بعد شكاوى ومذكرات رسمية، عادت السجالات بين السودان والإمارات إلى أروقة مجلس الأمن الدولي مجددا، بينما اتهم السودان بريطانيا بأنها "غيرت أجندة جلسة مغلقة مخصصة لمناقشة شكواه ضد أبوظبي، إلى مناقشة الأوضاع السودانية العامة، وأوضاع مدينة الفاشر"، وفق بيان للخارجية السودانية.

ويتصاعد التوتر منذ أشهر بين الجيش السوداني الذي يتولى السلطة عمليا في البلاد، وبين الإمارات العربية المتحدة.

ويتهم الجيش أبوظبي بدعم قوات الدعم السريع، في النزاع الذي اندلع في أبريل 2023، وهو ما تنفيه الإمارات.

وتقدم السودان بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي للبحث في "عدوان الإمارات على الشعب السوداني" ومساندتها قوات الدعم السريع في الحرب التي تخوضها مع الجيش، بحسب ما قال مسؤول دبلوماسي سوداني لوكالة فرانس برس.

وكانت صحيفة "تايمز" البريطانية نشرت، الأحد، قبل يوم من الجلسة المغلقة لمجلس الأمن، أن "الإمارات أوقفت جميع الاجتماعات الوزارية مع بريطانيا مؤقتاً، بسبب غضبها من عدم تحرك المملكة المتحدة إزاء الاتهامات السودانية لها".

ولم يصدر تعليق من بريطانيا على بيان وزارة الخارجية السودانية، كما لم تعلق الإمارات رسميا عليه.

لهجة جديدة

يرى الصحفي المعتمد لدى الاتحاد الأوروبي، حسين الوائلي، أن "العلاقة بين بريطانيا والإمارات ليست على ما يرام بسبب تباين المواقف في عدد من القضايا الإقليمية والدولية".

وقال الوائلي لموقع الحرة، إن "العلاقة بين بريطانيا والإمارات بها قدر من التوتر، بسبب تباين المواقف في منطقة الساحل والصحراء إذ يوجد تحالف إماراتي إسرائيلي مغربي ضد المصالح البريطانية، بجانب التقارب الإماراتي الروسي الذي أضاف حالة من عدم الثقة بين الإمارات وبريطانيا".

وأضاف "لكن مع ذلك فإن المصالح الاستثمارية المشتركة تؤثر على العلاقات، وتلعب دورا في المعادلة السياسية، وفي التنسيق بالمحافل الدولية". 

"شريكة في الفظائع".. السودان يتهم بريطانيا بعد ما حدث لـ"جلسة الإمارات" اتهمت وزارة الخارجية السودانية، الثلاثاء، بريطانيا بتغيير صيغة وطبيعة جلسة المشاورات المغلقة التي عقدها مجلس الأمن الدولي عن السودان الاثنين، وأشارت إلى أن "الجلسة ناقشت الأوضاع السودانية العامة، بعد أن كانت مخصصة لمناقشة شكوى السودان ضد الإمارات".

صعّدت الخارجية السودانية لهجتها الناقدة إلى بريطانيا، وقالت في بيانها، إنها "تأسف أن تتنكر بريطانيا لواجبها الأخلاقي والسياسي، بصفتها عضوا دائما بمجلس الأمن، وبحكم ماضيها الاستعماري في السودان، الذي لا تزال آثاره غير الحميدة مستمرة، وذلك مقابل مصالحها التجارية مع دولة الإمارات". 

وتابع البيان "حماية بريطانيا لأكبر ممولي الحرب في السودان، مقرونة مع ما كشفته الصحافة البريطانية من أن الحكومة البريطانية أجرت لقاءات سرية مع مليشيا الدعم السريع، تجعلها شريكة في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها".

