أكبر تهديد للحرية في الغرب هو الليبرالية نفسها
تاريخ النشر: 1st, May 2024 GMT
أدّت محاولة الشرطة في بروكسل منع انعقاد المؤتمر الوطني المحافظ إلى مشهد لا يخلو من تسلية. فبحدوثه في مركز المشروع الأوروبي، أي بروكسل، بدا ذلك الهجوم الصارخ على حرية التعبير والاجتماع بمثابة تعليق لاذع على وهم الاتحاد الأوروبي بأنه يعمل من أجل تخليص القارة المظلمة وإعادة بنائها على أساس القيم الليبرالية.
كان الحاكم المحلي الذي سمح بذلك الاعتداء قد أعلن أن «اليمين المتطرف» غير مرحَّب به في المدينة. وليس من اليقيني أنه يمكن وصف المؤتمر بمصطلح «اليمين المتطرف»، ولكن في الوقت الذي أدلى فيه الحاكم بذلك الإعلان، كانت الأحزاب المنتمية يقينًا إلى اليمين المتطرف تستعد لتصبح قوةً حاسمةً في البرلمان الأوروبي بعد انتخابات يونيو. وقد استؤنف المؤتمر على أي حال بعد أن أدان رئيس الوزراء البلجيكي حظره وبعد أن أبطلت المحكمة الإدارية العليا في البلد قرار منعه.
غير أن ذلك لم يكن المثال الوحيد على زحف الاستبداد. ففي واقعة منفصلة، تم منع وزير المالية اليوناني السابق والمنظِّر السياسي اليساري والمتحدث المؤيد لفلسطين يانيس فاروفاكيس من دخول الأراضي الألمانية والتواصل مع لقاءات عامة في ألمانيا من خلال رابط فيديو. وفي كل تلك الوقائع، لزم الاتحاد الأوروبي الصمت.
قد يبدو تعطيل حرية التعبير لصالح القيم الليبرالية أمرًا ينطوي على مفارقة، لكنه ليس بالأمر المنافي للمنطق. فحرية التعبير ـ بالنسبة لغلاة الليبراليين في العصر الحديث ـ لا تكون مفيدة إلا حينما تطرح مشروعًا تقدميًا. ولكن ردَّهم في مواجهة النقد لا يعدو محاولة قمع النقاش، واللجوء إلى رفع لافتة متزايدة الانتشار هي لافتة «خطاب الكراهية» في مواجهة أي خطاب يرونه مسيئا أو يقدّرون أنه يمثل خطرًا على السلامة العامة.
وكثيرا ما يشار إلى الليبرالي المرجعي جون ستيوارت ميل عند معارضة هذا النوع من الرقابة، فقد قال حقا في كتابه «عن الحرية» (الصادر سنة 1859): إن حرية التعبير يجب أن تشمل حرية الإساءة. ولكنه عندما قال، في المقال نفسه: إن قيمة الحرية تكمن في السلامة الجماعية أو المنفعة الجماعية، حدد أن المنفعة «يجب أن تكون منفعة بالمعنى الأكبر، وترتكز على المصالح الدائمة للإنسان بوصفه كائنًا تقدميًا». فحرية التعبير تفقد أي قيمة حقيقية لو أنها تخدم أهدافًا رجعيةً.
شأن الكثير من غيره من الليبراليين في القرن التاسع عشر، كان جون ستيوارت ميل يخشى صعود الحكم الديمقراطي لاعتقاده أنه يعني التمكين للأغلبية الجاهلة والمستبدة. فعمد مرارًا وتكرارًا إلى التهوين من الجماهير البليدة الراضية بسبل العيش التقليدية.
أما في الوقت الحاضر، فإن الجماهير هي التي تحافظ على الحريات الليبرالية. إذ وصلت سيطرة نيكولا ستورجيون على السياسة الأسكتلندية إلى نهايتها بشكل مفاجئ عند تحديد الهوية الجنسية الذي رفضه أغلب الناخبين؛ لأنه يقوض حرية النساء في امتلاك مساحاتهن الآمنة. والهزيمة المدوية التي منيت بها استفتاءات ليو فارادكار على الحياة الأسرية كانت سببا في تعطيل وربما إحباط مشروع قانون وحشي لخطاب الكراهية في أيرلندا. لقد أطيح بكلا القائدين من جراء مقاومة فرض قيم تقدمية على أغلبية لا تؤمن بها. فالدفاع الأكثر فعالية في مقاومة الطغيان لا يتمثل في وجود مجموعة متزايدة من الحقوق يفسرها القضاة الناشطون بما يتفق مع الأيديولوجية الحاكمة، ولكنه يتمثل في الديمقراطية الفاعلة.
