عربي21:
2025-01-26@06:26:25 GMT

رسالة إلى الرئيس أردوغان (1-3)

تاريخ النشر: 1st, May 2024 GMT

أولا: الحكمة والحقائق

الحكمة تقضى بأن تربي ابنك الصالح وتمنحه شقة، خير من أن تتركه شاردا وتبنى له قصرا، كما أن قياس النمو الحضاري للمجتمع بالمفهوم الإلهي في القرآن يقاس:

1- بصلاح معتقداته وتحسن أخلاقه وأدائه، وقوة وعيه وانتمائه واعتزازه بذاته وشخصيته وهويته الإيمانية المتميزة المتمايزة عن كل ما سواها، الخاصة الضاربة في أعماق التاريخ وصولا إلى سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وليس كما في المفهوم البشرى الغربي بالاقتصاد والقوة وتحسن مستوى أدوات الحياة.



2- بجودة تعايش هذا المجتمع على قواعد إيمانية ومصالح عليا مشتركة للوطن، وليس على طبيعة وحركة المصالح الآنية المتقلبة فيما بينهم.

- كما أن محمد صلى الله عليه وسلم وقادة ودعاة الإصلاح وبناة الحضارة من بعده في تاريخ العالم الذي كتب الإسلام منه ستة قرون متتالية، قدموا للناس الكتاب والإيمان ومنهج الحياة، وليس أدوات الحياة، حيث علموا الناس بمنهج الإسلام كيف يصنعون هم أدوات الحياة.

حقائق بناء وتحولات الدولة

الحقيقة الأولى: بناء الهوية أولا

الحقيقة الميدانية والتاريخية والعلمية والدينية تؤكد أن بناء الدولة يقوم أولا ببناء هوية المواطن والمجتمع بتأسيس مشروع واحد لهوية الدولة، يعلن وينشر ليعرف ويبني ويعزز معتقدات قيم وحقائق ومفاهيم وأخلاق وممارسات هذه الهوية في نفوس المواطنين سواء كان بناة الدولة:

أ- خارج السلطة: بتوظيف القدرات الدعوية والتربوية والتدريبية والثقافية للحزب

ب- على رأس السلطة: بتوظيف وزارات ومؤسسات الدولة لبناء الإنسان من تربية وتعليم وبحث علمي وثقافة وإعلام وأسرة وشؤون دينية، والشباب والرياضة، في تعليم وتمكين الهوية الوطنية للدولة، ويضع نظاما وقوانين لضبط وترشيد ووتوجيه الهويم لتنظيم عمل القطاع الخاص العامل في بناء المواطنين أو المؤثر في قيمهم وهوياتهم وتشكيل تصوراتهم وقرارتهم، بما يؤسس ويبني ويعزز الهوية الوطنية لدى الأجيال الجديدة، ويصحح ويعيد توجيه القناعات لدى كافة المكونات الدينية والعرقية والفكرية للمجتمع ويصبغهم بها سريعا وتدريجيا، حتى تتشكل ويتأصل لدى المواطنين الهوية الوطنية الكبرى الأم الأساسية، وتتضاءل وتذوب فيها تدريجيا الهويات والأيديولوجيات الخاصة، وعندها يتحد ويحتشد المجتمع على مشروع الدولة، ويتحول التنافس السياسي إلى كيفية تنفيذ مشروع الدولة المنبثق من هوية الدولة، وليس التصارع على هوية الدولة.

أولا: الدليل الميداني الحديث والتاريخي القريب: هذا ما قامت به هذه الدول على مرمى حجر من التاريخ:

- الدولة الأمريكية: 1776م تأسيس الدولة الأمريكية على مشروع الهوية الوطنية الامريكية والذي صنع منه الدستور الأمريكي فيما بعد.

الدولة التركية العلمانية: 1923 تأسيس دولة تركية بهوية جديدة معاكسة تماما لهوية الشعب الحقيقية، والتي تم إعلانها بكل قوة ووضوح وشفافية بالرغم من تعارضها مع الهوية الإسلامية الأساسية للمجتمع بل والفطرة السوية للإنسان، ولكن قوة إعلانها ودعمها بأدوات تعزيزها معنويا ومادية وقانونيا تسببت في سرعة تحول غالب المجتمع إلى الهوية العلمانية الجديدة والتي تشبثت بها الأجيال التالية التي ولدت وتربت ونشأت فيها، بالرغم من مخالفتها لهوية الآباء والجدود العظام.

