الموضوع الرئيسي لعلم الجمال Aesthetics هو الخبرة الجمالية aesthetic experience، وهذه الخبرة تشمل ثلاثة مجالات رئيسية هي: خبرة المبدع للفن بما في ذلك الأدب، وخبرة المتلقي أو المتذوق للموضوع الجمالي في الفن (وكذلك في البيئات الطبيعية أو المشيَّدة)، وخبرة الناقد. فالخبرة الجمالية ينبغي أن تكون حاضرة في كل مجال أو مستوى من هذه المستويات الثلاثة، ولكنها في كل مستوى يكون لها خصائصها وشروطها.
مهمة الناقد هي تحسين الصلة بين المبدع والمتلقي، بهدف حسن فهم المتلقي للعمل الإبداعي على نحو أكثر عمقًا من خبرته الجمالية البسيطة والمباشرة التي ربما لا يكون قادرًا على وصفها وتحليلها، ومن هنا يأتي دور الناقد الذي يضيء دلالة العمل من خلال تشكيله الجمالي والعلاقات الكامنة بين أجزائه. غير أن الناقد لا يمكن أن يقوم بمهمته هذه ما لم يكن متسلحًا من قبل بالنظريات الجمالية التي يمكن أن تعِينه على قراءة العمل، والتي تنبع منها رؤيته النقدية، وتكون قدرة الناقد وجدارته هنا مرهونة بمدى خصوبة النظريات أو الاتجاهات الجمالية التي يلجأ إليها، وبمدى مرونتها وانفتاحها على الفهم والتأويل بمنأى عن النزعات الدوجماطيقية التي تسعى إلى تأطير النص أو العمل الفني من خلال أطر مسبقة. وعلى الرغم من أن هذا الشرط المعرفي بالنظريات الجمالية يعد شرطًا ضروريًّا لممارسة الناقد لمهمته النقدية، فإننا نلاحظ أن أغلب من يمارسون النقد في عالمنا العربي يمتهنونه؛ لأنهم يستبيحون ممارسته من دون علم أو معرفة، وهذا ما نجده عادةً في النقد الانطباعي الشائع في الكتابات النقدية في الصحف.
غير أننا ينبغي أن نلاحظ في الوقت ذاته أن هذا الشرط المعرفي ليس شرطًا كافيًا لممارسة النقد؛ لأن الناقد ينبغي أن يتمتع بذائقة جمالية. ولذلك فإن الناقد يمر أولًا بالخبرة الجمالية بالعمل بوصفه متلقيًّا، ولكنه في مرحلة تالية يقوم بإخضاع العمل للدرس والفحص والتحليل والتشريح من خلال خبرة أخرى يمكن أن نسميها «خبرة فوق-جمالية» (مع ملاحظة هنا أنني لا أسميها «خبرة لا جمالية»؛ ببساطة لأنها مؤسسة على خبرة جمالية تسبقها)، وتلك مهمة شاقة تستغرق وقتًا طويلًا؛ لأنها لا تكون وليدة انطباعات عابرة. ذلك أن النقد ليس وظيفة يمكن أن نحصل عليها من خلال الدراسة وحدها على أهميتها، تمامًا مثلما أن الإبداع ذاته ليس وظيفة: فليست هناك وظيفة يمكن أن نسميها «كاتب» أو«ناقد»؛ هذا إذا استبعدنا من أذهاننا صورة الكاتب الذي يكتب ليؤدي وظيفة ما، وصورة الناقد الذي يكتب عن كل ما يرد إليه من أعمال بصرف النظر عن قيمتها الفنية أو الأدبية. ولنقارن حال مثل هؤلاء النقاد بحال النقد الذي مارسه كبار الفلاسفة من أمثال مارتن هيدجر: لقد تناول هيدجر باستفاضة سبعة أبيات للشاعر الألماني شتيفان جيورجه في قصيدة بعنوان «الكلمة»، ليبين لنا قدرة الكلمة عند الشاعر على تسمية الأشياء والموجودات؛ كما تناول لوحة فان جوخ بعنوان «حذاء الفلاحة»، ليبين لنا قدرة الفنان على التعبير عن عالم الفلاَّحة من خلال بيان ارتباط هذا الحذاء بالأرض، أي بالتُربة. ولا شك في أن مقاربة هيدجر هنا كانت تنبع من رؤيته الفلسفية الخاصة للعالم والوجود، ولكن تناوله النقدي المحدود لأعمال بعينها قد أسس لتيار نقدي كبير في ثقافتنا المعاصرة. وهذا يعني أن الناقد الأصيل ينبغي أن ينتقي النصوص الأدبية والأعمال الفنية التي يتعاطف معها والتي يمكن أن تؤسس لرؤية نقدية، بدلًا من الكتابة عن كل ما يأتي إليه أو يُعرَض عليه، فيكتب عنه كما لو كان يؤدي وظيفة ينغي الوفاء بها.
