منذ بداية الحرب الصهيونية على غزة، وأنا أكتفي - لأسباب صحية - بمتابعة محدودة لعدد قليل من وسائل الإعلام العربية والعالمية التي أثق في صدقها وموضوعية معالجتها للحرب، وتتميز بعرض وجهتي النظر وعدم الانحياز لطرف على حساب آخر، وينطلق خطابها من فهم جيد لتاريخ وسياق وآليات الصراع غير المتكافئ، من حيث القوة العسكرية، بين الجيش الصهيوني المدجج بأحدث وسائل الدمار، والمدعوم بجيوش ومصانع أسلحة الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، وبين كتائب المقاومة التي تعمل بإمكانات ذاتية ضعيفة دون طائرات أو دبابات وبأسلحة تم تصنيعها محليًا في الورش والمعامل.
طوال فترة الحرب لم أستطع أن أكتب كلمة واحدة عنها، رغم الاستفزازات العديدة التي أتعرض لها يوميًا وأنا أشاهد آلة القتل الإسرائيلية الهمجية التي لا تتوقف، وحجم الدمار الهائل وغير المسبوق الذي تحدثه قوات العدو الصهيوني كل ساعة تقريبًا ليس فقط في غزة، ولكن أيضا في الضفة الغربية.
في اليومين الأخيرين لم أستطع المقاومة بسبب تصريحات نسبت لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية في مداخلة له أمام الاجتماع الخاص لمنتدى الاقتصاد العالمي في العاصمة السعودية الرياض الأحد الفائت، وتأكيده على حق إسرائيل الكامل بعد كل ما فعلته في غزة بالأمن، وكذلك حرص وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في اجتماعه مع نظرائه من دول مجلس التعاون الخليجي في العاصمة السعودية، الرياض قبل أمس الاثنين على تكرار مزاعمه الخاطئة بأن حركة المقاومة الإسلامية «حماس» هي التي تقف بين الشعب الفلسطيني وبين وقف إطلاق النار.
هذه التصريحات وغيرها تجد طريقًا سريعًا ومباشرًا للنشر في الإعلام العالمي والعربي، والاحتفاء بها رغم أن الحقيقة غير ذلك، ومن يصرح بمثل هذه التصريحات لا يشغله كثيرًا أمن الفلسطينيين الذين يتعرضون يوميًا للقتل على أيدي الجيش وقطعان المستوطنين الصهاينة، ووزير الخارجية الأمريكي الذي قال في أول زيارة له إلى إسرائيل بعد السابع من أكتوبر إنه جاء إلى إسرائيل كيهودي في المقام الأول، يجب عدم الثقة فيما يقوله، ومع ذلك يهلل الإعلام الدولي وتابعه الإعلام العربي لمثل هذه التصريحات المفخخة دون الأخذ في الاعتبار أن المقاومة رغم قلة الإمكانات أذلت العدو الهمجي.
لقد كشفت الحرب الإسرائيلية الغاشمة على غزة، ضمن ما كشفت غياب ما اسميه العدالة الإعلامية العالمية في تغطية تلك الحرب وتحليل سيرها وآثارها الكارثية على منطقة الشرق الأوسط وعلى العالم كله، فمع تقديرنا للتحولات الملموسة في بعض قطاعات الإعلام الدولي غير الغربي، فإن التيار الإعلامي العام في العالم الذي تقوده الولايات المتحدة والقوى الأوروبية التقليدية ما زال يمارس التضليل الإعلامي في تناوله للحرب وأسبابها ومآلاتها الجيوسياسية، وما زالت لديه القدرة على قلب الحقائق، وتوجيه اللوم للضحية دون أن يجرح مشاعر المعتدي الصهيوني الذي أحال شوارع غزة إلى ركام، وقتل نحو 35 ألف إنسان نصفهم تقريبا من الأطفال.
العدالة الإعلامية لم تتحقق في الحرب على غزة مثلها مثل العدالة القانونية التي ما زالت تراوح مكانها في محكمة العدل الدولية التي تماطل هي الأخرى في إصدار إدانة واضحة لآلة القتل والدمار الصهيونية العاتية، ولولا الزخم الذي يحدثه مستخدمون أفراد على شبكات التواصل الاجتماعي وبضع وسائل إعلام ذات توجه عروبي لما سمعنا عن أنشطة المقاومة الفلسطينية وانتصاراتها على واحد من أقوى جيوش العالم وأكثرها عنفًا ودموية في التاريخ المعاصر.
