من دون شك، شجعت جائزة نوبل للآداب التي حازها عام 2019، الناشرين العرب، على الالتفات أكثر لترجمة كتب النمساوي بيتر هاندكه؛ فمنذ ذاك العام، بدأت عملية نقل واسعة لكتبه إلى العربية، وفي أكثر من بلد. بالطبع لم تكن أول مرة يُترجم فيها هاندكه؛ إذ منذ ثمانينيات القرن الماضي، أفرد هذا الكاتب مكانًا له في مكتبتنا، ولكننا نجد اليوم قسمًا كبيرًا من أعماله، بلغة الضاد.
وعلى الرغم من أنه كتب روايات ملحمية، ومقالات نقدية وقصائد ومسرحيات وحتى سيناريوهات لصديقه المخرج السينمائي فيم فيندرز -(من يمكنه نسيان فيلمه الكبير «أجنحة الرغبة»؟)- إلا أن الكاتب النمساوي، اهتم أيضا بهذه الأشياء اليومية الصغيرة، التي غالبا ما نراها «تافهة ومبتذلة»، بشكل وثيق. اهتمامه هذا، يأتي من فكرة فلسفية عميقة، كان عبّر عنها في كتاب يوميات نشره عام 2012، بعنوان «أمس في الطريق»، حيث قال فيه: «الشعرية: هي اللاشيء تقريبًا الذي تحيط بالعالم». ربما لهذا السبب، حاول مرارًا، في كتبه، فك رموز هذا اللاشيء، العدم، المحيط بنا، والذي لا ننتبه له، لكي يستكشف موضوعيا وبإيجاز شعري مذهل ما يسمى بالأشياء البسيطة.
ما يميز كتابات بيتر هاندكه هي أنها تقع دائمًا في وسط المشهد الطبيعي، في مكان ما في البيئة الجغرافية التي أسسته وتؤسسه؛ بالنسبة إليه، المشهد الطبيعي هو اتساق للوجود وليس مشهدًا بسيطًا؛ إنه مسألة الأماكن المسماة؛ وهي هنا، في «عن عاشق الفطر» (الكتاب الذي نحن بصدده)، جنوب باريس وشمالها («شافيل»، و«ماركيمون» في فيكسان). ومع أن المكان الذي يتحرك فيه الراوي (والكاتب والعاشق بطبيعة الحال) محدّد بدقة، إلا أنه يتجاوز حدوده الخاصة من جميع الجوانب لينفتح على مكان آخر واسع مثل العالم، كما هو الحال في الــ «مارشن» (الحكاية الخيالية)؛ لأن الكتابة تجعل الفضاء يهتز ويتوسع. فما هو مكتوب هنا، هو على أعلى مستوى من تملّك اللغة بما تقوله، وبالتالي مع نفسها، مع «الإحساس الحقيقي».
تعطي لغة هاندكه كثافة شديدة لعناصرها الملموسة -أوراق الشجر والفروع والأشياء المتنوعة- والتي يجعل وصفها البسيط امتدادا غير محدود. من هنا، تبدأ القصة، الحقيقية، الفريدة، في أحد أيام الصيف، قبل أسابيع من ولادة طفله. كان الراوي قد ترك المنزل والحديقة، وتوجه إلى الغابات الواقعة على التلال القريبة، وهي أقصر طريق للوصول إلى العاصمة، حيث صعد أولًا بلطف ثم بدأ بشكل أكثر انحدارًا. فالقصة المروية، هي قصة صديق يتمتع بكلّ سمات الراوي، تبدأ في كارينثيا، على الحدود السلوفينية (مسقط رأس هاندكه)، أي مشهد المؤلف الطبيعي الأصلي الذي ذهب، عندما كان طفلًا، لقطف الشانتيريل (نوع من الفطر)، الأصفر، الذي كان يهب لونه إلى المكان بأسره، كي يبيعها لاحقا، برغم من أنه لم يكن ماهرًا في ذلك. هذا الراوي، أصبح محاميا فيما بعد في محكمة العدل الدولية.
كانت هذه المهنة بالنسبة له «خارجية بحتة»؛ لأن السياسة تخفي المادية الملموسة للمرئي. كان يأخذ مرافعاته إلى الغابة معه؛ وفي كلّ مرة، عند عتبة الغابة، يستولي عليه شيء ما باندفاع كبير كما لو كان حدثًا عظيمًا. ليست الغابة مجرد مساحة تمتزج فيها أصوات أوراق الشجر مع تحولاتها اللونية، بل هي أيضًا تجربة جسدية معيشية، تحدث في الذاكرة الداخلية؛ كما أنها تشهد على الجنون الإنساني الكبير فهي مليئة بالحُفر الناجمة عن قصف الحرب العالمية الثانية أو الحرب الصربية.