- الدولة اليابانية: 1947 البناء الحديث لليابان بعد الحرب تأسس على مشروع الهوية الوطنية اليابانية الجديدة لإعادة البناء النفسي والمادي للشعب الياباني بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية.

- دولة الكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين: 1948 م قامت على هوية وطنية لشعب الكيان كأساس مزيف اجتمعت عليه بقية المقومات الخارجية والداخلية لتأسيس وبناء الدولة المغتصبة.

- دولة سنغافورة: 1972 بداية تأسيس وبناء دولة سنغافورة المستقلة على مشروع لبناء المواطن والشعب السنغافورى اسمه الهوية الوطنية لسنغافورة.

ثانيا: الدليل العلمي:

الإنسان هو أساسُ كل حضارة بشرية، فهو الأصل، والأساس بما يمتلك من عقيدة ومفاهيم وقيم تشكل قوة هويته التي تنتج القوة المعرفية والعلمية والتكنولوجية التي تعزز قوة الإنتاج والاقتصاد المصدر لبناء القوة العسكرية والسياسية. هذا ما أكده مالك بن نبي في رؤيته لفلسفة "الإنسان والحضارة من خلال الدراسات المعاصرة- التأصيل والأبعاد، فقد اعتبر مالك أن الإنسان هو المحور الذي يدور عليه الواقع منه المبدأ وإليه ينتهي، وأنه مقياس الحضارة.

- وفي تحليله لعناصر الحضارة وتحديد أعمدة البناء الحضاري وضع معادلة الحضارة = إنسان + تراب + وقت. وتكمن أهمية الإنسان كعنصر مركزي في هذه المعادلة في كون العناصر الحضارية الأخرى صامتة لا تنطق إلا بلسان الإنسان، وهو من يعطيها دلالة وقيمة وكل بناء سليم للإنسان تربويا وثقافيا يعني بالضرورة إكساب الزمن والتراب الشرطية والقيمة الحضارية..

- كذلك ما أكده بن خلدون من أن العمران يبدأ من الإنسان، وأن الحضارة تنتهي عندما تفقد في شعورها معنى الإنسان.

كل ذلك وغيره الكثير والكثير من مفكري الشرق والغرب بما يقرر بأن أساس وبداية البناء الراسخ للدولة يبدأ بالإجابة على سؤال من نحن؟ وتصميم مشروع واحد جامع للهوية الوطنية، تنطلق منه كل نظم بناء التعليم في الدولة من تربية وتعليم وثقافة وإعلام... الخ.

ثالثا: الدليل الديني الشرعي

ما قرره القرآن الكريم من سنن وقوانين للتغيير والإصلاح والبناء:

- قانون التدافع: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة).

- قانون التغيير: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد).

- "ذَلِكَ بأَن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وأَنّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال).

- قانون الغلبة: "كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" (المجادلة).

- "وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (الحج).

- "وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا" (النور).

الحقيقة الثانية: عمق أزمة الهوية التركية


الهوية التركية تعاني أزمة عميقة تبدأ من السردية التاريخية المزيفة لتاريخ الأمة العثمانية الذي تم تشويهه وتجريمه وتقزيمه وإحلاله بسردية كاذبة لعلمنة وتتريك وصبغ المجتمع التركي بالقومية الطورانية غير الحقيقية، عبر خمسة كتب كانت المصدر والمرجع الأساس لهذا التحول ومعيارا لقياس هوية الأجيال الثلاث الجديدة التي تعاقبت حتى الآن، بما يعنى أن تحدي الهوية التركية عميق وصلب ويحتاج إلى استجابة علمية وثقافية وهوياتية حقيقية لتصوب هذا التزييف العلمي والإحلال البشري الذي تم على الهوية التركية، والذي يحتاج إلى مشروع وطني كبير للهوية الوطنية التركية، تلتزم الوزرات الست لبناء الإنسان بتطبيقه حتى تقضي على ازدواجية الهوية التركية وتهديدات تفكك وانقسام المجتمع التركي والاختراقات والاستقطابات الأجنبية له، ويستعيد للأمة التركية هويتها الواحدة ووحدتها واحتشادها لخدمة الأمن القومي التركي.