وبعد أن وصفها مندوب السودان في الأمم المتحدة بـ"الراعي الإقليمي" لتمرد قوات الدعم السريع، دفعت الإمارات برد رسمي إلى مجلس الأمن الدولي، في 22 أبريل، رفضت فيه ما سمتها "الادعاءات الزائفة" عن اتهامها بتغذية الصراع في السودان.

وقال مندوب الإمارات لدى الأمم المتحدة، محمد أبوشهاب، في الرد الذي سلمه لمجلس الأمن، إن "نشر المعلومات المضللة، والروايات الزائفة، بعد مرور عام على الصراع، يرمي إلى التهرب من المسؤولية، وتقويض الجهود الدولية الرامية إلى معالجة الأزمة الإنسانية في السودان".

وأضاف أن "الإمارات ملتزمة بدعم الحل السلمي للصراع في السودان، وبدعم أية عملية تهدف إلى وضع السودان على المسار السياسي، للتوصل إلى تسوية دائمة، وتحقيق توافق وطني لتشكيل حكومة بقيادة مدنية".

وبدوره، يرى المختص في شأن الاتحاد الأوروبي، وائل العلي، أن "موقف الحكومة السودانية بمواجهة الإمارات، وتصعيدها الكلامي تجاه بريطانيا، يدلل على أن عناصر جماعة الإخوان المسلمين، عادوا للسيطرة على قرار وزارة الخارجية السودانية".

وقال العلي لموقع الحرة، إن "بريطانيا لها موقف ثابت عن ضرورة إنهاء الحرب وتشكيل حكومة مدنية لاستكمال الفترة الانتقالية، وهذا الموقف يتعارض مع توجهات قادة الجيش السوداني، وعناصر نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذين يؤثرون حاليا في القرارات المصيرية في السودان".

وأشار المختص في شأن الاتحاد الأوروبي، إلى أن "بريطانيا والولايات المتحدة وعدد من قادة المجتمع الدولي يشددون على ضرورة إيقاف أي دعم خارجي يصل لطرفي الصراع في السودان، سواء من الإمارات، أو من إيران أو من غيرها".

بعد الرد الإماراتي.. ماذا يعني التصعيد بين الخرطوم وأبوظبي في مجلس الأمن؟ بعد أن وصفها مندوب السودان في الأمم المتحدة، بـ"الراعي الإقليمي" لتمرد قوات الدعم السريع، دفعت الإمارات برد رسمي إلى مجلس الأمن الدولي، رفضت فيه ما اسمتها "الادعاءات الزائفة" عن اتهامها بتغذية الصراع في السودان.

كانت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، قالت الاثنين، إن الولايات المتحدة "تناشد جميع الدول، بما في ذلك الإمارات، التوقف عن تقديم الدعم لطرفي الحرب في السودان"، محذرة من أن "أزمة بأبعاد هائلة تتشكل" حاليا.

وقالت غرينفيلد للصحفيين: "نعلم أن كلا الجانبين يتلقيان الدعم، سواء بالأسلحة أو غيرها، لتعزيز جهودهما لمواصلة تدمير السودان. نعم، تواصلنا في هذا الصدد مع الأطراف، بمن فيهم زملاؤنا من الإمارات".

مصالح مشتركة

ويشير الباحث في الشؤون الأوروبية، إبراهيم إمام، إلى أن "ما ذكرته صحيفة التايمز البريطانية عن إيقاف الإمارات اجتماعات وزارية بين البلدين، يندرج في خانة أوراق الضغط".

وقال إمام لموقع الحرة، إن "الإمارت واحدة من أكبر المراكز الاستثمارية والاقتصادية في العالم، ولذلك تحرص كثير من الدول على ترقية العلاقات التجارية معها".

وأشار إلى أن "القدرة المالية الكبيرة لهذه الدولة الخليجية أثرت وتؤثر في كثير من القرارات المشتركة مع بعض الدول، وحجبت كثيرا من القرارات التي كان من المتوقع صدورها ضد الإمارات".