يصبح صديق الراوي «مجنونًا» بالفطر، ذلك الفطر الذي نراه في الغابات الخفيفة التي تختلف تمامًا عن غابات التنوب (في طفولته)؛ يسافر باستمرار عبر حوافي الغابة حيث تنقسم النظرة نحوها من جانب ونحو المدينة من الجانب الآخر. الراوي والجامع، «مجنون» الفطر، من المرجح أن يكونا لحظتين فقط، حالتين ذهنيتين لنفس الذات، ربما يكونان تصرفين لـ «نفس» الشعور بالوجود، في ذروة الحميمية. وبالتالي يمكن الوصول إليها بالإجماع: وجود لا يتمحور حول نفسه، بل كما يتبدى للقارئ، هذا هو محتوى هذه القصة. كل شيء يأتي بطريقة معينة، بشكل متصاحب ومتزامن ليقع في هذه «المساحات الوسيطة»؛ وهذا هو الأهم في عمل هاندكه. لا شيء يُقال محصور في بُعدٍّ واحد، بل يفلت من التعريفات والتثبيتات المسبقة، كل ما يكتبه هاندكه متاح شعريًّا للقارئ.
هذه «المقالة» (يستعمل الكاتب كلمة Versuch في العنوان الألماني) عن «عاشق الفطر» هي الأخيرة من خمسة مقالات (كتب) «شعرية وواقعية» في الوقت عينه، مخصصة على التوالي لـصندوق «الموسيقى»، و«التعب»، و«يوم ناجح»، و«الخلاء والسكون» (وكلها صدرت بالعربية عن «دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، مصر)؛ وكلها تبدأ من مذكرات وسيرة ذاتية وبيانات محددة دقيقة للغاية لتمتد إلى ما لا نهاية.
من قرأ أعمال هاندكه، يعرف أن الفطر كان حاضرًا دائمًا في أعماله، لكنه هنا في قلب عملية السرد، فهذا الفطر الذي ينمو على الهوامش، يشكل جوهر النظرة؛ مثلما يشكل واحدة من«الأنا المتغيرة»، والكاتب الذي يريد أن يؤلف كتابًا عن «علم الفطريات»، أو كذاك العابر في كتاب «السقوط العظيم» (لهاندكه أيضا)، الذي ينتقل من حافة إلى حافة للعثور على فطر بورسيني أو الشانتيريل، إذ كان عليه أن يخفض بصره وينظر إلى البعيد، من دون أن يغفل اتساع المشهد العام؛ لأن الفطر هو من النباتات الوحيدة على الأرض التي لا يمكن زراعتها فهي الوحيدة التي تنمو بشكل جامح، غير آبهة بالتدخل البشري.
في هذا الكتاب، يعتبر الفطر نقطة البداية لهذا المنظور الآخر الذي تترتب حوله كل الأشياء تدريجيا وتنتقل من وجه إلى آخر لوجهي الشيء عينه. (ولا داعي لقراءة الأجزاء الخمسة بالترتيب لأن كل كتاب يحتوي على قصة بأكملها).
قلت «إن لغة هاندكه تعطي كثافة شديدة لعناصرها الملموسة»، في هذا الكتاب هي أكثر من رائعة، حديثة و«جوتية» (نسبة إلى جوته)، حيث لا تضيع كلمة، ولا تذهب عبثًا بل تقود إلى جوهر ما تقوله، من دون انعطافات ومن دون ادعاء، لذا لا بدّ، في الختام، من الإشادة بهذه الترجمة «السيادية» التي قامت بها الدكتورة عُلا عادل، التي أمسكت فعلا بمناخات الكاتب، لتقدم لنا نصًّا موازيا (إذا جاز القول).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من دون
إقرأ أيضاً:
اليوم نرفع راية استقلالنا (1)
تعود ذكری الاستقلال من داخل البرلمان، وبلادنا تخوض حرب الكرامة لكن ذلك لا يمنعنا من الذكری فالذكری تنفع المٶمنين.
يحُقّ لأهل السودان أن يَتَباهوا علی ساٸر أهل أفريقيا طُرَّاً، وعلی كثيرٍ من أهل الدول العربية، بأنهم قد عرفوا سُبُل الحضارة قبلهم، وخَبِروا أساليب الحكم قديمها وحديثها، منذ عهودٍ موغلة فی القِدَم، بل منذ نشأة البشرية علی كوكب الأرض!!
وقد أثبت علماء التاريخ والآثار ذلك فی دراسات كثيرة، تنوء بها أرفف المكتبات القديمة، وتتداولها وساٸط الإعلام الحديثة، ويحتفي بها أُولو العزم من الدارسين، وقد ينكرها بعض المتعصبين من أصحاب الغرض، والغرض مرض !!