خمسة كتب أدارات سياسات ومشاريع التتريك غيرت هوية تركيا:

1- كتاب ماذا يمكن أن يكسب الأتراك من الحرب العالمية الأولى.

2- كتاب الطورانية: مفهوم القومية التركية الطورانية وأهدافها.

3- كتاب سياسة التتريك (1928م): تتريك العناصر التركية في الدولة العثمانية.

4- كتاب الكمالية (1936): الأمة التركية تنسلخ من شرقيتها وتتجه نحو الغرب.

5- كتاب الروح التركية (1944)، تكين الب- مئير كوهين: التأسيس للروح التركية القومية بديلا عن الروح الإسلامية، وفك ونزع وعزل تركيا عن محيطها الإسلامي.

الحقيقة الثالثة: الحرب العالمية الهجينة داخليا وخارجيا على تركيا بصفتها المؤهل الأول لإحياء وقيادة العالم الإسلامي


1- لا شك أن الخسارة التاريخية لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية في آذار/ مارس 2024م، خسارة لتركيا وللأمة الإسلامية ولأحرار العالم الساعين لتحرير العالم من ربق الاستعمار والعبودية والاستغلال والاستنزاف لصالح النظام العالمي الأمريكي الصليبي الصهيوني الاستعماري.

وحقيقة انتخابات البلديات التركية أنها معركة سياسة داخلية هامة من منظومة عمليات ثقافية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وسياسية، داخليا وخارجيا، متنوعة ومتوازية زمنيا كجزء من حرب هجينة ممتدة في تركيا والعالم.

2- وواجب وعمل الوقت هو البحث في الأسباب، ومن منطلقات ونظم تفكير مختلفة وضعت الكثير من الأسباب التي أتفق مع أغلبها ولكن ليس كأسباب بل كنتائج لأسباب أخرى عميقة، أخصص لها هذه السلسة من المقالات كرؤية فكرية ودعم فني وجزء من واجب ديني؛ على كل مفكر وعالم ونخبة مسلم في أي مجال من مجالات بناء المجتمع والدولة والأمة الإسلامية الواحدة رحمة للعالمين، أن يتقدم الجميع بما لديه لدعم وتعزيز نجاح المشروع الإسلامي في تركيا واستعادة الأمة التركية إلى قيادة الأمة والعالم الإسلامي كما كانت، ذلك لعدة أسباب:

أولا: لأنها الأمة الأخيرة في استلام الرسالة والأمانة من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدين ثم الأمويين والعباسيين، وكانت اقوى وأطول القوميات حفظا للأمانة لمدة 603 أعوام متتالية.

ثانيا: لأنها الأمة القوية في ذاتها الشخصية والتي ما زالت تحفظ بأكبر قدر من مقوماتها وقدرتها على الصعود واستعادة حقها المسلوب ومكانتها الحقيقية، وإحياء وقيادة الأمة الإسلامية مرة ثانية وفي تاريخ الإسلام الذي هو الجزء الأكبر والأهم من تاريخ العالم، ذلك أنه إذا غابت وانحرفت قوميات عن وعيها وحضورها الإسلامي حفظ الله تعالى لرسالته غيرها من القوميات الراسخة القوية لنيل شرف تحمل مسئولية إعادة الإحياء الإسلامي ثانية، وهنا أصبح واجب الوقت ملزما لكلا الطرفين:

أ- قيادة الأمة التركية وواجب الإفصاح عن ذلك ورفع الراية وبيان البوصلة لتوحيد وحشد الأمة.

ب- توجه كل المسلمين المخلصين في العالم لتقديم كل ما يمتلكون ويستطيعون معنويا وماديا لخدمة نجاح الأمة التركية، وقد حدث بالفعل وعاينه العالم في الكثير من المدن في العالم.

ومعلوم أن إعلان ووضوح وثبات القيادة التركية وعدم ترددها أو تلونها ورفع الراية عالية واضحة؛ سيكون العامل الأساس في وحدة واحتشاد كل مسلمي العالم في كل دولة ومدينة وقرية وشارع في العالم لخدمة المشروع التركي الإسلامي، وأن القيادة التركية كلما ترددت أو تأخرت في إعلان ذلك أصابت مسلمي العالم بالخيبة والحيرة والريبة والتقهقر إلى الخلف والركون والسكون تحت نظمهم المستبدة.