وإذن، فإن التهديد الأساسي للحرية في الغرب لا يأتي من الماركسية أو ما بعد الحداثة أو حتى من النفوذ المتزايد للأنظمة الاستبدادية في مجالس الإدارات والجامعات، ولكنه يأتي من داخل الليبرالية نفسها. فقد تحولت الليبرالية من كونها فلسفة تجريبية، منفتحة من حيث المبدأ على التعلم من خلال التجربة، إلى أن أصبحت رؤية ذاتية المرجعية تستبعد ما تحرمه من الحقائق. ومع انغلاق العقل الليبرالي، أصبح «التفكير النقدي» بمثابة تلاوة لكتاب وعظي، وتمرين هدفه إبعاد أنماط التفكير الأخرى. والهجوم الليبرالي على حرية التعبير هو ـ في العمق ـ محاولة للحصول على سلطة غير مقيدة. ومن خلال تحويل مركز اتخاذ القرار من المداولات الديمقراطية إلى الإجراءات القانونية، يهدف التقدميون إلى حماية برامجهم الخاصة جدًا من المنافسة والمساءلة. وتسييس القانون وتجريف السياسة لا يسيران إلا مقترنين.
ولعل ذروة هذه الاستراتيجية هي الحكم الذي أصدرته محكمة ستراسبورج التابعة لمجلس أوروبا في وقت سابق من شهر ابريل 2024 وأقرَّ بأن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تنص على الحق في الحماية من التأثيرات الضارة الناجمة عن الاحتباس الحراري العالمي. وليس بغريب أن يتم استبعاد التكاليف الاجتماعية والاقتصادية المترتبة على «العدالة المناخية» من الاعتبار. ولن يؤدي هذا الحكم إلا إلى تعزيز الحجة المؤيدة لانسحاب المملكة المتحدة من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ومجلس أوروبا، وهي حجة قوية بالفعل بعد عقود من التجاوزات القضائية. وإنه لأمر دال أن تتخلى الحكومة الاسكتلندية ـ بعد أقل من أسبوعين من إصدار المحكمة حكمها ـ عن هدفها تحقيق صفر الانبعاثات بحلول عام 2030.
ثمة درس هنا يجب أن يتعلمه حزب العمال. فمن وراء الصورة العامة المحافظة التي أنشأها مستشاروه لأغراض انتخابية، يبدو أن كير ستارمر وحكومة الظل التابعة له واثقون ثقة غريبة بأن التاريخ يقف في صف التقدميين أمثالهم. والقليل الذي نعرفه عما يخططون للقيام به عند وصولهم إلى السلطة ينطوي على مزيد من نقل السلطة إلى مؤسسات يقودها التكنوقراط والقانونيون. وفي الكواليس، يعمل توني بلير على ترويج نموذج للحكم تظهر فيه الديمقراطية بوصفها فكرة تالية وغير مريحة.
يثير النفوذ المستمر للتطرف الليبرالي المفرط في الأحزاب التي تزعم الانتماء إلى الوسط ردود فعل سلبية خطيرة. فها هو شبح عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في عام 2025 يلوح في الأفق وكذلك دخول مارين لوبان إلى قصر الإليزيه في عام 2027. فالسياسة تعيد تأكيد أولويتها، في حين يسير حزب العمال بكل حزم نحو الماضي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حریة التعبیر
إقرأ أيضاً:
مخاطبة الشرع للشعب السوري… مؤجّلة
الحيرة في قراءة السلوك السياسي لقائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع، ليست نابعة من قوله أموراً يصعب فهمها. بل النظرة إلى كونه قادماً من عالم الإسلام السياسي الجهادي، الذي له قواعد فكرية وفقه يفترض أن يمنعه عن غالبية الأمور التي يقولها اليوم، وعند هذه النقطة، يتحوّل السؤال إلى حقيقة التبدّل الذي طرأ على عقله خلال السنوات العشر الماضية، علماً أن خصومه يقولون إنه يعتمد مبدأ «التمكين أولاً».