ولفت الباحث في الشؤون الأوروبية إلى أن "التعديل في أجندة الجلسة المغلقة التي جرت الاثنين، لا يعني أن مجلس الأمن سيهمل اتهام السودان للإمارات".

وأضاف "عاجلا أم آجلا ستتم مناقشة هذا الموضوع، لكن لا أحد يضمن الشكل النهائي لبيان أو موقف مجلس الأمن المتعلق بالاتهام، إذ ربما تلعب المصالح دورا في الصياغة النهائية".

وكتب أستاذ العلوم السياسية الإماراتي، عبد الخالق عبد الله، في منصة (إكس): "الإمارات غاضبة من بريطانيا، ومن عدم تقديرها لصداقة ومصداقية الإمارات التي قررت إلغاء 4 اجتماعات وزارية مؤخرا، وتحذر أن العلاقات بين البلدين أمام مفترق طرق وتشهد أسوأ ايامها". 

وأضاف "على بريطانيا أن لا تهون ولا تستهين بغضب الإمارات، وأن تتعلم الدرس من غضب الإمارات سابقا من كندا وإيطاليا".

#الإمارات غاضبة من بريطانيا ومن عدم تقديرها لصداقة ومصداقية الإمارات التي قررت الغاء 4 اجتماعات وزارية مؤخرا وتحذر ان العلاقات بين البلدين امام مفترق طرق وتشهد أسوأ ايامها. على بريطانيا ان لا تهون ولا تستهين بغضب الإمارات وان تتعلم الدرس من غضب الإمارات سابقا من كندا وايطاليا pic.twitter.com/KJ0rhuczDg

— Abdulkhaleq Abdulla (@Abdulkhaleq_UAE) April 29, 2024

في المقابل، يشير العلي إلى أن "المجتمع الدولي يناقش الأزمات وفق رؤيته وما يعتقد أنه ضروري لحماية المدنيين".

وأضاف "الحاجة العاجلة في السودان الآن هي إيقاف هجوم الدعم السريع المتوقع على مدينة الفاشر، تجنبا لحدوث كارثة إنسانية في إقليم دارفور المضطرب، وربما لذلك ناقشت جلسة مجلس الأمن المغلقة هذه القضية، بدلا عن شكوى السودان".

وتابع قائلا "يضغط معظم قادة المجتمع الدولي الفاعلين، وبينهم بريطانيا، لوقف الدعم الخارجي لطرفي الحرب في السودان، وصولا إلى إنهاء الحرب، وتشكيل حكومة بقيادة مدنية، وهذا موقفهم المعلن".

وكان بيان الخارجية السودانية أشار إلى أن "الأعضاء الذين شاركوا في جلسة مجلس الأمن الاثنين، طالبوا بأن تتوقف مليشيا الدعم السريع عن أعمالها العدائية حول الفاشر، وأن تتعهد بعدم مهاجمة أي مدينة، ودعوا الأطراف الإقليمية للالتزام بحظر الأسلحة على دارفور بموجب القرار 1591".

وأضاف البيان "نادى الأعضاء باستئناف مفاوضات جدة بالسعودية، وضرورة تسهيل وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، واحترام القانون الإنساني الدولي، دون أن يخرج الاجتماع بقرارات، واكتفى بالبيان الصادر عنه يوم 27 أبريل".

وعبّرت الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، الأسبوع الماضي عن قلقها من هجوم وشيك لقوات الدعم السريع على مدينة الفاشر.

ويقول سكان ووكالات إغاثة ومحللون، إن القتال من أجل السيطرة على الفاشر، وهي العاصمة التاريخية لمنطقة دارفور، قد يطول ويؤجج التوترات العرقية التي ظهرت على السطح خلال الصراع الذي دار في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في المنطقة، وفق وكالة رويترز.

وقالت الأمم المتحدة إن ما يقرب من 25 مليون شخص، أي نصف سكان السودان، يحتاجون إلى مساعدات. وتسببت الحرب في نزوح نحو 8 ملايين شخص.