ثالثا- لأنها الأمة الأقرب لسد فراغ مقعد المشروع الإسلامي العالمي وفرض نفسها على مزاحمة المشاريع الأخرى على مائدة قيادة العالم.

رابعا: لما تبقى للأمة التركية من أرصدة الخلافة العثمانية من الاحترام والحب والولاء والنصرة والتأييد في نفوس الجيل الثالث الذي يعيش الآن، من مفاهيم وتصورات عن الدولة العثمانية التي كانت هي أمته ودولته الكبرى الأساس حيثما يعيش في أي بقعة من العالم، وهي المقدمة في ولائه على الدولة القومية التي صنعها الاستعمار بديلا عن الخلافة العثمانية والأمة الإسلامية، ليقزم الإسلام وأهله ويستعبده ويستنزف موارده، وهذه هي:

الحقيقة الرابعة: أن تركيا هي القائد الممثل للمشروع الإسلامي الممثل لطموحات وآمال كل مسلمي العالم من كل القوميات، وأمل الأمة في جمعها وإدارة واستثمار ما يمكنه من قدراتها الإصلاحية، دولا وتنظيمات ومفكرين وعلماء ونخبا وأفرادا. هذه الحقيقة يدركها العالم كله، ويعمل على مواجهتها وتدميرها، سواء أعلنت تركيا ذلك أم لم تعلنه.

الحقيقة الخامسة: الأسئلة الكبرى لفهم تعثر العدالة والتنمية من مدخل تحولات هوية الدولة خمسة أسئلة كبرى لا بد أن توضع على مائدة وأولويات المفكر وصانع القرار التركي

س1: هل يمكن إقامة الدولة التركية على الاقتصاد والسلاح فقط دون إعادة إصلاح وإعمار هوية المجتمع؟

س2: من نحن؟ هل نحن زعماء سياسيون محليون فقط أم قادة إصلاحيون عالميون للأمة التركية، قلب الأمة الإسلامية والمشروع العالمي الرابع في مخاض النظام الدولي الجديد؟

س3: ما مقومات العمران؟ بناء الإنسان والأسرة والمجتمع أم تشييد المباني والجسور والمصانع والسلاح فقط؟

س4: ما المقومات الخاصة للمشروع الإسلامي لتركيا الجديدة؟ وهل يقبل إخفاءه وتأجيل إعلانه؟ أم أن قوته تكمن في إعلانه والتعريف به وبيان مميزاته ومفاصلته عما سواه من المناهج الأرضية والاعتزاز، حتى يفهمه المجتمع ويؤمن به ويلتزم به ويضحي من أجله لأن من أهم خصوصيات الإسلام أن لا يقوم إلا على القناعة والإيمان وأكتاف أهله؟

س5: الاستمرار في الاندماج والتعايش تحت السقف الممنوح من النظام الدولي؟ أم استغلال البيئة الاستراتيجية الدولية الحالية ورفع السقف وكسر الحاجز، وفي ذلك فتوحات كبيرة لموارد وقدرات إسلامية عالمية راسخة ومنتشرة في كل مدن ودول العالم ولكنها كامنة تنتظر من يحيها ويوحدها ويحشدها نحو بوصلة المشروع الرابع الذي ينتظره العالم، ولا يتم ذلك إلا بمشروع وخطاب الهوية؟

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الهوية تركيا القومية المشاريع تركيا أردوغان مشاريع القومية الهوية مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأمة الإسلامیة الهویة الوطنیة الأمة الترکیة هویة الدولة على مشروع

إقرأ أيضاً:

نحن والسودان.. كيف فشلنا وأفشلناه؟

(هل نستطيع أن نضع القوانين فوق القادة والمبادئ فوق الرجال).. هكذا قال سيمون بوليفار عندما سئل عن سبب تخلف أميركا اللاتينية.