قد يكون من الطبيعي أن تنحاز وسائل الإعلام الأمريكية والغربية عمومًا للعدو الإسرائيلي وتحمل خطاباته المزيفة إلى العالم، ولكن الغريب أن هناك وسائل إعلام عربية عديدة ما زالت تسير على النهج الغربي نفسه في تحميل المقاومة مسؤولية ما حدث في غزة من قتل وتدمير للبنية التحتية والمنازل والتهجير وتدمير المنشآت الصحية وغياب الأمن الغذائي والإنساني. وما زالت هناك صحف ومحطات تلفزيونية عربية عديدة تحتفي بزيارات الصهاينة من الأمريكيين والإسرائيليين وتفرد المساحات الورقية والزمنية للتصريحات العدوانية التي تروج للخطاب الصهيوني نحو المقاومة ونحو الفلسطينيين بوجه عام، ولا تكتفي تلك الصحف والمحطات بذلك بل إنها تشارك في أجندة تضليل الرأي العام العربي، في محاولة يائسة لدفعه إلى تبني الرؤية الصهيونية للصراع التي يعبّر عنها ساسة عرب أيضا.
منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب لجأت الدولة الصهيونية إلى مخزونها السياسي والإعلامي الاستراتيجي، وبدأت في حرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة، توافد عليها رؤساء ووزراء خارجية ومسؤولو المخابرات والدفاع في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الاستعمارية القديمة للإعلان عن دعمهم لها، وفتحوا خزائن أموالهم وأسلحتهم دون شرط أو قيد، بينما لم يجرؤ أحد على زيارة غزة حتى بعد أن سوتها النيران الصهيونية بالأرض، وبعد أن قضت على الأخضر واليابس فيها، وبعد أن قتلت من أهلها عشرات الآلاف. عدم العدالة السياسية ينتج عنها بالضرورة عدم عدالة إعلامية كان من أبرز معالمها الترويج الإعلامي العالمي للأكاذيب الصهيونية عن قتل المقاومة الأطفال الإسرائيليين، واغتصاب الفتيات، وهي التهم التي ثبت عدم صحتها فيما بعد، ومع ذلك ما زالت الآلة الإعلامية الصهيونية، وبالتالي الغربية تستخدم التهم نفسها بين الحين والآخر.ورغم محاولة بعض وسائل الإعلام العالمية إضفاء قدر ضئيل من الموضوعية في تغطية الحرب، فإن تحليل مضمون تلك الوسائل يكشف عن تفاوت رهيب بين الطرف المستعلي في الأرض (الصهاينة)، وبين الطرف المظلوم إعلاميا سواء على مستوى المساحات أو المواقف والاتجاهات المؤيدة والمعارضة التي يتم التعبير عنها.
إن العدالة الإعلامية التي لا تجد مناصرين كثرًا في العالم في الوقت الحالي يمكن أن تستفيد من ثورة الجامعات الأمريكية والأوروبية المؤيدة لغزة وفلسطين والمقاومة، لتشكيل حركة شعبية عالمية قوية من أجل إعلام أكثر عدلًا خاصة في العصر الرقمي. لم تعد تلك العدالة تتعلق فقط بتعزيز حقوق الاتصال والوصول إلى وسائل الإعلام من جانب الأقليات والمجتمعات وتحقيق التوازن في التدفق الإعلامي بين دول الشمال ودول الجنوب، ولكن أيضا بالحق في الحصول على تغطية عادلة ومتوازنة للأحداث والقضايا العالمية خاصة النزاعات والحروب. من حق المقاومين في غزة أن يحصلوا على قدرٍ متساوٍ من التغطية الإعلامية في وسائل الإعلام العالمية ومنصات الإعلام الرقمي يعادل أو على الأقل يقترب مما يحصل عليه الكيان الصهيوني، ومن حق الأسرى الفلسطينيين وعددهم بالآلاف أن يحصلوا على قدرٍ من الاهتمام يوازي اهتمام وسائل الإعلام العالمية بالأسرى الصهاينة الذين يعدوا بالمئات.