لم يكن في خاطري وأنا أكتب هذه المقالة أن أعرض إلى جائزة البوكر في نسختها العربية ولا إلى قائمتيها القصيرة والطويلة ولا إلى الفائز فيها، ذلك أنّ الزمن عوّدني ألاّ أساير الفقاقيع الناشئة عن خيارات الجوائز، وأن أعالج الفائزين بعد مدّة من فوزهم، وأن أقول قولي فيهم بما تقتضيه ذائقتي الأدبيّة والفكريّة والاجتماعيّة، وأن أشكّك دوما في ذائقة لجنة تحكيم تقرأ مئات الأعمال لتختار منها عملا فريدا (ولم تكن في أغلب الأحيان تبحث عن فرادة)، وكنت أقول قولي الذي يُغضب أصدقائي قبل أعدائي، ولهذا عبّرتُ مثلا عن شدّة استيائي من اللجنة التي فوّزت قصدًا وحسابًا روايةً ضعيفة مثل رواية محمد النعاس «خبز على طاولة الخال ميلاد»، وكتبت عن قلّة حيلة الرواية والروائي، ولكنّي اليوم أشيد بتفويز الكاتب الفلسطيني الواقع في الأسر لعقدين من الزمان باسم خندقجي عن روايته «قناع بلون السماء»، الرواية التي استحسنّا تفويزها لا لقيمتها ولا لفنيّتها ولا لجِدّتها (التي أجهلها، فأنا لم أقرأ الرواية بعد) ولا لعُدولها عن مسار الرواية العربيّة التي بدأت تأكل نفسها، ولا لأنّها ضمّت حكاية غير مألوفة، ولا لكلّ الأسباب المنطقيّة التي يُمكن أن تجعل عملا روائيّا يفوز، بل لأنّها قادمة من أرضٍ تآمر الكون على محْوِها من خارطة الوجود، لأنّها قادمة من أرض مُقدّسة فيها تُقَطَّع أوصال الأطفال والنساء كلّ ساعة والعالم في لهوٍ وضحك، لأنّها قادمة من أرضٍ مقدّسة، فيها الدم يُسَال ويسيل ويُهدَر وتُغتَصب النساء ويُشَرّد الأطفال ولا معتصم يغيث من يطلب الغوث، ولا غيمة تمطر حيث شاءت، ولا واو النداء تنفع، ولا واو الندبة، ولا واو الاستغاثة، كلّ الواوات أضحت ويلات، عادت إلى أصلها ليّنةً مطواعة، وبات العالم في حِلٍّ من قِيَمه التي قَتَلنا بها، ويأتي الغوث دوما من غير مكانه، من طلبة حملوا وعيًا وفكرًا قد يسهمون في تغيير نظريّات نهاية الكون.
فازت روايةُ السجين -التي لا أعرف تفاصيلها- التي نعرف مقامها، واستحسان المثقّفين لتفويزها، راجع إلى أن الجائزة هذه المرّة لم تكن محض جائزة، بل كانت رسالة وخطابا، كانت اعترافا بأدبِ مَن يقبع ظلمًا وقهرًا خلف القضبان، وإيمانا بنضالِ شعب خانه الأقربون قبل الغرباء. هذه كلمة أردتُها على الحساب قبل أن أقرأ الكتاب في شأن فوز الأسير الفلسطيني بجائزة البوكر للرواية العربيّة.
وأعود إلى أصل مقالتي حول يُتم الروائيين العرب، وقصدي من العبارة، أنّ حالةً من عدم الرعاية والعناية بالروائيين العرب تجعل الجيّد منهم يشعر بِيُتم واغتراب، فقد مضى عهدٌ من الزمان، كان الأدباءُ والفنّانون والمثقّفون والصحفيّون والمسرحيّون والسينمائيّون وغيرهم من أهل الفكر والفنّ يتواجدون (أقصد تفاعل الوجْد) ويتواصلون ويتحدّثون ويتبادلون الأفكار والآراء.
ما صرناه اليوم هو أنّ الروائيّ الذي يحتاج إلى صخب الواقع أصبح يعيش بمنأى عن الفضاء الذي منه يتغذّى، تقلّ تدريجيّا العلائق بين المسرحيين والروائيين، بين الموسيقيين والروائيين، تقلّ صلات الفنّانين، والأدهى من ذلك، وهو قصدي من هذا المقال، هو الطلاق البائن بين النقد والرواية، الطلاق بين الرعاية النقديّة والتعهّد العالم بالرواية وعالم التخييل.