ويظن بعض العوام، بل بعض النقاد أنفسهم، أن النقد يعني الانتقاد، من خلال إظهار نقاط القوة والضعف في العمل الإبداعي! وربما يصدق هذا على تقييم مذهب فلسفي أو مقال علمي، ولكنه لا يصدق على نقد عمل إبداعي فني أو أدبي؛ لأن العمل الإبداعي ينبغي أن يؤخذ على النحو الذي يكون عليه، وتكون مهمة الناقد هي حسن فهم هذا العمل وتأويله بحيث يمكن تقريبه إلى الخبرة الجمالية لدى المتلقي. ولهذا فإن الناقد ينبغي أن يكون على ألفة بالعمل، ومن ثم على تعاطف معه؛ أما إذا كان يفتقر إلى هذا التعاطف، فإنه ينبغي أن يدع هذا العمل جانبًا إلى ناقد غيره.
والحقيقة أن بعض النقاد- خاصةً في عالمنا العربي- يتصورون أن مهمة الناقد هي إصدار أحكام على العمل الإبداعي وكأن عمل الناقد يشبه تحقيق القاضي في واقعة ما، وهم بذلك يضعون أنفسهم في مكانة أعلى من مكانة الفنان أو المؤلف؛ في حين أن الناقد لا يكون ناقدًا بحق إلا إذا كانت فيه نفحة من الحس الجمالي الذي يكون لدى المبدع. ولهذا نرى بعض النقاد بدلًا من أن يعكفوا على دراسة العمل الفني أو النص الأدبي ذاته، نراهم يلجأون إلى التنقيب في حياة الفنان أو المؤلف من أجل تفسير شيء ما في العمل! وعلى هذا أقول: ليس من حق الناقد ولا من مهمته أن يفتش في ضمير الكاتب أو الفنان، ولا في أن يخلع معتقداته وتصوراته الخاصة على العمل من دون أن يكون لذلك أساس في العمل نفسه. وذلك قليل مما يمكن أن يُقَال عن مهام الناقد.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أن الناقد ینبغی أن یمکن أن من خلال
إقرأ أيضاً:
برلين: تركيا لا ينبغي أن تعلن الحرب على قوات سوريا الديمقراطية
أنقرة (زمان التركية) – رفضت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، سعي تركيا للقضاء على قوات سوريا الديمقراطية.
وفي حديث لشبكة الإذاعة العامة الألمانية ”دويتشلاندفونك“، قالت بايربوك إنه لا ينبغي لتركيا أن تشن حرباً ضد قوات سوريا الديمقراطية، لأن ذلك قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تقوية إرهابيي داعش“، مضيفةً أنه ”لن يكون مفيدا لأحداً إذا كان الطرف الثالث في الصراع مع الأكراد هو داعش“.
وشددت بايربوك على أن هذا سيشكل تهديداً أمنياً لسوريا، بالنسبة لتركيا ولأوروبا“، مذكرة بـ”المجازر المروعة التي ارتكبها إرهابيو داعش“.
وأكد بايربوك أن الأكراد هم الذين دفعوا داعش إلى الوراء، وأن كوباني أصبحت رمزاً لكفاح الأكراد الشجاع ضد داعش.
وأضافت المسؤولة الألمانية: “بالطبع لتركيا مصالح أمنية مشروعة، مثل كل دولة، تريد تركيا التخلص من الإرهاب، تقع على عاتقنا جميعًا مسؤولية ضمان عدم حدوث عنف جديد أو تطرف جديد، وأن يتمكن الناس أخيرًا من العيش في أمان بعد سنوات من الإرهاب“.
وتابعت بايربوك قائلة: ”يجب الحفاظ على وحدة سوريا، من غير المقبول أن تتواطأ أطراف ثالثة، مثل إيران وروسيا، مرة أخرى في البلاد، كما فعلت في الماضي“.
Tags: أوروباالأكرادالعدالة والتنميةتركياداعشقوات سوريا الديمقراطية