هذه المقولة للرئيس الفنزويلي السابق تمثل مدخلًا مناسبًا للإجابة عن أسئلة التخلف والفشل في بلادنا السودان، إذ لم يعد السؤال في حالنا هذه هو: هل فشلنا، بل هو كيف يمكن أن نتدارك خيباتنا الوطنية لنرنو نحو المستقبل، ونلحق بركب الحضارة بعد أن نستعيد الدولة من نتائج فشلنا الذي انتهى بنا إلى الحرب الشاملة، وإلى واقع اللجوء والنزوح وتوقف عجلة الإنتاج، بل ووقوف البلد نفسها على حافة عدم اليقين ومنزلق غياب الطمأنينة العامة؟

والمدخل الأمين للنظر نحو المستقبل إنما يبدأ بالاعتراف أولًا بالمخاطر التي تحيط بالوطن، وبأننا كنخبة بجميع مؤسساتها السبب المباشر في النتائج التي انتهينا إليها، ومن ثم لا بدّ من امتلاك قناعة يقينية بأن النهوض بالوطن وتجاوز محنته الحالية، ومعالجة معضلاته الموروثة، فريضة لازمة على الجميع، إذ لا يوجد خيار آخر غير العمل الشاقّ لاستعادة الدولة، واستئناف بنائها على أسس جديدة وسليمة هذه المرّة.

لقد أضافت الحرب الحالية تحديًا آخر فوق التحديات الموروثة لبناء النهضة الوطنية المنشودة، كما أن آثارها المدمرة من انتشار للسلاح خارج يد الجهات النظامية، وتفشي خطاب الكراهية البغيض، فضلًا عن التدمير المعنوي والمادي الممنهج لمقومات البناء تضع أثقالًا عظامًا على التيار الوطني المنوط به القيام بأعباء إعادة التعمير والنهضة.

إعلان

ولا شك أن نقطة البداية تنطلق من الإجابة الصريحة عن سؤال: لماذا فشلنا في بناء دولة مستقرة طوال عهد الحكم الوطني الممتد سبعين عامًا، وما هي العلة الرئيسية التي أبقتنا في منطقة التخلف ودائرة الفشل؟

في الحقيقة هما سببان بحسب أبوالقاسم حاج حمد (تتعلق الأولى بالتركيب الجغرافي السياسي، والثانية بالتركيب الاقتصادي)، ولكن ومن أجل أخذ العبر، وتوسيع دائرة البحث واقتراح الحلول الممكنة ننقل سياق هذه الأسئلة إلى فضاء أوسع؛ لنتعرف على فلسفة النهضة والفشل في صيرورة الأمم وتجاربها، فقد وفرت التجارب المختلفة عبرًا كثيرة ونماذج وافرة، وهناك نظريات علمية كانت سببًا لقصص النجاح ومعيارًا لمعرفة أسباب الفشل.

النظم والمؤسسات هي السبب

في العام الماضي 2024 أعلنت جائزة نوبل فوز الأكاديميَين؛ دارن عاصم أوغلو، وجيمس روبنسون بجائزة نوبل للاقتصاد عن كتابهما القيم (لماذا تفشل الأمم؟ أصول السلطة والازدهار والفقر)، وبعد دراسة متعمقة يستنتج الكاتبان أن نظريات، مثل: الموقع الجغرافي، والثقافة، والدين، والجهل ليست السبب في أصول الفقر لدولة ما، وتوصلا إلى (أن الدول تتفاوت وتختلف في حجم نجاحها وتفوقها الاقتصادي، بسبب اختلاف مؤسساتها والقواعد والنظم التي تؤثر في الطريقة التي تعمل بها تلك النظم).

وبما أنّ الدولة الحديثة تقوم على النظم، فإن هناك طريقتَين لتكوين وعمل هذه النظم الحديثة، فمقابل المؤسسات السياسية الشاملة والمنفتحة التي تعمل على توفير مجال مشاركة متكافئ للمواطنين، عبر توفير أقوى ضمانات حماية الملكية الخاصة، وجعلها آمنة (بحيث لا تتغول عليها لجنة حكومية) ونظام قانوني محايد وعادل، ونظام تعليمي تتحاشى مناهجه الدعاية السياسية، وتعمل على إنتاج المعرفة العلمية التي تقوم على التكنولوجيا والتحفيز، وتشجيع المنافسة الحرة.