وقد يقول قاٸل (هب إن إنسان السودان كان أقدم البشر، وكان هو الإنسان الأول، وأن الجميع جاءوا من نسلهم – من لدن أبينا آدم عليه السلام وحتی يرث الله الأرض ومن عليها- !! فأين هو السودان، وإنسان السودان، وحكومات السودان من ذلك؟؟؟)
– منذ أن نال السودان استقلاله من دولتي الحكم (الثناٸی) -إنجلترا/مصر- فی الأول من يناير عام 1956م ، جَرَّب (ثلاثة) أنواع من الحكومات، فصلت بينها (ثلاث) ثورات شعبية وتخللتها (ثلاث) فترات إنتقالية۔
حكومة حزبية منتخبة۔حكومة يأتی بها إنقلاب عسكری ۔حكومة إنتقالية۔
ويمكن الحديث شيٸاً ما ولو شكلياً، عن نظام (حكم ملكي) فُرِضَ علی السودان الذي كانت تستعمره انجلترا (الملكية)، بالٕاشتراك مع مصر (الملكية) أيضاً، يديره حاكم عام إنجليزي تختاره (ملكة) إنجلترا ويُصدر (الخديوی) فی مصر فرماناً بتعيينه، وفي خِضَم التنازُع بين دولتي (الحكم الثناٸی)، نُودي ب (الملك فاروق ملكاً علی مصر والسودان) مع كون مصر نفسها كانت مستعمرة بريطانية حينذاك !!
تسلمت أول حكومة وطنية مقاليد الحكم من الإستعمار ، وكانت حكومة حزبية منتخبة برٸاسة السيد الأستاذ إسماعيل الأزهری، بعدما ذاب مٶتمر الخريجين – طليعة الوطنيين المنادين بإستقلال السودان – فی الحزبين الكبيرين، أو فی الطاٸفتين الكبيرتين علی وجه الدِّقة، فمٶتمر الخريجين الذی أنشِٸَ علی غرار حزب المٶتمر الهندی- القاٸم إلی يوم الناس هذا – وجد نفسه أمام (إنتخابات عامَّة) تتطلب ميزانيات ضخمة، ومعينات كثيرة، وتجربة جديدة كليَّاً، لا قِبَل له بها، خاصة بعد المعركة الإنتخابية عام 1943م لاختيار الهيٸة الستينية للمٶتمر والتی أدت لانقسام حاد، بين مجموعتين الأولی بزعامة الأزهري يساندهم الأبروفيون، والثانية مجموعة الشوقيين بزعامة محمد علی شوقي ومجموعة من أبناء الأنصار يساندهم بطبيعة الحال السيد عبد الرحمن المهدی، ووسط جماهير تدين بالولاء للسيدين الكبيرين، السيد (السير) علي الميرغنی زعيم طاٸفة الختمية، وسليل العترة النبوية !! والسيد عبد الرحمن المهدی زعيم طاٸفة الأنصار، ونجل السيد الإمام محمد أحمد المهدی مُفجر الثورة المهدية، الذی خاض غمار حرب ضروس ضد المستعمر وحرر البلاد من ربقة الإستعمار بحد السيف (حرفياً) بمساندة واسعة من جماهير الشعب السوداني الذی بذل الغالي والنفيس في سبيل نيله حريته. فقد كان من المحتم علی عضوية مٶتمر الخريجين أن ينضووا تحت عباءة أحد السيدين ربما تُقيةً، لكنه ليس عن قناعة حتماً، وعندها تفرق مٶتمر الخريجين أيدي سبأ، وحُرم السودان من تجربة حديثة لبناء دولة ديمقراطية حديثة، ونالت البلاد إستقلالها، بعد سودنة جميع الوظاٸف فی الدولة، وكانت السودنة هی الشرارة التي أطلقت التمرد فی جنوب السودان من عقاله، في اْغسطس 1955م، قُبيل إعلان الإستقلال إحتجاجاً علی إبدال الإنجليز الرحماء!! بالعرب القساة تجار الرقيق !! كما قالت بذلك الدعاية الإستعمارية (رمتني بداٸها وانْسَلَّتِ)، والذی أفضی في نهاية الأمر – بعد حرب أهلية هی الأطول فی القارة الأفريقية – إلی انفصال جنوب السودان بعد الإستفتاء الذی أقرته إتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) الموقع فی نيروبی يناير 2005م۔ وأدت ل(ثناٸية) جديدة !!
ونواصل إن أذِن الله لنا بالعودة.
-النصر لجيشنا الباسل.
-العِزة والمِنعة لشعبنا المقاتل.
-الخِزی والعار لأعداٸنا، وللعملاء.
محجوب فضل بدري
إنضم لقناة النيلين على واتساب