ودعت هيئة عالمية معنية بالأمن الغذائي، تدعمها الأمم المتحدة، إلى اتخاذ إجراءات فورية "لمنع وفيات على نطاق واسع وانهيار تام لسبل العيش وتجنب أزمة جوع كارثية في السودان".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: الخارجیة السودانیة قوات الدعم السریع مجلس الأمن الدولی الأمم المتحدة فی السودان الحرب فی من عدم إلى أن

إقرأ أيضاً:

لا النافية للرق: الدبلوماسية السودانية وسماحة جمل الطين

عبد الله علي إبراهيم

(نص من كتابي أوراق إنقاذية: من يخاف الحركة الإسلامية. وهو عن تجربتي عضوا بمؤتمر "الحوار الوطني من أجل السلام" الذي عقدته حكومة الإنقاذ في شتاء 1989. ويحكي عن عرض لي بالسفارة عن السودان في 1991)
طلبني سكرتير السيد العقيد محمد الأمين خليفة عضو مجلس ثورة الإنقاذ الوطني في أوائل 1991 ليقول لي إن العقيد يرغب في لقائي بمكتبه بمبنى البرلمان بأمدرمان. كنت تعرَّفت على العقيد خليفة خلال مشاركتي في المؤتمر الوطني من أجل السلام الذي كلف برئاسته، وقد وجدته دمثاً، حيياً وباله طويل. وهي الصفات التي حببت الرجل إلى فأمطرته باحتجاجاتي المتكررة أشكو فيها ضيماً خاصاً أو عاماً ضمن جماعة من أخيار أعضاء المؤتمر الوطني للسلام.
كنت شكوت له من عادة الحكومة مناداتنا بالإذاعة إلى المشاركة في هذا الأمر أو ذاك من غير استئذان لائق. كما احتججت مع نفر صالح من أعضاء المؤتمر على الحكم بإعدام الدكتور مأمون محمد حسين الذي قاد إضراب نقابة الأطباء ضد الحكومة وهي في عامها الأول لا تزال. وكان من بين النفر الصالح المحتج المرحوم الدكتور عمر بليل؛ مدير جامعة الخرطوم السابق، والتيجاني الكارب المحامي، وعبد الله إدريس الأستاذ بجامعة الخرطوم، والدكتور سيد حريز الأستاذ بنفس الجامعة، والصديق الإسلامي المعروف الدكتور الطيب زين العابدين، وقد أغنانا الطيب عن التطويل في لقائنا مع العقيد خليفة حيث قال له إن الإسلام لا يقتل النقابيين وكفى. وكان العقيد خليفة خلال لقائنا رابط الجأش حفياً مستمعاً.
حسبت أن العقيد إنما يطلبني عن طريق سكرتيره لنقاش مسألة متبقية عن احتجاج أو اقتراح. وكنت قد التمست منه قبل أيام فقط أن يلتقي وفداً من الأساتذة المشرفين على مشروع البحر الأحمر البحثي المشترك بين جامعة بيرغن في النرويج وجامعة الخرطوم. فقد اتفق لمؤتمر أخير لأهل المشروع أن علائم بإقليم البحر الأحمر تشير إلى مجاعة وشيكة. وقد رغبت أن يحمل زملائي الباحثون هذه العلائم والمواقف إلى العقيد خليفة الذي كان وقتها مشرفاً سياسياً على إقليم البحر الأحمر، وقبل العقيد خليفة بحفاوة أن ينظم اللقاء الذي اعتذر عنه الأساتذة.
دارت جملة من المسائل برأسي وأنا في طريقي إلى لقاء العقيد. وحين جلست إليه سألني إن كنت أرغب في التعيين دبلوماسياً بوزارة الخارجية. أخذني العرض لحينٍ لأنني لم أتوقع أن يكون مدار حديثنا في ذلك اليوم. ويبدو أن العقيد هو الذي فوجئ بعد ذلك، وربما شك في أنني أسمع العرض لأول مرة.. ومنه بالتحديد. ومنشأ مفاجأته، في حدسي، ليس لأنني رفضت (وش)، وهي (الوجه)، أي ابتداء، ما يسيل له لعاب الصفوة الجامعية الطموحة من أمثالي، بل لأنني رتبت أسباب رفضي بقوة تتعذر على من سمع العرض بالتعيين لأول مرة.
حين قررت أن استجيب لنداء نظام البشير بالمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني من أجل السلام 1989، في ملابسات مقاطعة مدججة من القبائل اليسارية التي أنا منها و (باري) (أي بريء) منها، في عبارة سودانية جيدة، كنت قد وطنت نفسي ألا يتسرّب إلى من فضل النظام وعطاياه شيء. قلت في نفسي (الغني الله). وكان نفراً من زملائي في المؤتمر قد بدأ بالفعل ينتقل من قاعة المؤتمر إلى دواوين الحكومة.