مقابل كل ذلك تختار بعض النخب أن تبني نظمها على نموذج (المؤسسات السياسية الاستحواذية) التي تقوم ثقافتها على تركيز السلطة السياسية في يد نخبة محدودة منغلقة، غالبًا، على أيديولوجيا ضيقة، أو مستندة إلى أسس جهوية وقبلية، وفي كلتا الحالتين تتفنن في وضع القيود والضوابط على المجتمع لتحد من حريته وحركته، بينما تعمل في الوقت نفسه على تكديس الثروة في نطاقها السياسي والمجتمعي، وتقوم بتوظيف الموارد المتاحة؛ لتدعيم سلطتها الاستحواذية عبر بناء الترسانات الأمنية، بدلًا من مؤسسات التعليم والاستنارة.

إعلان

إن المشكلة الرئيسة التي عانى منها السودان، وكانت سببًا في عدم الاستقرار السياسي، وفي استمرار الحروب، هي هشاشة الدولة؛ نتيجة ضعف ثقافة بناء النظم والمؤسسات القوية التي تعمل كممسكات للمجتمع والدولة على السواء، ويعزى السبب في ذلك إلى عدم التراضي على مشروع وطني جامع عند الاستقلال؛ نتيجة تفشي الخلافات الذاتية، وسيطرة داء التعصب الذي – كما يقول منصور خالد – (لا يفسح أية مساحة للقاء مع الآخر المختلف، بل يدفع صاحب الرأي الذي لا يقبل الجدل إلى قمع الآخر).

ويرى أحمد خير المحامي أن الأرستقراطية الدينية والثقافية كانت عاملًا مهمًا من عوامل بناء النظم الوطنية بعد الاستقلال، (وهو ما عرّض جهازنا الحكومي لشر أنواع الأمراض الاجتماعية، وعرّض التجربة الديمقراطية للدكتاتورية البرلمانية)، هذه الأدواء الباكرة هي التي وسمت السياسة السودانية بميسمها حتى تمكنت من مفاصلها وخطابها، فأنتجت عقلًا إقصائيًا تدميريًا غايته (إما أن يكون الحكم لنا جميعًا، أو لا يكون لأحد).

ولذلك لم يكن مستغربًا موقف الزعيم الأزهري من الجمعية التشريعية التي كونها الحاكم العام الإنجليزي خواتيم الحكم الثنائي الإنجليزي المصري، لما رأى أن فكرة الجمعية التشريعية جاءت من خصمه السياسي، فكان رفضه لها ليس بسبب قضايا موضوعية، واختلاف حول نقاط يمكن أن تكون محلًا للنقاش، ولكنه يوصد الباب بقوة، مقررًا (لن ندخلها ولو جاءت مبرّأة من كل عيب).

ولعمري أن أي قفزة نحو المستقبل تحتاج إلى إصلاح البيئة الفكرية العامة؛ لأنها الأساس في إنتاج العقول المتسامية فوق الخلافات الحزبية الصغيرة، والنفاذ إلى النفع العام حتى ولو خالف هوى الفرد وانتماءاته الأخرى.

التغيير من الأعلى ضمان للنجاح

لقد انهارت كل التجارب الانتقالية نحو الديمقراطية في السودان، في وقت تشهد فيه القارة الأفريقية توجهًا تحرريًا من الإرث الدكتاتوري القديم، وتؤسس لتجارب ديمقراطية في طريقها للاستقرار والنمو.

إعلان

وبنظرة سريعة لبلدان، مثل: غانا، السنغال، وحتى نيجيريا، وكينيا بكل المآخذ التي يمكن ملاحظتها على تجاربها الانتخابية، نجد أن العوامل المشتركة في التمسك بالتطور الديمقراطي تتلخص في التخلص من النظم والأفكار التقليدية القديمة، والسعي لبناء نظم جديدة قائمة على سيادة حكم القانون، واحترام أحكام القضاء، وبناء منظومة قيم تحترم الكرامة الإنسانية، وحرية التعبير والتنظيم، وقبل ذلك بناء علاقة متوازنة بين القوى المدنية والمؤسسة العسكرية.

ونتيجة لهذا التوجه، نجد أن بلدًا مثل غانا، حيث استقرت فيه ولحد بعيد، تجربة الانتخابات وتغيير الرؤساء بصورة دورية، يشهد نموًا اقتصاديًا مزدهرًا ومتصاعدًا، إذ وقفت نسبة البطالة عند 5%، بينما تتوفر البلاد على احتياطي نقدي بلغ في العام الماضي 7 مليارات دولار.