قد يبدو كلامي سائبا في ظِلّ وفرة النقد الروائيّ وسيْله، غير أنّه نقد في الغالب الأعمّ منه كأُفٍّ، هو محض ممارسة طفوليّة انطوائيّة انطباعية انفعالية تقوم بها كائنات ورقيّة، تجعلها هبّات العلم الرقيقة تسقط متداعية.
لقد انتبهت وأنا أقرأ كتابا بعنوان «ورد ورماد» جمع رسائل متبادلة بين الكبيرين المغربيين الروائي محمد شكري والناقد والمبدع محمّد برّادة إلى هذه العناية الفائقة التي يخصّ بها الناقدُ الأديب، ويخصّ بها -تبادلا- الأديبُ الناقدَ.
فلقد أبدت الرسائل حوارًا قائمًا لسنوات بين المبدعيْن، من بدايتهما إلى بلوغهما مراتب عالية في الأدب والنقد.
كان محمد شكري في بداياته يعيش فاقةً وحاجةً ونقمةً على الوجود، وكان برّادة في بداياته يعيش رفضا ورغبة في تحقيق الأفضل، وكان الحوار الجامع بينهما مُظهر عدميّة محمد شكري وإيجابيّة برّادة، حتّى بلغا خطّا مشتركا تحقّق فيه برّادة الناقد الحصيف الواعي، المُدرك لهمّ الروائيّ، وتحقّق فيه الروائيّ العدمي الذي كان في أمسّ الحاجة إلى عقل يُؤطّر «شطارته».
لقد كان محمد شكري -على طريقته في الإفصاح عمّا يراه ويشعره- واضحا بيّنا، فإضافة إلى اختياره حياة الهامشيين، فقد كانت هنالك حياة أخرى لمحمد شكري أدركها بفطنته محمد برادة وحاول استخراجها من باطن الأديب، هذه الحياة هي روح الفنّان الذي يُترجم عن الإسبانية والفرنسية، هي روح الفنّان التي تكتب السيَر، هي روح الفنّان التي تُوجِد أواصر صلةٍ مع الأرواح الشبيهة، ومن هذا المنطلق فقد كان هنالك في حياة الروائي السير ذاتي محمد شكري فضاءٌ من الفوضى ورعايةٌ من نقّاد آمنوا به وكان لهم قسط وفير في صدور أعماله، وكان هناك أيضا فضاءٌ من التعجيز والتقزيم، عبّر عنه في رسالة من رسائله بقوله: كدت أنسى أن أخبرك أيضا عن المقال الذي كتبه الطاهر بنجلون في «لومند» عن الحياة الثقافية في المغرب. إنّه يجهل الأدب المغربي المكتوب بالعربيّة، قال عنّي مثلا: شكري روى حياته لبول بوولز! وإنّني مجرّد «حكواتي»، كتبت توضيحا قصيرا في الموضوع وأرسلته إلى «المحرر» لكنهم لم ينشروه. لا أعرف ردّ محمد شكري على الأديب الروائي الطاهر بنجلون، ولكن ما الضرر أن يروي شكري حياته لبول وولز، والروائي يجب أن يكون حاملا لروح الحكواتي.
هذا جانبٌ من الألم في صلات النُظراء والأشباه، وأمّا الجانب الأنجع والأنجح فهو الصلة مع المختلفين، صلةُ شكري ببول بوولز الكاتب الأمريكي الذي قضّى أكثر من نصف قرن من حياته مقيما في طنجة، هي صلةٌ تُظهر منزلته ومكانته التي عبّر عنها بكتاب جميل أظهر هذه الصلة وكشف جوانب من حياة الأديب الأمريكي، وقد حمل الكتاب عنوانا «بول وولز وعزلة طنجة».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محمد شکری ة التی لأن ها
إقرأ أيضاً:
الخيل فى رحاب البادية
قد لاح فى الأفق كالطود العظيم وصهيلٌ الخيل قد ران ورجع الصدى قد بان أبرق فى السماء ليكشف خبرًا قد أتى أو عنوانا للخير فى الخيل ابتدئ وقسما عزيزا فى الورى قال تعالى" وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا".