وكنت رفضت حتى حضور اليوم الختامي للمؤتمر حتى لا اتسلم نوط جدارة أو جوازاً خاصاً. وليست هذه بطولة وإنما اتعاظ. فالذي رأى كيف تهاوى نخل الصفوة السامق بإغراءات الرئيس نميري. وبمنصبي الوزير والسفير خاصة، يعلم أن ظل الدولة الوريف غالب ومهين وزائل. وقد شاع في معنى هذه الحكمة أن النميري قد فرغ من تأليف كتاب سماه (رجال تحت حذائي). وأولئك الرجال هم رهط الصفوة التي دجنها بالعطايا وأهانها بالفصل العشوائي المكتوم عن طريق نشرة اخبار ما بعد الظهر. وقد راجت آنذاك عبارة أن فلاناً لم يقبل بالمنصب عجباً وخدمة للوطن، وإنما ليضمنه في ترجمته الذاتية ليسع به يروج لكفاءته في التعيين لمناصب الأمم المتحدة ودوائرها البشعة.
جاءني عرض السفارة وكنت ألقيت قبل أسبوع أو نحوه كلمة في مؤتمر سياسة السودان الخارجية الذي رتبه معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية، التابع لجامعة الخرطوم، تطرقت فيها إلى أسلوب حكومة السيد الصادق المهدي (1986-1989)، ووزارة الخارجية في الاستجابة للاتهام الذي راج عالمياً عن عودة ممارسات الرق للسودان في سياق الحرب الأهلية بين الحركة القومية الجنوبية والدولة السودانية. وقد ذاع هذا الاتهام بعد صدور كتاب "مذبحة الضعين والرق في السودان" (1987) للدكتورين بلدو وعشاري من هيئة التدريس بجامعة الخرطوم. وقد أحرج هذا الصيت السيء الحكومة السودانية إحراجاً لم يسبق لها إطلاقاً. وقاد هذا الصيت إلى تراجع بعض الحكومات الأوروبية عن حسن نيتها أو عونها للحكومة الوليدة. واستعصمت الحكومة بإزاء شبهة النخاسة الجديدة بإنكار وقوع الرق جملة وتفصيلاً. وألقت بالدكتور عشاري في غيهب السجن ونسبت كل قول عن الرق في السودان إلى نسيج مؤامرة بسيطة صهيونية إمبريالية أو صليبية ... وهلم جراً. ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتابي "الثقافة والديمقراطية في السودان" (القاهرة 1996). اتيح لي خلال هذه المحنة أن أقرأ رسائل بعثاتنا الدبلوماسية إلى وزارة الخارجية فإذا هي كورس مشفق منزعج يدفع الافتراء عن السودان، ويقرأ خبايا خبث نفوس أهل العالم. وغير خاف أن الدبلوماسية السودانية قد وضعت بإزاء مأزق دقيق لم يتأسس في سياسة العالم من فصل عنصري، أو محنة صهيونية، أو نضال شعبي في جزائر الواق واق، أو في اقتصاد العالمين من بنك دولي وقروض وعالم ثالث وعالم جنوب وعالم شمال. بل تأسس هذا الحرج في أكثر التخوم بعداً عن الدبلوماسية السودانية وقرباً منها في نفس الوقت: في ثقافة وممارسات جفاة الأعراب والزنج السودانيين من بدو وحضر، وقد أخرجت أثقالها الاجتماعية، وقال الإنسان مالها. ولأن الدبلوماسية السودانية كانت قد خشيت العالم وازدرت الجفاة من السودانيين، فقد اشترطت في تعيين الدبلوماسيين التخرج بمؤهلات في الاقتصاد والسياسة الدولية. وحرمت على خريجي كليات العلوم الاجتماعية والثقافية مجرد التقديم للعمل كدبلوماسيين بها. والعلوم الاجتماعية والثقافية هي التي لا يصح فهم الرق بدون معارفها ومناهجها.
كان إنكار ممارسة الرق بداهة من قبل الحكومة والدبلوماسية السودانية ولايزال لؤماً وجهلاً. كان لؤماً من جهة، لأن الحكومة آنذاك (1987) لم تحفل أبداً بالتحقيق عما أشيع عن الرق. بل بلغت الدولة آنذاك دركاً من اللوم سحيقاً حين أسقط البرلمان مشروع قرار بتكوين لجنة برلمانية تحقق في المزاعم عن تجدد الرق في السودان. وكان جهلاً، من جهة أخرى، لأن الدبلوماسية السودانية خلت من ذوي التأهيل المناسب للنصح والخوض في هذا الشأن المحرج. بل ولم تنم الدبلوماسية عادة استشارة ذوي الخبرة من خارجها لنصحها بشأن متاعبها في الساحة العالمية.
قلت للعقيد خليفة: لن تنصلح وزارة الخارجية بتعيين طائفة أخرى من الرجال والنساء وتسريح طائفة قديمة من الرجال والنساء. فأزمة عملنا الخارجي مؤسسية قبل أن تكون في الكادر البشري. و "سمَّعت" له كلمتي التي ألقيتها في مؤتمر علاقات السودان الخارجية. وما أحسب أن العقيد انتظر كل هذا مني، ولكنه ظل كعادته رابط الجأش، حفياً، مستمعاً.