وما يجعل هذه التجربة جديرة بالتأمل أنها قامت على نموذج التحول من الأعلى، حيث تكون الدولة هي صاحبة مشروع التغيير والتحول الديمقراطي. وقد قاد الجنرال جون رولينجز البلاد نحو الحرية بعد التوافق مع المعارضة على عملية سياسية شاملة تستوعب كافة المكونات السياسية وتستبعد الأيديولوجيات الإقصائية، مع التعهد بخروج المؤسسة العسكرية من العمل السياسي واحترام الدستور.

في السودان، كانت واحدة من أسباب الفشل أن التجارب اعتمدت على نموذج التحول من الأسفل، الذي تحاول أن تفرضه الجماهير على مؤسسات الدولة عبر الثورات. وهذا خيار عواقبه غير مضمونة، ونتائجه بادية للعيان في تجاربنا الفاشلة التي انتهت إلى التنازع بين مؤسسات الدولة، وبين القوى التي تريد التغيير، ولكنها في الغالب لا تملك له تصورًا قابلًا للتطبيق، ولا روحًا استيعابية تضمن بها انطلاق حوار وطني يستولد الحلول الواقعية والعملية، لإكمال الانتقال والوصول به إلى أهدافه النهائية.

إعلان الديمقراطية لا الأيديولوجيا

تحتاج النخبة السياسية بجميع توجهاتها أن تتخلّص من أفكارها الشمولية ومشاريعها الأيديولوجية، فتلك ثقافة صارت من مخلّفات الزمن القديم وتجاوزها العالم. كما أنها بحاجة إلى اعتناق عقيدة التغيير نحو الأفضل.

ومن أركان تلك العقيدة احترام الكرامة الإنسانية، وإطلاق الحريات الكاملة للمجتمع، والسعي لبناء دولة القانون، ومن ثم تشرع في بناء المؤسسات القائمة على المهنية والحياد، وتتأمل جيدًا في التجارب السابقة، وآخرها تجربة الانتقال التي انتهت إلى الحرب حين سيطرت عليها العقليات الإقصائية، والفكر الشمولي، والنزعة التسلّطية الانتقامية، بدلًا من روح التصالح الوطني واحترام القانون، والاهتمام ببناء الآليات الديمقراطية التي تحمي مسيرة الانتقال وتحدّ من سلطة الأفراد لصالح المؤسسات.

تم كل ذلك وسط تدخل أجنبي كثيف بأجندات خبيثة وماكرة، وجدت لها نصيرًا في الصف الوطني. ولذلك فإن هذه النخبة تحتاج أن تتذكر أن حماية سيادتنا الوطنية واجبة ومطلوبة، وفي الوقت نفسه نحن في أمسّ الحاجة إلى الالتفات لقضايانا الداخلية (ففيها من التحديات ما يكفينا).

ومن الواجب علينا إنتاج مفهوم للعلاقات الخارجية يقوم على القيم الإنسانية والمصالح البشرية التي تنشد التصالح، وتعمل على السلام والتعايش مع الآخرين على أساس المصالح المتبادلة، والتطلع نحو مستقبل الأسرة الإنسانية وأمنها وسلامتها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • الرئيس التركي: سنسخر إمكانياتنا لمساعدة الفلسطينيين قبل حلول شهر رمضان
  • وزير الآوقاف: التصوف الإسلامي العلاج الأمثل للنفس البشرية
  • وزير الأوقاف: التصوف الإسلامي العلاج الأمثل للنفس البشرية
  • وزير الأوقاف: التصوف الإسلامي العلاج الأمثل للنفس البشرية ومواجهة الشهوات
  • كاتب صحفي: الرئيس السيسي يهتم بالتعليم لدوره الجوهري في بناء الأجيال
  • الرئيس السيسي: التعليم حق أساسي من حقوق الإنسان وركيزة لتحقيق التنمية
  • نحن والسودان.. كيف فشلنا وأفشلناه؟
  • وزير الثقافة عن مبادرة الـ“مليون كتاب”: "نستثمر المعرفة لبناء الإنسان"
  • وزير الثقافة يدشن مبادرة مليون كتاب ويؤكد: نستثمر المعرفة لبناء الإنسان
  • «رسالة قوية».. الحزب العربي الديمقراطي الناصري يشيد بكلمة الرئيس السيسي في حفل عيد الشرطة