أقسم الله بخيله وصهيلها وغبارها وقدح حوافرها المار من الحجر يذكر العرب ويخاطبهم بما يجلونه ويعتزون به وآخر ما يضحون به فتاريخ العرب وبطولاتهم وأيامهم المجيدة ارتبط بالخيل وقال عنترة:
إِن كُنتِ جاهِلَةً بِما لَم تَعلَمى
هَلّا سَأَلتِ الخَيلَ يا اِبنَةَ مالِكٍ
وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقودة فى نواصيها الخيل إلى يوم القيامة" وفى الخيل عزة وشموخ فهى تحزن ولا تبوح وتتألم ولا تنكسر فهى العزيزة الأبية وفى الخيل تتجلى عناوين كثيرة كالحرية والشجاعة والقوة والشموخ والعزة والإباء فهى وسيلة للنقل والصيد والحرب والعدة والعتاد وقال تعالى "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا أستطعتم من قوة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ"، والخيل من الخيلاء وهو الافتخار والاعتزاز والعزة والكرامة والبسالة وأندرها الخيل العربى فهى رمز للقوة والجمال والقدرة والسؤدد ولشكلها الفريد دلائل، فالعينان الواسعتان تعبر عن الذكاء والفطنة وبرقبة مقوسة وظهر قصير وأرجل قوية وعضلات بارزة وتتسم بالرشاقة والسرعة وقدرتها على المناورة بسهولة، وأول حصان عربى اسمه «زاد الراكب»، وهناك ارتباط بين الخيل والفارس وكرامة الفرس الأصيل ركوبها ولا ندرى أيهما يسبق الآخر وقال الشاعر:
ياسائس الخيل قم للخيل وانحرها ما حاجة الخيل والفرسان قد ماتوا
وفى جميع الأحوال يتأثر الفارس بجواده وقال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل» وهذه اطلالة بسيطة فى رحاب الخيل.
وتبقى شعبة أدب البادية منارة جديدة للأدب السردى والشفهى والحكائى من شعر ونثر وأمثال وحكم وغيرها من المظان الأدبية الرفيعة، والفضل كل الفضل للدكتور علاء عبدالهادى رئيس النقابة العامة لاتحاد الكتاب بمصر والأمين العام للاتحاد العام للادباء والكتاب العرب الذى برؤيته الثاقبة انشئ شعبة ادب البادية مما يسهم فى التنوع الثقافى ويحافظ على الهوية المصرية بكل مكوناتها حيث أن بيئة البادية لها خصوصية وتراث فريد من الأدب الشفهى يحمل قيما تتوارثها الأجيال ولا ننسى الكاتب الفنان الأستاذ«أبوالفتوح البرعصى» الذى أسس هذه الشعبة ولا يكل ولا يمل من البحث عن الكنوز المخفية فى تراث البادية ولا يألوا جهدا فى ذلك مسترشدا بما قاله امادو: «عند وفاة عجوز افريقية يختفى متحف» وفى المؤتمر الثانى الذى انعقد هذا الأسبوع بعنوان «الخيل فى أدب وتراث البادية» والذى جمع كوكبة من الكتاب والباحثين الذين تناولوا الخيل فى أدب البادية من كل الزوايا فلهم كل التحية على هذه الإضافة القيمة لهذا الموضوع المهم فرئيس المؤتمر الشيخ «الطحاوى سعودى» وهو عراب الخيل وقد سرد فى بحثه عناصر جديدة تثرى هذا الدراسة بأسلوب رشيق ومعلومات مؤثقة وهو ابن الشرقية حيث الحصان شعار لها كما تحدث الدكتور «هانى السيسى» عن أنساب الخيل فى التراث العربى بتعمق وتحدث الشاعر الكبير والباحث الاريب قدورة العجنى حديث ماتع عن الخيل فى شعر الهلالية والسير الشعبية لأبناء الصحراء الغربية والشاعرة والكاتبة «أحلام أبونوارة» تناولت ببحث قيم عن الأمثال والحكم ومرادها ومراميها فى الخيل عند أهل البادية والكاتب الكبير «عبدالستار حتيته» كتب بحثا قيما عن الخيل فى التراث البدوى وقد نشر لهذا المؤتمر أبحاثه بعنوان «الخيل فى أدب وتراث البادية» وهو إضافة مهمة لكتب التراث الشعبى البدوى.