لا يجب أن نكرر في القرن الحادي والعشرين، ما كنا نقوله في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين عن الحاجة إلى نظام إعلامي عالمي جديد عادل ومتوازن، فقد مضى هذا الزمن الذي كان فيه لدول عدم الانحياز كلمة وموقف. إن كل ما نستطيع أن نطلبه الآن في ظل سطوة منصات الإعلام العالمي الغربية أن يحقق النظام الإعلامي العالمي القائم قدرا من العدالة بين الأمم والشعوب، وألا تتم تغطية الأحداث الكبرى مثل الحرب في غزة من وجهة النظر الصهيونية فقط سواء في وسائل الإعلام التقليدية أو المنصات الرقمية الجديدة، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي التي تسيطر عليها وتوجّه سياستها في نشر وحجب الملصقات والآراء شركات التقنية الأمريكية الكبرى.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإعلام العالمی وسائل الإعلام ما زالت فی غزة
إقرأ أيضاً:
اصطفاء اليمن ورسائلُ العدالة الإلهية
د. شعفل علي عمير
إن اصطفاء اليمنيين لهذا الدور ليس مُجَـرّدَ صدفة تاريخية، بل هو تعبيرٌ عن عقيدة راسخة ووفاءٍ متجذر تجاه قضايا الحق والعدل، ليبقى اليمنيون عنوانًا للكرامة والمساندة في كُـلّ المواقف والمواضع، وبذلك يستمر اليمنيون في تقديم نهجٍ ملهم للأجيال القادمة بأن الدفاعَ عن الحق ونصرة المظلومين واجبٌ لا يتزعزعُ أمام أية تحديات؛ لعلمهم بأن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية أرض محتلّة أَو شعبٍ مشرَّد، بل هي قضيةٌ دينيةٌ وإنسانيةٌ عادلةٌ تمثل الدفاع عن الحرية والحياة الكريمة لملايين الفلسطينيين.
ومن هنا، يظهر موقف اليمنيين صُلبًا ومتماسكًا، حَيثُ يدعمون الفلسطينيين بصوت وحزم، مستندين إلى عقيدة راسخة بأن الواجب الديني يفرض عليهم هذا الموقف وإيمانهم عميق بعدالة القضية وواحدية المصير.
وهنا يبعث اليمن رسائل شبه يومية إلى الكيان الصهيوني، وإلى أهلنا في فلسطين الرسالة العميقة التي تحملها الصواريخ اليمنية التي تنادي بوحدة الصف العربي والإسلامي، وتدعو إلى التركيز على العدوّ المشترك، الذي طالما حاول تقسيم وتمزيق وحدة الأُمَّــة.
إن هذه اللحظات التي تنطلق فيها الرسائل اليمنية تعيد إحياء الأمل في نفوس سكان غزة، وتؤكّـد لهم أنهم ليسوا وحدهم في هذه المعركة، بل هناك من يقف معهم قلبًا وقالبًا، حاملًا راية الدفاع عن حقوقهم وكرامتهم وتقدم تلك الصواريخ رسالة إلى الكيان الصهيوني بأن فلسطين وغزة تعد جزءًا من مكون الأُمَّــة الديني والعروبي والإنساني، وأنه مهما تواطأ الخونة والمطبِّعون فَــإنَّ هناك من أمتنا من اصطفاه الله لنصرة المستضعفين.
وتبقى صواريخُ اليمن رمزًا للصمود والتحدي، ورسالة تضامنية تصل إلى قلوب سكان غزة، مفادها: “نحن معكم”، هذه الرسالة تحملُ في طياتها ثقة لا حدودَ لها بأن الحَقَّ في نهاية المطاف سينتصر، وأن العدالةَ ستتحقّقُ مهما طال الزمن، وأن الظلم لن يستمرَّ إلى الأبد! التاريخُ يؤكّـدُ أن كُـلّ إمبراطورية ظلم قامت على إراقة دماء الأبرياء وانتهاك حقوقهم لها نهاية، والصهيونية لن تكون استثناء في هذه المعادلة الحتمية.
إن التغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة، وارتفاع الوعي العالمي بحقوق الشعب الفلسطيني، قد بدأت بالفعل في تقويض أُسُسِ هذا النظام الاستعماري القائم على القهر والإرهاب.
في الختام، لا يمكن تفسيرُ هذا الإصرار اليمني على نصرة الحق والدفاع عن المستضعفين إلا بكونه جُزءًا من إرادَة الله سبحانه وتعالى في الاصطفاء، ولعلَّ المواقفَ التاريخية والحالية اليمنية تشهدُ بأن هذا الشعبَ بكل فئاته يظل منارة للحق وصوتًا للعدل.