غلاف كتاب "أوراق إنقاذية: من يخاف الحركة الإسلامية؟). وهو غلاف النسخة التي على أمازون لا الورقي. معروض بمعرض الشارقة للكتاب هذه الأيام.

ibrahima@missouri.edu

   

مقالات مشابهة

  • "اليونيفيل": تدمير الجيش الإسرائيلي المتعمد والمباشر لممتلكات تابعة لنا انتهاك صارخ للقانون الدولي
  • لا النافية للرق: الدبلوماسية السودانية وسماحة جمل الطين
  • مجلس الأمن الدولي يعقد مشاورات مغلقة حول الوضع في جنوب السودان
  • بمبادة تركية.. 52 دولة تطالب مجلس الأمن الدولي اتخاذ إجراءات لوقف شحن الأسلحة والذخائر إلى إسرائيل..
  • بعد حصار الدعم السريع ... 79 قتيلا بولاية الجزيرة السودانية
  • سفير سوداني لـعربي21: الإمارات تشعل الحرب ببلادنا وعدد اللاجئين بالملايين
  • تهريب ذهب السودان الى الإمارات أثناء الحرب ..وزير المعادن يكشف التفاصيل
  • «التعاون الدولي» و«الزراعة» يطلقان مشروع دعم صغار مزارعي القمح بالتعاون مع بريطانيا
  • أطراف الحرب السودانية ترحّب بفوز «ترامب» بالانتخابات الأمريكية
  • الدعم السريع يدمر حاضر السودانيين وقادة الجيش والإسلاميون يدمرون مستقبلهم