وإذا كان الباحثون في العلوم السياسية يعتقدون بأن قوى الائتلاف السوري، ولا سيما الإسلامية منها، التي تعود أصولها إلى حضن «الإخوان المسلمين»، هي الأقرب إلى الراعي التركي، فإن تطورات حصلت في العراق وبلاد الشام كما في شمال أفريقيا، دلّت على أن أنقرة تتصرف وفق حسابات من نوع مختلف، تماماً كما يفعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي لم يخف رغبته في استعادة دولة الخلافة، ولكنه وجد أن الأمر ليس يسيراً كما ظن، فبقي يجلس تحت صورة كمال أتاتورك، رغم أنه يلعنه آخر كل صلاة.
هنا، لا يمكن الاعتماد على نفس آلية التحليل لفهم ما يجري في سوريا، صحيح أنه يمكن لأي مراقب أن يريح نفسه، وأن يقرأ مشكلات هذا البلد، ويعرض لحجم الأطراف المتدخّلة في أموره من دول كبرى ودول صغرى، حتى يقول إن مهمة توحيد سوريا تحت راية الحكم الجديد، سوف تكون مهمة شبه مستحيلة. لكن، هل هذا هو القدر المحتوم؟
في حالة الشرع تحديداً، قد لا يكون منطقياً الركون إلى ما يقوله هو في الإعلام فقط. كونه حتى اللحظة، لم يتحدّث مع الشعب السوري، وكل تصريحاته ومقابلاته الصحافية، هدفها التحدث مع الخارج، مع الغرب أولاً، ودول الخليج ثانياً، وإسرائيل ثالثاً، ودول الجوار رابعاً، من دون إهمال الأطراف النافذة في سوريا، بما في ذلك الدول التي قاتلها مثل إيران وروسيا وحتى العراق، وكل ما قاله الشرع حتى اللحظة، يندرج في توضيح أنه ليس هو الرجل الذي تعرفتم إليه من قبل، وهو كان صريحاً للغاية عندما أعلن انتهاء الثورة السورية في لحظة سقوط بشار الأسد، كما لم يكن كثير الضعف في مخاطبة الغرب، فهو يعرب بقوة عن الرغبة بعلاقات جيدة مع العالم، لكنه اضطر مراراً، إلى القول إنه لن يبقى منتظراً العالم حتى يصدّقه، لكونه يهتم الآن لأن تكون أموره ميسّرة مع الشعب السوري، ومع ذلك فهو حدّد جملة من الثوابت التي يبدو أنها محل توافق غالبية قوى الحكم الجديد:
أولاً: إن سوريا في وضع لا يمكّنها من مخاصمة أحد، وإنها أمام تحديات داخلية، توجب عليها مصادقة الجميع، من أجل ضمان استقرارها ومن أجل الحصول على بيئة صديقة لورشة الإعمار.
ثانياً: إن سوريا تعترف بإسرائيل كدولة، وإن لم يكن الوقت قد آن لبناء علاقة معها. لكنّ الشرع تحدّث بهدوء عن الاتفاقات بين الدولة السورية وإسرائيل، وعن أن الأمم المتحدة هي الناظم للعلاقات الحدودية، وأضاف إلى ذلك، أن سوريا الجديدة لا تفكر في محاربة إسرائيل، بل قال إن من كان يزعج إسرائيل تمّ ترحيله من سوريا. وأشار بالاسم إلى إيران وحزب الله، علماً أنه بادر إلى إبلاغ الفلسطينيين بضرورة تسليم سلاحهم.
ثالثاً: لم يذكر الشرع في أي تصريح على ما يجري في قطاع غزة، ولا هو أشار إلى العدوان على لبنان، وهو لم يأت على ذكر حركة حماس أو المقاومة الفلسطينية، كما لم يعلن وقوفه إلى جانب مقاومي إسرائيل، لا في فلسطين ولا خارجها، وكلامه الذي ردّده في وقت سابق على سقوط النظام، عن القدس والمسجد الأقصى غاب تماماً. وهو يتصرف كمن لا يتوقّع أن يحاسبه أحد من السوريين على ذلك، علماً أن قوى المقاومة لم تتوجه إليه بالعتاب أصلاً.
