسرائيل كي تمضي قدماً في حربها على الشعب الفلسطيني إلى ما لا نهاية.مشروع القرار الذي اصطدم ب «الفيتو» الأمريكي كان يطالب بوقف «فوري وغير مشروط ودائم لإطلاق النار في غزة، وانسحاب القوات الإسرائيلية، بشكل كامل، من القطاع»، كان قد تعرض لتعديلات أكثر من مرة كي تقبل به واشنطن قبل طرحه على التصويت، إلا أنها لم تتراجع رغم تصويت الدول ال 14 الباقية لصالحه.
«الفيتو» الأمريكي الجديد أثار استنكارالعديد من الدول، فقد أعربت دولة الإمارات عن أسفها لعدم تمكن مجلس الأمن من اعتماد قرار يطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وأكدت أنه « وبعد مرور أكثر من أربعمئة يوم من الوضع الكارثي في غزة، وتوسع رقعة الصراع ليطال جميع أنحاء المنطقة، فإن وقف إطلاق النار الفوري وغير المشروط والدائم قد طال انتظاره»، وأضافت «لا يمكن لمن يعاني على الأرض أن يحتمل أكثر»، واعتبر المندوب الصيني في المجلس أن الولايات المتحدة «دمرت بموقفها آمال أهالي غزة، والتاريخ لن ينسى ذلك»، كما أن الفيتو الأمريكي«جاء على الرغم من أن 44 ألف شخص قتلوا في غزة»، واتهم الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بالأسلحة، والبحث دائماً عن «مبررات» لها، فيما اتهم المندوب الروسي الولايات المتحدة بأنها المسؤولة عن قتل المدنيين في غزة.
يحمل «الفيتو» الأمريكي رسالة واضحة إلى إسرائيل بالاستمرار في حرب الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم الحرب والتجويع والعقاب الجماعي مع الإفلات من العقاب، والتمتع بالحصانة، وانتهاك القانون الدولي الإنساني، وهو الموقف الذي أشاد به المندوب الإسرائيلي الذي اعتبر أن الولايات المتحدة وقفت إلى جانب «العدالة»، في حين «خان بقية الأعضاء واجبهم».
ممنوع وقف إطلاق النار، وعلى إسرائيل المضي قدماً في تحدي الإجماع الدولي. هذا ما تريده الولايات المتحدة التي أجبرت الدول الأعضاء في المجلس على تعديل مشروع القرار مراراً، وخصوصاً التخلي عن النقطة المتعلقة ب«الفصل السابع» من ميثاق الأمم المتحدة، واستبدالها بعبارة «المسؤولية الرئيسية للمجلس في ما يتعلق بدعم الأمن والسلم العالميين» بناء على اقتراح بريطانيا، وإصرار المندوب الأمريكي على عدم المساواة بين قضية الرهائن والأسرى الفلسطينيين، وضرورة إطلاق سراح الرهائن فوراً.
الموقف الأمريكي يلغي إرادة المجتمع الدولي، ويؤكد مجدداً أن الولايات المتحدة شريكة في حرب الإبادة، خصوصاً أن الفيتو تزامن مع قرار مجلس الشيوخ الأمريكي برفض مشروع قانون تقدم به السيناتور المستقل بيرني ساندرز بوقف بيع بعض الأسلحة لإسرائيل بأكثرية 79 صوتاً مقابل 18 صوتاً.
وكان مؤيدو المشروع يأملون أن يؤدي التصويت إلى تشجيع الحكومة الإسرائيلية وإدارة الرئيس جو بايدن على بذل المزيد من الجهود لحماية المدنيين في غزة، وإيصال المساعدات الإنسانية إليهم، والتخفيف من المأساة التي يعيشونها، إلا أن أملهم خاب أيضاً.