رابعاً: قال الشرع صراحة إنه يريد أن تكون العلاقة مع الغرب واقعية، وإنه يطالب الغرب برفع العقوبات عنه وعن سوريا، وإنه مستعد للأخذ في الاعتبار الكلام العام للدول الغربية عن حقوق الأفراد والأقليات (وهو أصلاً لا يصدّق بأنها محل اهتمام الحكومات الغربية)، وقال إن سوريا الجديدة، لن تكون مصدر إزعاج لأحد في العالم، فلا تصدير للثورة، ولا حضن للإرهاب كما يراه الغرب، ولا مأوى لأعداء إسرائيل، وفوق ذلك، هو أعلن حل النظام الاشتراكي والقيود التي كانت موجودة (ولو نظرياً) في ظل النظام السابق، وأعلن استعداده (وفق معلومات عن اجتماعات عُقدت بعيداً عن الأضواء مع مسؤولين في حكومته) لفتح الباب أمام استثمارات أجنبية، ولو كان من شأنها الدخول في عملية الخصخصة.
خامساً: وعد الشرع العالم، بأنه سيفسح المجال أمام آليات لكي يختار الشعب السوري ممثّليه إلى الحكم، متحدّثاً بصورة عامة عن دستور جديد وعن قوانين جديدة، وأبقى مسألة قواعد الشريعة الإسلامية في حيز من الغموض، ليس لأنه لا يريد إغضاب الغرب إن تحدّث عن ضرورتها، بل لأن «الوصفة التركية» تتيح له، أن يتزعم حزباً إسلامياً، ويتولى حكم دولة مدنية، ويقدر على اجتراح الوصفات القانونية التي تتيح تمرير «قواعد تشريع تستند إلى روح النص الإسلامي» دون إثارة حفيظة من يعتبر نفسه غير مُلزم بذلك.
كل ما سبق، يعيدنا إلى السؤال المركزي: هل نحن أمام نموذج سوري من حزب العدالة التركية؟
الأكيد، أنه يوجد اليوم استحقاق مركزي أمام الشرع. والحديث هنا، ليس عن طريقة تشكيل لجنة الحوار الوطني، أو نوع التسويات التي تسمح لأطياف المعارضة السورية بالتمثّل في مؤسسات الحكم، بل يتعلق بمهمة مركزية لأي مشروع يراد له أن يعيش طويلاً في بلد مثل سوريا. والمقصود هنا، آلية بناء المؤسسات العسكرية والأمنية في سوريا. وشعار «توحيد السلاح بيد الدولة»، سبق للشرع أن فرضه بالحديد والنار في مناطق حكم «هيئة تحرير الشام» في إدلب، عندما خاض معركة «توحيد البندقية الجهادية» وأطاح بكل من حاول البقاء خارج سلطته، وهو ما يريد اليوم تحقيقه، ولذلك، فهو يحتاج إلى تعاون خارجي لا يقف عند حدود تركيا وقطر، بل يحتاج إلى تعاون أمريكي أساسي، يتيح له، معالجة «المسألة الكردية» من جهة، ويريد من واشنطن، منع إسرائيل من تحريض الدروز على إقامة حكم ذاتي أو المطالبة به، وهو لا يريد الدخول في صدام مع الأردن والإمارات والسعودية، التي يمكنها تشجيع الفصائل المحسوبة عليها، سواء في الجنوب السوري أو بعض مناطق البادية أو الشمال الشرقي، إضافة إلى العشائر القريبة من الحدود مع العراق، وهي فصائل كثيرة، لكنّ الشرع لا يعتقد بأنها قادرة على الائتلاف معاً في مواجهته. ومع ذلك، فهو سيبدأ من نقطة أولية تخص مقاتلي «الهيئة» ومقاتلي «الجيش الوطني»، لأجل تشكيل نواة قوة عسكرية قادرة على إجبار تلك الفصائل على ترك السلاح طوعاً أو غصباً إن لزم الأمر.
كل ما سبق، يجعل من الصعب التكهن بمآلات الأمور، لكن قد لا يكون من الحكمة، الجزم مسبقاً بأن الصدام حاصل حتماً، لأن البناء على هذه الفرضية قد يخلق سياسات من شأنها تعقيد المشهد السوري أكثر مما هو عليه الآن، مع العلم، أنه يجب على محبّي أو مبغضي الشرع، الإقرار بأن الغالبية السورية، تقف اليوم إلى جانب فكرته عن الحياد، والسعي إلى إعادة ورشة الحياة في بلد لم يبق منه إلا بعض هياكل سلطة لم يكن بمقدور أحد جعلها تعيش أكثر مما عاشت.